السبت 17 مايو 2025
منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الفلسطيني في أكتوبر / تشرين الأول 2023، أظهر العالم تعاطفا متزايدا مع المحنة الفلسطينية، التي خلفت أكثر من 51 ألف شهيد حتى الآن، إضافة إلى عشرات الآلاف من المصابين والجرحى، وبدأ الرأي العام العالمي لاسيما داخل الولايات المتحدة، يظهر انحيازا لمطالب وقف إطلاق النار، إلا أن مجموعات من الأمريكيين من أصول أفريقية أعلنوا تأييدهم للموقف الأمريكي الرسمي الداعم لإسرائيل على طول الخط.
تُظهر استطلاعات الرأي التي أجراها مركز كارنيغي الأمريكي، عقب اندلاع الحرب على غزة 2023، أن 40٪ من الأمريكيين السود كانوا مؤيدين لمقترح إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن تزويد إسرائيل بمساعدات عسكرية إضافية، كما أن أكثر من 30٪ ممن شملهم الاستطلاع طالبوا بإرسال قوات أمريكية لمساعدة إسرائيل. ليس هذا فحسب، بل إن موقف بعض الأفروأمريكان تعارض حتى مع موقف بعض اليهود الأمريكيين، الذي يرى 40٪ منهم، ممن هم دون سن الأربعين، أن "إسرائيل دولة فصل عنصري"، وفق استطلاع رأي أجراه معهد الناخبين اليهود عام 2021.
يمكن العودة إلى الوراء قليلا، لفهم الحالة السابقة، وتحديدا إلى بدايات القرن العشرين، حين كانت الحركة الصهيونية، تروج لأفكارها الأولى، المتعقلة بحلم العودة والوطن القومي لليهود والحقوق التاريخية في أرض فلسطين، وقد تزامن ذلك مع تفاقم الأوضاع التي يواجهها أفارقة الشتات، لاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ لم يكن مسموحا لهم بأية حقوق في التعليم أو الصحة أو حتى الخدمات العامة، وكانوا معرضين للاعتقال أو التنكيل في كل وقت وأمام أي سبب.
أمام الدعايات الصهيونية التي روجت للمظلومية وحق العودة، سقط عدد من قادة الحركة القومية الأفريقية في الخارج، والتي كانت تطمح هي الأخرى إلى منح السود في العالم الجديد كامل حقوقهم مساواة مع البيض، في فخ المزاعم الصهيونية، التي ترتكن إلى ادعاءات زائفة، وتفسيرات دينية منزوعة من سياقها، إلا أن عددا منهم لم يكتف بذلك بل تعالت أصواتهم للمطالبة بحق العودة إلى أفريقيا، وأن تكون أفريقيا للسود وحدهم، مع ترويج دعوات عنصرية مشابهة لما عانى منه الأفارقة في الشتات طوال العقود التي سبقت إلغاء الفصل العنصري.
يشرح الباحث بنيامين نويبرغ، في ورقة بحثية له جذور هذه العلاقة، مشيرا إلى أنه على الرغم من انحياز الدول الأفريقية للموقف العربي والفلسطيني حاليا، إلا أن عددا من المفكرين الأفارقة أبدى تعاطفا مع الأفكار الصهيونية، خاصة الذين تأثروا بحق العودة اليهودي، وطالبوا بتكرار التجربة مع الأفارقة، عبر العودة لأراضي أجدادهم في القارة السمراء.
نويبرغ الذي شغل في وقت ما منصب، رئيس برنامج دراسات الديمقراطية في الجامعة الإسرائيلية المفتوحة بتل أبيب، يشير إلى أن منظري القومية السوداء، والتي يسميها بـ"الصهيونية السوداء" ربطوا معاناة العبودية التي لقاها اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية، وبين السبي البابلي، وما عناه اليهود في مصر قبل الخروج، والتي تشبه إلى حد كبير ما عاناه الأفارقة المرحلون كعبيد من القارة.
أمام الدعايات الصهيونية التي روجت للمظلومية وحق العودة، سقط عدد من قادة الحركة القومية الأفريقية في الخارج، والتي كانت تطمح هي الأخرى إلى منح السود في العالم الجديد كامل حقوقهم مساواة مع البيض، في فخ المزاعم الصهيونية، التي ترتكن إلى ادعاءات زائفة وتفسيرات دينية منزوعة من سياقها
يستشهد نويبرغ، بكتابات المفكر الأفريقي، إدوارد بلايدن، الذي ربط بين أغاني "الأسرى العبرانيين على ضفاف بابل" وأغاني السود "بالقرب من نهري أوهايو والمسيسيبي، والتي تشابهت في "الشعور والشخصية".
