الخميس 17 يوليو 2025
في الزحام البارد لشوارع كمبالا، والضجيج الدافئ لأحياء القاهرة، تلتمس آلاف النساء السودانيات شيئًا من الطمأنينة، من البقاء، من الوطن الذي ابتلعه رماد الحرب. منذ اندلاع النزاع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في أبريل/ نيسان 2023، تشتت الملايين، ومعهم تاهت الأجساد في أمكنة لا تشبهها، في أزمنة لم تخترها. ومع الغربة، تتحول الحناء والدخان والمكياج التقليدي، التي قد تبدو للعين تفاصيل جمالية عابرة، إلى ما يشبه الحبال السرية التي تربط النساء بهويتهن، بأجسادهن، بحيواتهن كما عرفنها.
تُقدر مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) عدد من اضطروا للنزوح بأكثر من 11 مليون شخص، منهم 1.7 مليون لاجئ إلى دول الجوار، مثل مصر وأوغندا. وحدها أوغندا تستضيف حوالي 81,056 لاجئًا سودانيًا، وفقًا لتقديرات المفوضية حتى مايو/آيار 2025. في ظل هذا التشتت القاسي، تشكل الطقوس الجمالية مساحة رمزية للمقاومة، ومتنفسًا لاستعادة ما سُرق من النساء.
في الذاكرة السودانية الحناء طقس قدسي، يُرافق العرائس في عبورهن إلى الحياة الزوجية. أما "الدخان" – وهو استخدام خشب معين لتعطير الجسد في طقس حميمي طويل – فهو أقرب إلى احتضان ذاتي للجسد، ولطريقة تعبيره عن الراحة والرغبة والوجود. في سياقات اللجوء، تصبح هذه الممارسات أكثر من طقوس؛ تصبح مقاومة صامتة. لكن هذا الصمت ليس بلا ثمن. فالرطوبة العالية في أوغندا تُفسد ثبات الحناء، وارتفاع الأسعار ونُدرة المواد يحولان دون ممارستها، بينما ضيق المساحات وضعف خصوبتها في مساكن اللاجئين يجعل من الدخان رفاهًا شبه مستحيل.
الناشطة النسوية والباحثة عبير طه تقول في حديثها مع منصة جيسكا: "هذه الطقوس هي ممارسات جماعية تُعزز تماسكنا ووجودنا كنساء. هي طريقتنا لتحرير الأجساد من الرقابة الأبوية، وهذا يمنحها بُعدًا سياسيًا عميقًا".
تروي أمل يحيى (30 عاماً)، وهي لاجئة سودانية وأم لطفلة، تجربتها مع هذه الطقوس بكلمات لا تخلو من ألم وحنين: "عندما وصلت إلى أوغندا، تغير كل شيء. الحناء أصبحت باهظة الثمن ونادرة. الرطوبة تجعلها لا تثبت، وأعاني من حرارة في قدميّ، فلا أستطيع استخدام النُشادر. أصبح تطبيق الحناء مؤلمًا. أما الدخان، فمستحيل في مكان ضيق بلا تهوية. لكن عندما أضع الحناء، ولو مرة في الشهر، أشعر بأني أستعيد نفسي، أستعيد شيئًا من أنوثتي وهويتي. هذه الطقوس، خصوصًا للعرائس، تمنحنا شعورًا بالانتماء. لكن كثرة الهموم اليومية تجعل من ممارستها تحديًا حقيقيًا".
في سياقات اللجوء، تصبح هذه الممارسات أكثر من طقوس؛ تصبح مقاومة صامتة. لكن هذا الصمت ليس بلا ثمن
أما سحر عبد القادر (45 عامًا)، لاجئة في القاهرة فتقول لجيسكا: "ممارسة الدخان والحناء صارت صعبة جدًا. الشقق صغيرة ومزدحمة، ولا مجال للدخان. لا أقول إن الطقوس تُعالج الاغتراب، لكنها تميز المرأة السودانية، وتشكل مصدر دخل لها، خصوصًا المتزوجة. الثوب والخمرة والمشاط – كلها بطاقات هوية. في السابق، كان يُقال إن المرأة المتزوجة التي لا تضع حناء مهملة، أما اليوم فالمعيشة أصبحت أقسى. رغم ذلك، حتى الحنة الحمراء البسيطة يمكن أن تكون مقاومة".
من صالونات الجمال إلى مساحات التعافي
تقول الدكتورة إيناس هارون، مؤسسة مبادرة "تيجان النسائية" في كمبالا، في حوار مع جيسكا: "ندير صالون تجميل يعمل فيه تسع نساء، بين سودانيات وأوغنديات. بالنسبة لنا، الجمال حاجة إنسانية وجسر للتعافي. عندما تشعر المرأة بأنها جميلة، يزيد عطاؤها وتزدهر ثقتها. تعليم النساء الحناء والمكياج السوداني وسيلة لكسب الرزق، وأيضًا مساحة للتعبير عن الذات والهوية. بالطبع، هناك تحديات، مثل نقص المواد واختلاف الذوق الجمالي المحلي. لكننا بدأنا باستيراد المواد من الهند، ونوظف نساء من خلفيات مختلفة لنبني هذا الجسر الثقافي. زيارة الصالون بوصفه تجربة جمالية تنضوي على فرصة لترميم الروح والجسد".
