السبت 8 نوفمبر 2025
لا تزال أفريقيا، في نظر بقية العالم، قارةً عصيّة على الفهم، وغالبًا ما تُشوَّه صورتها في النقاشات العالمية، سواء في أعمال الباحثين الأفارقة و"الأفرقانِيّين"، أو في تقارير الصحفيين، أو في مذكرات العاملين في الإغاثة. يميل كثيرون إلى النظر إلى أفريقيا بوصفها حالةً استثنائية تُعرّفها "اختلافيتها". ثمّة لا تناظرٌ يطبع الطريقة التي يصف بها الناس الأفارقة وغير الأفارقة في هذه القارة؛ فبلجيكا (بما فيها من توتراتٍ مزمنة بين الناطقين بالفرنسية والفلامانية)، وكندا (حيث تنبعث بين الحين والآخر نزعة انفصالية كيبيكية حادة)، وروسيا (التي تُقسّم فيها أقليات إثنية كثيرة على جمهوريات على نحوٍ ملتبس) تُرى اتحاداتٍ متعددة القوميات؛ بينما تُصنّف جمهورية الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا ونيجيريا ساحاتٍ لما يُسمّى "بناء الأمة"، حيث ينبغي "صهر قبائل شتّى" في أمم. ما يُعدّ فيدراليةً في أماكن أخرى يصير "قبليةً" حين يتعلّق الأمر بأفريقيا.
وحتى أفريقيا بوصفها مفهومًا جغرافيًا تظل محمّلة بالإشكالات. فالقارة كثيرًا ما تُقسَّم بين "شمال أفريقيا" و"أفريقيا جنوب الصحراء"، تمييزٌ يعود إلى القرن التاسع عشر ومتجذّر في معتقداتٍ عنصرية بشأن "اختلافات" مفترضة بين الجماعات في الشمال وبين من كان يُسمّى آنذاك "أفريقيا السوداء". فقد سمّى الفيلسوف الألماني غيورغ هيغل الجزءَ الشمالي "أفريقيا الأوروبية"، لشدّ الإرث الثقافي لمصر إلى أوروبا، وهو ينكر في الوقت نفسه أن تكون أفريقيا قد شاركت قط في حركة التاريخ. إن استمرار هذا التقسيم يرسّخ تشطيرًا غير مبرّر للقارة في المخيال العالمي.
تُدفع أفريقيا، كذلك، إلى خارج الزمن. فهي القارة الوحيدة التي يرضى كثيرٌ من المثقفين باختزال تاريخها في ثلاث مراحل فحسب، مرحلةٌ ما قبل استعمارية طويلة، ومرحلة استعمارية قصيرة نسبيًا، ومرحلة ما بعد استعمارية ممتدة. وبذلك يدور القوس التاريخي الأفريقي كله حول محورٍ واحد؛ الغزو الأوروبي لمعظم القارة أواخر القرن التاسع عشر. قارن هذه النظرة بما يُفعل بتاريخ أوروبا؛ إذ يقسمه المؤرخون إلى حقبٍ متنوّعة من العصور الكلاسيكية إلى ما يُسمّى "العصور المظلمة"، ثم العصور الوسطى، فالنهضة، وهلمّ جرًّا. لا أحد يتجرأ على تاريخ أوروبا بمرحلتين، استعمار وما بعد استعمار. أما أفريقيا، فهي "الأرض التي نسيها الزمن"، التي لا تُستدرج إلى مسيرة التاريخ إلا عبر تماسّها بأوروبا.
لقد أثبتت قرون التفاعل بين الأفارقة والأوروبيين أن الحداثة لا تخص ثقافة بعينها؛ إنها ميراث إنساني مشترك
النتيجةُ شبه الحتمية لهذا النمط من التفكير هي محوٌ شبه تام لأفريقيا، لحياتها الاجتماعية والسياسية والثقافية، ولإسهاماتها الفكرية، ولسير مفكريها من سجلّ التاريخ العالمي. والتحدّي الماثل في انتشال أفريقيا من هذا "الحضور الأبكم" هو ما يحفّز كتاب الصحفي والكاتب هاورد فرنش "Born in Blackness" (مولودة في السواد). يجمع فرنش أدوات الصحفي المخضرم واسع الترحال مع أدوات الباحث الأكاديمي المنقّب في الأرشيفات. يستكشف الكتاب العلاقات المركّبة بين الأفارقة والأوروبيين في القرون السابقة على فرض الاستعمار الرسمي أواخر القرن التاسع عشر، رافضًا كثيرًا من "البديهيات" الشائعة عن تلك الحقبة. وهو إذ يفعل ذلك، لا يكتفي بإضاءة الماضي الأفريقي؛ بل يقصد هدفًا أوسع، أن يبيّن في توليفةٍ مرجعية محكمة بأن أفريقيا لم تكن يومًا هامشيةً عن مجرى الأحداث العالمية؛ بل هي المكان الذي تكوّن فيه العالم الحديث.