لم يقف الأمر عند كتابات بلايدن بل ظهرت كتابات أكثر تعاطفا لدى ماركوس غارفي، الملقب بمؤسس الصهـيونية السوداء، والذي أعلن أنه "إذا كان هتلر يكره اليهود، فهو يكره السود أيضًا". كما قاد غارفي حملات دعائية في عشرينيات القرن الماضي في الأحياء الفقيرة للسود، تحت شعار "أفريقيا للأفارقة، وآسيا للآسيويين، وفلسطين لليهود".
كما كانت كتابات المفكر الأفريقي دبليو. إي. بي. دو بوا، مليئة بالتعليقات "الصهيونية"، حتى أنه في اليوم الذي أعلنت فيه إسرائيل دولتها، كتب مقالًا مؤثرًا في صحيفة "شيكاغو ستار" حول حق إسرائيل في الاستقلال، وانتقد الغزو العربي والتردد الأمريكي.
لم تقف حالة التأثر بالأفكار الصهيونية على حد الدعايات بل سعى الناشط الجامايكي من أصول أفريقية، ماركوس غارفي، إلى تطبيق أفكار العودة إلى أفريقيا، على غرار ما فعلته الجماعات الصهيونية في إسرائيل، حيث أسس غارفي مجموعة من الصحف والشركات للترويج لهذه الفكرة، كان أبرزها شركة "بلاك ستار" للشحن، وصحيفة "Negro World"، والتي كانت تهدف إلى إقامة رابط بين أمريكا الشمالية وأفريقيا، وتسهيل هجرة الأمريكيين من أصل أفريقي إلى ليبيريا، كما قامت شركته "النجم الأسود" بتسيير رحلات بحرية بالفعل بين الولايات المتحدة وليبيريا.
كان غارفي يرى أن أفريقيا هي أرض الميعاد الأفريقية، التي يجب أن يسكنها العرق الزنجي فقط، وأن الأعراق الأخرى يجب أن تطرد منها، حتى الملونين من سكانها يراهم عنصرا مختلطا وفاقدا للهوية، حتى أنه هاجم المفكر دبليو إي بي دو بوا، واتهمه بتشجيع الاندماج وتمازج الأجناس البشرية، عبر الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين ( National Association for the Advancement of Colored People) NAACP، وهو ما وصفه غارفي بـ"عقيدة تدمير العرق" متمسكا بفكرته المتمثلة في "فخر ونقاء العرق".
على الرغم من أن كلمة زنجي كانت تستخدم في الولايات المتحدة باعتبارها وصفا عنصريا ضد المواطنين السود في السابق، إلا أن غارفي دافع عن الكلمة، زاعما أنها مصدر فخر لأصحابها، من ذوي البشرة السمراء. وأصر هو والاتحاد الدولي للملكية الفكرية على ضرورة كتابة هذا المصطلح بأحرف كبيرة، وأطلق اسم "الزنجي" على جريدته Negro World، مبررًا ذلك بأنها ستكون "صوت الزنجي في كل مكان في العالم".
في بدايات القرن العشرين، وبينما الحركة الصهيونية، تروج لأفكارها الأولى، المتعقلة بحلم العودة، والوطن القومي لليهود والحقوق التاريخية في أرض فلسطين، تزامن ذلك مع تفاقم الأوضاع التي يواجهها أفارقة الشتات لاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية
اتساقا مع رؤيته للعرق الأسود والانفصال العرقي، تصور غارفي شكلاً من أشكال المسيحية مصمم خصيصًا للأفارقة السود، وهو نوع من الديانة السوداء، بما يعكس وجهة نظره الخاصة للدين، إذ أنه أراد أن تكون المسيحية المتمركزة حول السود أقرب ما تكون إلى الكاثوليكية قدر الإمكان، وشدد على فكرة عبادة السود لإله تم تصويره أيضًا على أنه أسود. عن ذلك يقول: "في حين أن إلهنا ليس له لون، إلا أنه من الطبيعي أن يرى المرء كل شيء من خلال نظاراته الخاصة، وبما أن الناس البيض رأوا إلههم من خلال نظارات بيضاء، فقد بدأنا الآن فقط (على الرغم من أنه كان متأخرًا) في رؤية إلهنا من خلال نظاراتنا".
لم تقف دعوات غارفي على حد إطلاق مثل هذه الدعوات بين المواطنين من أصول أفريقية في الخارج، بل تحالف مع جماعة "كو كلوكس كلان"، أحد أكثر الجماعات البيضاء تطرفا ضد السود، والتي بنيت سمعتها على تخويف السود والدعوة إلى قتلهم، إذ كان يرى أنه هذه الدعوة تخدم أفكاره، فكما أن جماعة كلوكس تؤمن بتفوق العرق البروتستانتي الأبيض على غيره من الأعراق والديانات، كان يرى هو أيضا تفوق العرق الأسود.