بدأنا باستيراد المواد رغم التكلفة العالية، ونرى أن الاستثمار في الجمال هو أيضًا استثمار في الدمج الثقافي. نوظف نساء من خلفيات متعددة لنكون ذلك الجسر بين المجتمعين
وتضيف: "قبل أسبوعين، نظمنا مهرجانًا لعرض مشاريع النساء. كانت لحظة فخر وأمل لهن. إحدى النساء قالت لي إنها للمرة الأولى منذ الحرب شعرت بأنها مرئية ومقدّرة".
لكن ليس النساء فقط من يرون في هذه الطقوس معنى عميقًا. الضو حمد (40 عاماً)، لاجئ في أوغندا، يقول في حديثه للمنصة: "عندما أرى زوجتي تمارس طقوس الحناء، أشعر أنها تحافظ على جزء من وطننا. هذه الطقوس تجعلنا نحس أننا لم نفقد كل شيء".
يضيف أحمد ياسر (24 عاماً) في مقابلة أخرى: "أشعر بانجذاب غير واعٍ حين أرى النساء يمارسن هذه الطقوس. الحناء والدخان والمشاط تميزهن، وتُشعرني بأني في بيئة أعرفها، أحبها، أشعر بها وبطاقة هوية".
رغم كل التحديات، تواصل اللاجئات السودانيات إعادة اختراع طقوس الجمال. في الشتات وفي أوغندا خاصة، تنظم "مؤسسة تيجان النسائية" ورش عمل تُدرّب النساء على فنون الحناء والمكياج وصناعة الإكسسوارات، ما يمنحهن مهارات عملية وشبكة دعم. تقول فاطمة علي، إحدى منسقات الورش، في حديثها مع جيسكا: "نمنح النساء شيئًا من الأمل في استعادة أنفسهن، في زمن سُلبت منهن فيه أشياء كثيرة".
تتماشى هذه المبادرات مع جهود منظمات دولية، مثل: "Education Cannot Wait" التي تدعم التدريب المهني وتمكين النساء. وفي مخيمات مثل كرياندونغو، تساهم مفوضية اللاجئين (UNHCR) في توفير بنية تحتية تسمح بمساحات تدريبية ومجتمعية، وكذلك جهود منظمات سودانية كبيرة من قبيل: "منظمة وعي" التي أسست عبر مشاريع مجتمع نساء وعي ومجتمع شباب كرياندونقو مساحات بديعة، لتدريب وتأهيل اللاجئين واللاجئات السودانيات، ودار مهيئة ومخصصة لكل مجتمع فيهما. لكن التحديات لا تنتهي؛ إذ تواجه النساء صعوبة في إقناع المجتمعات المضيفة بقيمة هذه الطقوس.
تُعيد اللاجئات السودانيات خلق خريطة أجسادهن في المنفى، وتُثبتن أن الجسد هو ما نحمله وما نحيا به، وما نُقاوم عبره، وما نحب ونشتاق ونحلم من خلاله. في طقوس الجمال تلك، يكمن وطنٌ صغير، هشّ، لكنه حقيقي
تقول إيناس هارون: "إقناع زبونة أوغندية بتجربة الدخان يحتاج جهدًا وتوعية. الجمال السوداني له هوية مختلفة. بدأنا باستيراد المواد رغم التكلفة العالية، ونرى أن الاستثمار في الجمال هو أيضًا استثمار في الدمج الثقافي. نوظف نساء من خلفيات متعددة لنكون ذلك الجسر بين المجتمعين. تدريجيًا، بدأنا نكسب ثقة المجتمع المحلي".
ولتعويض النقص في المواد، تلجأ بعض النساء إلى بدائل محلية، أو إلى تشكيل مجموعات دعم عبر فيسبوك لتبادل الوصفات والمصادر. تقول عبير طه: "الطقوس الجمالية تُحرر أجسادنا من الرقابة، وتُعيد إلينا الإحساس بوجودنا. هي ليست ترفًا، بل ضرورة إنسانية وسياسية في آن".
في النهاية، يتبلور سحر الحناء والدخان كأدوات تعبير وهوية ومقاومة. عبر هذه الطقوس، تُعيد اللاجئات السودانيات خلق خريطة أجسادهن في المنفى، وتُثبتن أن الجسد هو ما نحمله وما نحيا به، وما نُقاوم عبره، وما نحب ونشتاق ونحلم من خلاله. في طقوس الجمال تلك، يكمن وطنٌ صغير، هشّ، لكنه حقيقي.