لا تحتل أفريقيا، في الرواية التقليدية لنشأة العالم الحديث، إلا دورًا محدودًا. فالحاجة إلى إيجاد طرق بديلة إلى آسيا دفعت الأوروبيين منذ القرن الخامس عشر إلى "رحلات الاكتشاف"، ثم جاء العثور "مصادفةً" على الأمريكيتين؛ ومن هناك تتوالى الحكاية المعهودة: إبادة الشعوب الأصلية، واتساع الاستيطان، وتطوّر تجارة الرقيق عبر الأطلسي، وصعود الرأسمالية والثورة الصناعية التي أطلقتها، ثم الإمبريالية التي حوّلت أوروبا إلى قوّةٍ اقتصادية عالمية. لا تدخل أفريقيا هذه السردية إلا مع نمو تجارة الرقيق؛ وحتى حين تظهر فإنما تظهر صامتةً، وبوصفها مصدرَ أجسادٍ تُساق إلى عملٍ قسري لصناعة ثرواتٍ مذهلة.
يسعى فرنش إلى قلب هذه السردية رأسًا على عقب. فأفريقيا، في طرحه، ليست مجرّد ساحةٍ لهيمنةٍ أوروبية، ولا هامشًا في دراما الإمبراطوريات البحرية والشبكات العالمية الناشئة، بل مركز قصةٍ أعقد.يكتب فرنش: "لم يكن الدافع الأول لعصر الاستكشاف توق أوروبا إلى صلاتٍ بآسيا، كما تعلمنا في المدارس، بل رغبتها الممتدة قرونًا في نسج روابط تجارية مع مجتمعات سوداء أسطورية الثراء، مختبئةٍ في قلب غرب أفريقيا «الأكثر ظلمة»". لقد أبحرت بعثاتٌ برتغاليةٌ وإسبانيةٌ بمحاذاة الساحل الغربي لأفريقيا في القرن الخامس عشر بحثًا عن الذهب، ففكّكت أساطير كانت تُثبّط الاستكشاف، وبلغت رأس الرجاء الصالح عام 1488. واعتمد كريستوفر كولومبوس وبارتولوميو دياز، وهما من أشهر بحّارة أيبيريا، على المعارف والخبرات المتراكمة في تلك الرحلات لتنظيم أسفارهما إلى "العالم الجديد".
لا أحد يجرؤ على تقسيم تاريخ أوروبا إلى مرحلتين: الاستعمار وما بعد الاستعمار. أمّا أفريقيا فهي «الأرض التي نسيها الزمن»، ولا تُستدرج إلى مسيرة التاريخ إلا عبر تماسّها بأوروبا.
يذكّر فرنش قرّاءه بأن أفريقيا لم تكن يومًا معزولة عن العالم؛ بل حضرت في المخيال الأوروبي حضورًا حيًّا بوصفها موطن ثراءٍ بالغ. غذّت هذه الصورةَ الأسطوريةَ رحلةُ منسا موسى الخارقة: ملك مالي الذي حجّ عام 1324 في قافلةٍ من ستين ألفًا محمَّلة بالذهب، يوزّع العطايا بسخاء في كل محطة، حتى قيل إنه خلّف تضخمًا دام أكثر من عقد في القاهرة. وقد أصاب البرتغاليون الذهب فعلًا في إلمينـا على الساحل الجنوبي لغانا المعاصرة عام 1471، وشادوا خلال عقد حصنهم القائم إلى اليوم.
