الأربعاء 19 نوفمبر 2025
لم تعد كينيا تُعرف فقط بكونها مركزًا اقتصاديًا وسياحيًا في شرق أفريقيا، بل بات اسمها يتردد عالميًا كأحد أخطر محاور تجارة الأعضاء البشرية، خلف الواجهة اللامعة للعاصمة نيروبي، تنشط شبكات معقدة تمتد من أحياء الفقراء إلى مستشفيات خاصة، ومنها إلى أسواق تمتد حتى أوروبا وآسيا. هنا، يتحول جسد الفقير إلى سلعة، ويغدو الألم البشري وقودًا لشبكة عابرة للحدود تجني أرباحًا هائلة مستغلة الاحتياجات الاقتصادية للفئات الأكثر هشاشة.
ارتبط مشهد تجارة الأعضاء البشرية باسم كينيا مؤخرًا عبر ما يسمى بـ "سياحة زراعة الأعضاء"، وهي ظاهرة يقصد فيها الأفراد دولًا بعينها لإجراء عمليات زرع أعضاء بشرية بطرق خارجة عن الأطر القانونية. في هذا السياق، يسعى مرضى أثرياء من أوروبا وإسرائيل وروسيا إلى التوجه نحو كينيا متجاوزين قوائم الانتظار الطويلة في بلدانهم، وإجراء العمليات خلال أسابيع قليلة، قد تتراوح بين الأربعة إلى ستة أسابيع فقط، ما جعل البلاد سوقًا بديلًا لتلبية الطلب العالمي على الأعضاء البشرية.
بداية، تنطلق تجارة الأعضاء في كينيا من الأحياء الفقيرة في نيروبي وكيسومو وإلدوريت، حيث يستهدف الوسطاء الشباب العاطلين عن العمل أو الغارقين في الديون، يُغرى هؤلاء بمبالغ مالية تبدو كبيرة مقارنة بواقعهم، لكنها في الحقيقة زهيدة أمام ما تجنيه الشبكات من بيع الأعضاء للمرضى الأجانب. حيث يحصل هؤلاء الشباب غالبًا على مبالغ تتراوح ما بين (2000 إلى 5000) دولار مقابل كليتهم، في حين تصل ثمن الكلية حوالي 200 ألف دولار في السوق السوداء، وغالبًا ما تكون الاتفاقات شفوية أو غامضة، ما يترك المتبرعين بلا أي حقوق بعد العملية.
هذا التفاوت الهائل والمريع بين ما يتقاضاه المتبرع وهامش أرباح المتاجرين يعكس بحسرة مدى استغلال هشاشة الفئات الفقيرة في كينيا، ويجسد الهوة الشاسعة بين معاناة الضحايا وطموحات الشبكات الإجرامية التجارية التي تستثمر الألم والاحتياج لتحقيق مكاسب خيالية، دون أي اعتبار للجانب الإنساني والأخلاقي.
كشفت التقارير الرسمية الصادرة عن السلطة الكينية أن 62 مريضًا إسرائيليًا خضعوا لعمليات زرع منذ عام 2018، بينما جرى تسجيل 50 متبرعًا من أذربيجان في مستشفى ميديهيل
في حين كانت العمليات في بداياتها تقتصر على أثرياء من الصومال مقابل متبرعين فقراء من كينيا، لكن سرعان ما اتسع النطاق ليشمل شبكة دولية عابرة للحدود تضم مانحين ومستفيدين من القوقاز وأوروبا والشرق الأوسط. وقد أشارت تحقيقات إعلامية ألمانية، شاركت فيها مؤسسات مثل: دير شبيغل وDW وZDF، إلى أن هذه الشبكة يديرها أشخاص نافذون سياسيًا واقتصاديًا، من بينهم سواروب ميشرا، مؤسس مستشفى "ميديهيل" في مدينة إلدوريت، الواقعة في غرب البلاد، وعضو البرلمان الكيني السابق، الذي يتمتع بعلاقات وثيقة مع السلطة السياسية في نيروبي.
يشكل مستشفى "ميديهيل" معقل رئيسي في شبكة تجارة الأعضاء البشرية، حيث أظهرت تحقيقات هيئة نقل الدم وزراعة الأعضاء الكينية (KBTTS) وتقارير رسمية صادرة عن وزارة الصحة الكينية بين 2023 و2024، وجود نشاط مشبوه في المستشفى، فبحسب التحقيقات، نفّذ المستشفى ما لا يقل عن 372 عملية زرع كلى بين عامي 2018 و2023، معظمها اعتمد على متبرعين فقراء من داخل كينيا أُغريوا بمبالغ زهيدة لا تكاد تغطي تكاليف المعيشة.