بالرغم من أن غارفي لم يعتبر نفسه صاحب رؤية دينية، إلا أن أتباعه كانوا ينظرون إليه على هذا النحو، حتى أن بعضهم اعتبره بمثابة تناسخ للنبي موسى، ووصفه معبد العلوم المغاربي الأمريكي بأنه نبي أقرب إلى يوحنا المعمدان، فيما اعتبره آخرون شخصية يسوع المخلص، ورغم أنه عاش حياته يطالب بالعودة إلى أرض الميعاد في أفريقيا إلا أنه لم يفعل ومات في لندن، دون أن يزور أفريقيا ولو مرة واحدة.
على الرغم من عدم رواج مثل تلك الدعايات في القارة الأفريقية، خاصة خلال الفترة التي أعقبت الاستقلال، إلا أن إسرائيل سعت لتوظيف نفس الشعارات للتوغل بين الشعوب الأفريقية، عبر الترويج لدعاياتها مشابهة، إذ لعبت المنظمات الإسرائيلية دورًا بارزًا في بناء علاقات مع النخب الأفريقية حتى قبل مرحلة الاستقلال، وكان من أبرز هذه المنظمات "الهستدروت" أو اتحاد أصحاب العمل الإسرائيلي، الذي عمل التواصل مع الاتحادات العمالية الأفريقية، وبناء ورابط مع قيادات حركات التحرر الأفريقية.
كان من ثمار هذا التواصل تدشين بعثة قنصلية إسرائيلية في العاصمة الغانية أكرا عشية الاحتفال باستقلال غانا، إذ يشير الباحث اليهودري نويبرغر، في ورقته السابق الإشارة إليها، إلى أن الزعيم الغاني كوامي نكروما، اصطحب نظيره الإسرائيلي موشيه ديان في أول زيارة له لأكرا عام 1957، في جولة داخل قلعة كريستيانبورغ الغانية، التي كانت في السابق محطة لتجارة الرقيق، وبينما كانا يتجولان عبر زنازين الاحتجاز وغرف التعذيب، قال نكروما لديان: "لقد قطعنا شوطًا طويلاً أيضًا".
يشير إلى أن منظري القومية السوداء، والتي يسميها بـ"الصهيونية السوداء" ربطوا معاناة العبودية التي لقاها اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية، وبين السبي البابلي، وما عناه اليهود في مصر قبل الخروج، والتي تشبه إلى حد كبير ما عاناه الأفارقة المرحلون عبيدا من القارة
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل عملت وزارة الخارجية الإسرائيلية على توظيف كافة أدواتها لضمان قيام علاقات دبلوماسية من الدول الأفريقية حديثة الاستقلال، في محاولة لفك العزلة المفروض على تل أبيب. كما لعبت وكالة ماشاف الإسرائيلية التابعة لوزارة الخارجية، أدوارا مشابهة، إذ يشير الباحث ياسر أبو الحسن في ورقة بحثية له إلى أن تل أبيب عملت خلال العقود الماضية على التوغل بين المجتمعات المحلية الأفريقية، لاسيما التي عاشت أوضاعا قاسية، كما هو الحال مع إقليم دارفور السوداني، مشير إلى أن العمل الإنساني الإسرائيلي كانت له أغراض أخرى، تلتقى مع مزاعم الصهيونية وسياسيات تل أبيب التوسعية.
يشير الباحث إلى أن المنظمات الإسرائيلية قدمت خدماتها في يقرب من 40 دولة أفريقية حتى الآن، حيث حرصت تل أبيب على تشكيل شبكة واسعة، تدار من قبل أجهزتها الاستخباراتية، لتحييد الأفارقة عن مساندة ودعم القضية الفلسطينية، أو على الأقل تحييدهم عن التفاعل مع موجات العدوان المتكررة على فلسطين.
لكن، وبالرغم من أن الدعايات الصهيونية وجدت لنفسها مكانا بين القوميين الأفارقة في وقت ما، إلا أن فصول الصراع أثبتت انحيازا واضحا للمحنة الفلسطينية، كان آخرها قرار رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، بطرد السفير الإسرائيلي لدى إثيوبيا من فعاليات إحياء ذكرى الإبادة الجماعية التي احتضنتها العاصمة الإثيوبية في 7 أبريل/نيسان الجاري، احتجاجا على جرائم إسرائيل في الأراضي الفلسطينية.