يستند فرنش إلى مواد أرشيفية أخّاذة من شتى بقاع العالم. يبرز منها، مثلًا، العثور على كتاب تعليمٍ ديني (كاتيشيزم) نُشر في ليما خلال القرن السابع عشر بلغة "كِمبوندو" البانتوية؛ وهو مؤشر على الدور النشط للأفارقة في فتح أميركا اللاتينية وتحولاتها، ودليل كذلك على "التكْرِيل" -اختلاط الثقافات والهويات وولادة أخرى جديدة- الذي يعدّه أحد أعمدة العالم الحديث. وكثيرًا ما تأتي التفاصيل التي يوردها كاشفةً، مثل روايات تقدّم البحارة البرتغاليين شرقًا بمحاذاة الساحل الأفريقي، وتعاملهم مع تشكيلات سياسية معقّدة كـمملكتي بنين وكونغو. إن استحضاره الدقيق لهذه الفصول يجعل فداحة غيابها عن السرد التاريخي التقليدي فاضحة.
تكشف ديناميات هذه التفاعلات بين الأفارقة وشركائهم الأوروبيين في التجارة زيفًا في كثير من "القوالب"، منها فكرة أنّ الأفارقة كانوا ضحايا أساسًا، وهي صورة شاعت لدى بعض منظّري "تفكيك الاستعمار" الذين يتخيّلون أنّ علاقة أفريقيا بأوروبا قوامُها الخضوع الدائم. على العكس، يجادل فرنش بأن الزوار الأوروبيين للدول الأفريقية، كبيرِها وصغيرِها، كثيرًا ما تعاملوا مع مضيفيهم الأفارقة على قاعدة الندّية واحترموا سيادتهم حتى في الحقبة التي مهدت لتجارة الرقيق الأطلسية. يصعب رؤية هذه الدقة التاريخية في ظل تصوّرات متخشّبة تلقي بكل ما قبل أواخر القرن التاسع عشر في مرحلة واحدة مبهمة، يكاد لا يُذكر فيها شيء ذو شأن.
لم تكن أفريقيا شرارة عصر الاستكشاف الأوروبي فحسب، وهو توصيفٌ مُلطّف لأسفارٍ أفضت إلى إبادةٍ وفتحٍ واسترقاق، بل يذهب فرنش أبعد من ذلك، إذ يرى أن المؤرخين يستطيعون أن يتلمسوا في تلك التفاعلات المبكرة بين أوروبا وأفريقيا أسس العالم الحديث. لقد "وُلدت الحداثةُ في السواد". يُبيّن فرنش أن معظم المؤسسات والممارسات التي تُجسّد الاقتصاد الحديث، ومصادر ثراء أوروبا وأميركا الشمالية، وولادة أشكال ثقافية أصيلة باتت من صميم حياتنا المعاصرة في مجالاتٍ تمتد من الدين والموسيقى إلى الفلسفة والطعام كلها قابلةٌ للإرجاع إلى سوابق أفريقية وإلى علاقاتٍ مبكرة بين الأفارقة والأوروبيين.
فقد استخدم البرتغاليون جزيرة ساو تومي منذ مطلع القرن السادس عشر لتطوير النموذج الأوليّ لاقتصاد المزارع الذي سينتشر لاحقًا في الأمريكيتين؛ جزيرةٌ خالية تصبح قاعدةً لغارات الاسترقاق في داخل غرب أفريقيا، ثم "مَكبًّا" للمدانين و"غير المرغوب فيهم"، ومنهم يهود ليعملوا مع عبيدٍ أفارقة في مزارع سكر جديدة. ثم تحوّلت ساو تومي إلى سوق عبيد يزوّد مناجم ذهب إلمينـا ثم الأمريكيتين بالعمالة. إن النموذج الاقتصادي الذي صنع ثراء دولٍ قائدة في أوروبا الغربية والأمريكيتين بُني على استغلالٍ مفرط لعمل الأفارقة، بدايةً في أفريقيا، ثم "ما لبث أن انتشر" في العالم الجديد بكل فظاعاته اللاإنسانية.
إن أفريقيا لم تكن يومًا هامشيةً عن مجرى الأحداث العالمية؛ بل هي المكان الذي تكوّن فيه العالم الحديث
وبالموازاة مع الأساس المادي، أتاح استغلال العمل الأسود نشوء أشكال ثقافية ما تزال نافذة حتى اليوم. فالعبودية صنعت ليس فقط قاعدة ثروات العصر الحديث، بل كانت كذلك في صميم إنتاج القهوة والسكر. ويشير فرنش إلى أن أول مقهى في أوروبا الغربية فتح أبوابه عام 1650 في أكسفورد؛ وأن "توافر مشروبات ساخنة مُحلاّة منبِّهة" اجتذب الناس إلى المقاهي عبر أوروبا، وأسّس لثقافة نقاشٍ وجدالٍ ستفضي لاحقًا إلى "الفضاء العام الحديث".