ومن بين الأدلة التي عززت الشبهات حول نشاط المستشفى، ما كشفته تحقيقات السلطات الكينية في يوليو/ تموز الماضي، عن جدول عمليات غير واقعي، إذ تبين أن جراحًا واحدًا وطبيب تخدير واحدًا أجريا خلال فترة وجيزة لا تتجاوز 14 يومًا في ديسمبر/كانون الأول 2024، ما يقارب 24 عملية زرع، وهو رقم اعتُبر دليلاً واضحًا على وجود تجاوزات وارتباط محتمل بأنشطة الاتجار بالأعضاء.
المثير أن كثيرًا من هؤلاء المتبرعين تحولوا لاحقًا إلى مجندين ووكلاء لصالح مراكز مثل "ميديهيل"، يتقاضون عمولات مقابل جلب متبرعين جدد
كما تحوّل المستشفى إلى مقصد رئيسي للمرضى الأجانب، ولا سيما من إسرائيل وألمانيا، فقد كشفت التقارير الرسمية الصادرة عن السلطة الكينية أن 62 مريضًا إسرائيليًا خضعوا لعمليات زرع منذ عام 2018، بينما جرى تسجيل 50 متبرعًا من أذربيجان، في حين بقيت جنسية أكثر من خُمس المتبرعين والمستفيدين مجهولة، وهو ما يعكس مدى انغماس هذه المؤسسة في عمليات تجارة الأعضاء غير الشرعية.
ونتيجة لتزايد الضغط الإعلامي والفضائح الدولية دفع الحكومة الكينية في أبريل/ نيسان 2025 إلى تعليق عمليات زرع الكلى في مستشفى "ميديهيل"، وفُتح لجنة تحقيق لمراجعة جميع العمليات التي أُجريت خلال السنوات الخمس الماضية. جاء هذا القرار كخطوة متأخرة للحد من شبكة معقّدة تستغل الفقر المحلي والطلب الخارجي.
من اللافت أنّ هذه التجارة لا تقتصر على المراكز الطبية الكبرى، ففي بلدة أويوجيس الصغيرة، التي لا يتجاوز عدد سكانها 50 ألفًا، وثّق الباحث ويليس أوكومو أكثر من 100 حالة بيع كلى. المثير أن كثيرًا من هؤلاء المتبرعين تحولوا لاحقًا إلى مجندين ووكلاء لصالح مراكز مثل "ميديهيل"، يتقاضون عمولات مقابل جلب متبرعين جدد، هذا النمط يؤسس دوائر استغلال محلية تغذي الشبكة الكبرى، وتُدخل الفقراء في حلقة لا تنتهي من الاستغلال.
بجانب مستشفى مديهيل، تتورط أذرع أخرى قد تكون أكثر خطورة وتعقيدًا في تجارة الأعضاء البشرية في كينيا، وتتمثل في شركة ميدلياد. وهي شركة برزت قبل سنوات قليلة عبر موقع إلكتروني موجه بالأساس للمرضى الألمان، لم تكن تقدم نفسها كمؤسسة طبية تقليدية، بل كمنصة تَعِد بحلول سريعة لزراعة الكلى في غضون أسابيع محدودة، وهو خطاب تسويقي موجّه بعناية لفئة مرضى تبحث عن بدائل خارج أنظمتها الصحية الرسمية، وتتخذ هذه المنصة من مدينة إلدوريت الكينية مقرًا لها لإجراء العمليات الجراحية.
في السياق ذاته، أبرزت طريقة عمل الشبكة انتقال تجارة الأعضاء إلى نموذج "الخدمات المتكاملة". فميدلياد لم تكتفِ بوساطة بين متبرع ومريض، بل عرضت باقات تشمل السفر والإقامة والتجهيز الطبي الكامل، مستقدمة متبرعين من دول مثل أذربيجان وكازاخستان وباكستان إلى كينيا، حيث يُجرى استئصال الأعضاء في عيادات محلية تعمل كغطاء، وذلك وفقًا لمجلة دي شبيغل الألمانية. بهذا تحولت مدن مثل إلدوريت إلى عقدة مركزية في شبكة تمتد من آسيا الوسطى إلى أوروبا الغربية، مستفيدة من ثغرات الرقابة وضعف البنية القانونية الكينية.
يتحول الجسد إلى وسيلة أخيرة للنجاة، وتغدو الحاجة الملحّة للمال مدخلًا مباشرًا لشبكات الاتجار. ويزداد الوضع خطورة مع التفاوت الصارخ بين أسعار السوق الدولية والمحلية
في صلب هذه الشبكة، يبرز الإسرائيلي روبرت شبولانسكي، مدير شركة ميدليد المعروف في أوساط مكافحة هذه التجارة الدولية بضلوعه في شبكة عالمية واسعة لتجارة الأعضاء البشرية. وقد ارتبط شبولانسكي منذ عام 2016 بلائحة اتهام في تل أبيب بتشكيل شبكة دولية نفذت عشرات عمليات زرع كلى غير قانونية في دول مثل سريلانكا وتايلاند وتركيا، بعد اختفائه لفترة من الظهور العلني، أعيد رصد نشاط شبولانسكي في كينيا منذ حوالي عام 2020، حيث استغل المناخ الاقتصادي الهش في البلاد ووجود ضعف الرقابة لتوسيع نفوذه.
علاوة على ذلك، يرتبط شبولانسكي بالأب الروحي لمافيا الأعضاء في أمريكا اللاتينية وأوكرانيا وكوسوفو وهو بوريس وولفمان، ما يعكس الطبيعة المتشابكة والعابرة للحدود لهذه التجارة الإجرامية، فلم تعد كينيا مجرد مشكلة داخلية، بل جزءًا من اقتصاد أسود عابر للقارات، يصعب تفكيكه دون تعاون دولي ورقابة عابرة للحدود.
لم يكن اختيار كينيا مركزا إقليميا لتجارة الأعضاء البشرية وليد الصدفة، بل نتاج تفاعل عوامل متشابكة في مقدمتها هشاشة الأوضاع الاقتصادية. فالبلاد ما تزال تعاني من معدلات فقر مرتفعة، حيث يعيش أكثر من 14 مليون شخص – أي نحو 26٪ من السكان – في فقر مدقع بحسب تقديرات الأمم المتحدة والبنك الدولي لعام 2025. في ظل هذا الواقع، يتحول الجسد إلى وسيلة أخيرة للنجاة، وتغدو الحاجة الملحّة للمال مدخلًا مباشرًا لشبكات الاتجار. ويزداد الوضع خطورة مع التفاوت الصارخ بين أسعار السوق الدولية والمحلية.
لكن الجانب الاقتصادي ليس وحده ما يفسر الظاهرة، فالثغرات القانونية أسهمت في تعزيزها، فعلى الرغم من أن قانون الصحة الكيني لعام 2017 يجيز التبرع بالكلى فقط للأقارب أو لأغراض علمية ضمن ضوابط صارمة، إلا أنه لا يجرم صراحة البيع التجاري للأعضاء، مما خلق مساحة رمادية تستغلها تلك الشبكات.
فضلاً عن ذلك، تلعب السياسة الكينية دورًا مهمًا في استمرار هذه التجارة. أبرز مثال هو سواروب رانجان ميشرا، الطبيب الهندي الأصل الذي أسس مجموعة مستشفيات "ميديهيل" وأصبح لاحقًا نائبًا في البرلمان الكيني عام 2017. في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، عيّنه الرئيس ويليام روتو رئيسًا لمعهد "كينيا بيوفاكس"، مما عزز نفوذه وصلاته مع منظمة الصحة العالمية وحكومات أجنبية. هذا النفوذ السياسي منح شبكات الأعضاء نوعًا من الحماية غير المباشرة، حيث صار من الصعب التحقيق في أنشطة مراكز طبية مرتبطة بشخصيات على هذا المستوى.
إلى جانب ذلك، ساعدت الأدوات الرقمية على تسهيل عمليات الوساطة والتواصل بين الأطراف. بعض المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي تقدّم خدمات "طبية" مزيفة، تعرض قصص نجاح، ثم تحيل العملاء إلى قنوات مغلقة عبر واتساب أو تيليغرام، حيث تتم المفاوضات المالية بسرية. هذه الرقمنة منحت الشبكات قدرة أكبر على التخفي، وجعلت تتبعها أصعب على الأجهزة الأمنية.
في المحصلة، يكشف المشهد الكيني عن شبكة معقدة يتداخل فيها الفقر مع الثغرات القانونية والتواطؤ السياسي، لتتحول البلاد إلى نقطة ارتكاز لتجارة الأعضاء البشرية في المنطقة. فبينما يبيع الفقراء أعضاءهم تحت وطأة الحاجة مقابل مبالغ زهيدة، تجني المستشفيات الخاصة والوسطاء أرباحًا بمئات الآلاف من الدولارات، في مفارقة صارخة تختصر الفجوة بين الضحايا والمستفيدين. ومع انكشاف فضائح "ميديهيل" وعودة أسماء بارزة مثل شبولانسكي إلى الواجهة، يتضح أن القضية ليست مجرد انحرافات فردية، بل تعبير عن منظومة عابرة للحدود تستغل هشاشة الدولة وضعف الرقابة.
إن معالجة الظاهرة في كينيا لا تقتصر على فرض القيود الطبية أو ملاحقة بعض الوسطاء، بل تتطلب إعادة نظر شاملة في السياسات الاجتماعية والاقتصادية، وتعزيز الأطر القانونية والرقابية، وقطع صلات النفوذ التي تمنح هذه الشبكات غطاءً سياسيًا. فإلى أن يحدث ذلك، ستظل تجارة الأعضاء تجسيدًا مؤلمًا لتحوّل الأجساد إلى أوراق مقايضة في سوق عالمية لا تعترف بحدود ولا بقيم إنسانية.