مع ذلك، لا يخلو الكتاب، برغم قوته التفسيرية، من ثغرات. فدافع فرنش الرئيس هو استعادة فاعلية أفريقيا ودور القارة في سرديات نشأة الحداثة؛ لذا يبدو مفاجئًا، بل ومثيرًا للمفارقة، أنه لم يستند بما يكفي إلى إسهامات مفكرين أفارقة في الجدل نفسه حول الحداثة الذي يخوضه. وإلى جانب السلاطين الذين يجعلهم حمَلة هذه الفاعلية، يتجاوز فرنش كيف ردّ المثقفون الأفارقة على الفتح الأوروبي والاستعمار. وتتأكد المفارقة إذا استُحضر الدور المحوري لغرب أفريقيا، ومنها غانا المعاصرة، في إنتاج بعض أهم الردود الفلسفية والسياسية على الحداثة؛ مثل دستور اتحاد الفانتي الصادر عام 1871، الذي يُعد بين أوائل محاولات التنظير الدستوري الليبرالي خارج أوروبا والولايات المتحدة. كما يستحق دستور جمهورية ليبيريا عناية خاصة؛ إذ تبنّى إلى حد بعيد المبادئ المؤسسة للدستور الأميركي بوصفه إدانة لفشل "الدولة الأم" في الوفاء بمُثلها حين يتعلق الأمر بمواطنيها السود.
كان بوسع فرنش كذلك أن يستكشف كتابات القرن التاسع عشر لكلٍّ من جيمس أفريكانوس بيل هورتون (من سيراليون)، وإدوارد وِلموت بليدن (من ليبيريا)، وألكسندر كرُمِـل (قسٍّ أميركي أسود)، وكلهم سعى إلى إصلاح المجتمعات الأفريقية، وإعادة تشكيلها، وفضح نفاق الاستعماريين الأوروبيين لإنكارهم على الأفارقة المبدأ الجوهري للعصر؛ حقّ الإنسان في أن يكون مؤلف حياته، وألا يُحكم بغير رضاه. لقد صاغ هؤلاء ادعاءاتٍ كونيةً جريئة، تُظهر أن الحداثة لم يصنعها الأوروبيون وحدهم، بل الأفارقة أيضًا.
إن أعظم إسهامٍ لكتاب فرنش هو التأكيد القاطع لهذه النقطة. قد ترجع بعض أسس العالم الحديث إلى النهضة والإصلاح الديني الأوروبيين، لكن ذلك العالم لم يتخلّق من أوروبا وحدها. خذ مثلًا الثورة الهايتية التي انتهت بطرد الفرنسيين عام 1804؛ فقد جعلت القيمَ الثلاث -الحرية والمساواة والأخوة- قِيَمًا كونيةً حقًا، لا تقف عند عتبات العِرق. لم يكن الأفارقةُ والشتاتُ الأفريقي متفرجين، بل كانوا فاعلين أساسيين في صنع العالم الحديث.
في السنوات الأخيرة، أعاد عددٌ من السياسيين وغيرهم في أوروبا وأميركا الشمالية، غالبًا من التيار اليميني المعادي للهجرة، إحياء خطاب القرن التاسع عشر في تمجيد «فضائل الحضارة الغربية» المزعومة والحطّ من شأن ثقافات أخرى. يرون الحداثة ملكًا مشروعًا لمجتمعاتهم، ويصوّرون أفريقيا بوصفها «تقليدية» أو حتى «متخلفة». وعلى نحوٍ مقابل، ينزع بعض منظّري مناهضة العنصرية و«تفكيك الاستعمار» إلى ثنائية تبسيطية: أفارقةٌ ضحايا دائمون لجشع الأوروبيين، وما يزالون كذلك. يقدم فرنش منظورًا مغايرًا تمامًا، لقد أثبتت قرون التفاعل بين الأفارقة والأوروبيين أن الحداثة لا تخص ثقافة بعينها؛ إنها ميراث إنساني مشترك. لا يكتفي كتابه بإعادة تأطير التاريخ الأفريقي، بل يسعى إلى إعادة تأطير التاريخ العالمي وكيف يتخيّل الناس موقعهم فيه.