الخميس 5 ديسمبر 2024
بدأت الحرب في السودان في ابريل/نيسان 2023 بين قوات الدعم السريع شبه العسكرية والجيش السوداني، وامتدت المواجهات المسلحة بينهما طيلة هذه الأشهر، فجربا كل الأسلحة المتاحة؛ راهنت قوات الدعم السريع على تحركاتها المفاجئة وأعداد أفرادها بأسلحتهم الرشاشة الخفيفة، فيما كان الجيش يدافع عن مؤسسات الدولة ومقراته بهجمات للمدفعية الثقيلة والطائرات وتحركات للمشاة. لكن التحول المحوري في مسار الحرب تمثل بانتقال الطرفين لتوظيف الطائرات المسيرة، فغيرت من معادلة المواجهات بينهما.
أضحت الطائرات بدون طيار سلاحا أساسيا في المعارك المحتدمة بين طرفي النزاع، ويعول كل طرف على الدعم الخارجي لمساعدته لتأمين احتياجاته العسكرية واللوجستية، فعززت من انحياز الأطراف الإقليمية والدولية إلى جانب أحد طرفي النزاع مقابل حماية مصالحهم بالمنطقة، فتعقدت مسار المواجهات بينهما، وتضاعفت حجم التحديات على المدنيين، كما صعبت مهمة الجهود الدبلوماسية لإنهاء هذا النزاع.
تطورت الاشتباكات بين القوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وبين قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، الملقب بحميدتي، النائب السابق للجنرال، بداية، بمحاولات الدعم السريع السيطرة على مقر القيادة العامة والقصر الجمهوري، ثم بهجمات منسقة للسيطرة على العاصمة، فتحولت إلى مواجهات ممتدة وصراع على السلطة، فامتدت الحرب لأكثر من 16 شهر، لتشمل كل المناطق السودانية، وتحتدم المواجهات بينهما في محاور كثيرة، ومعها تتعاظم حجم المأساة الإنسانية مما يندر بحرب أهلية شاملة.
لئن كانت الحرب مفاجئة على الصعيد الميداني، لكنها بالنسبة لأطراف النزاع، لم تكن مفاجئة فقد كانت تتويجا لانغلاق الأفق السياسي بعد تأجيل توقيع الاتفاق النهائي للمرحلة الانتقالية، وتصاعد حجم الاستقطاب السياسي، وبينهما كانت الأطراف الخارجية تتوزع بين عاجز عن دعم الاتجاه السلمي أو بين متواطئ مع إحدى أطراف الصراع، فيما كانت جهود الجانبين مركزة على حشد القوات والأليات من الجانبين، في انتظار موعد الصفر.
لقد شكلت تعبئة قوات الدعم السريع لقواتها على تخوم العاصمة، مقابل تحركات الجيش وتحذيراته من هذه التحولات الميدانية، إيذانا بموعد المواجهة بين الطرفين، فاستغلت الدعم السريع عنصر المفاجأة، فقامت بهجمات للسيطرة على مواقع حكومية بالعاصمة. وبالمقابل، ولحمايتها في أفق إعادة ترتيب قواته، راهن الجيش على استراتيجية الدفاع لتحصين المنشئات والمقرات التي تعرضت لمحاولات السيطرة عليها. ومع تصاعد حجم الاشتباكات والانفجارات، اعتبر بيان الجيش الدعم السريع بأنها "فصيل متمرد"، وقرر حلها وإلغاء القانون المنظم لها، وبالمقابل، اتهمته الدعم السريع بمحاولة الاستيلاء على السلطة، وطمأن حميدتي الجميع في خطاب له بأن قواته لا تنوي أن تكون "بديلا للجيش"، فيما اعتبر البرهان بأن لا حديث عن عملية سياسية الا بعد دحر "التمرد"، وتعهد كل طرف بقدرته على النصر.
لكن خطابات الطمأنينة واليقينية بالنصر من الجانبين، لم توقف حدة الصراع واستمرار التحشيدات، بل انتقلت المعارك من محاولات السيطرة على القصر الرئاسي إلى ولايات شمالية ومدن غربية، فنقل الجيش العاصمة مؤقتا إلى مدينة بورتسودان، ومعها سيطر كل طرف على مناطقه محاولا الالتفاف إلى محاور أخرى.
وتواصلت عمليات المواجهة بمختلف الأسلحة، فقد حاربت الدعم السريع، التي برزت كمليشيا منظمة، استعان بها النظام السابق خلال حرب دارفور، بسيارات رباعية الدفع مصفحة ومجهزة بأسلحة رشاشات ومضادات للطيران، فاستفادت من الدعم العسكري واللوجيستي الذي حظيت به بعد ادماجها خلال حكم الرئيس الأسبق عمر البشير كحرس للحدود، ليتقرر عام 2017 إصدار قانون "قوات الدعم السريع" الذي يعتبرها قوة أمنية مستقلة تابعة للقوات المسلحة. وبالمقابل، كثف الجيش من عمليات المشاة لتحصين قواعده بالعاصمة وبالمناطق الواقعة تحت سيطرته، معتمدا على هجمات بالآليات الثقيلة والمدفعية، كما ساهمت القوات الجوية بهجمات منسقة على محاور عدة للتصدي لهجمات الدعم السريع.
وفي هذا السياق، كثف الجيش من الهجمات الجوية فكانت فعالة في استراتيجيته القتالية، فمكنته من تحقيق انتصارات على حسب خصمه، واستعاد خلالها ليس زمام المبادرة فحسب، إنما مناطق كثيرة كانت تحت سيطرة قوات الدعم السريع، غير أنها فشلت في وقف مسار الحرب، إنما تصاعد وتوسعت محاور المواجهات بينهما.
ليتأكد بأنه بقدر ما ساهمت هجمات الطائرات في تقدم الجيش في مناطق كثيرة، فوفرت له دعما جويا، إلا أنها بشكل غير مباشر ساهمت في تعقيد مسار المواجهات بينهما، فقد ضاعفت من حجم القتال على محاور عدة، وارتفع عدد الضحايا المدنيين وحجم الخسائر، كما ساهمت في إطالة أمد الحرب بين الطرفين.
استعصى على كل طرف حسم المواجهات منذ انطلاقها، ومعها ديمومتها انتقلا لتطوير استراتيجيتهما القتالية، فكانت قوات الدعم السريع تستثمر ما تتوفر عليه من السيارات والأسلحة الصغيرة والمتوسطة للحفاظ على المناطق التي سيطرت عليها، فيما استنفر الجيش السوداني كل أجنحة قواته من المشاة إلى الطيران، للدفاع عن مؤسساته وللهجوم على المحاور التي تسيطر عليها الدعم السريع، وتعززت محورية القوات الجوية بهجماتها المنسقة ضد مناطق تمركزها، فقد وفرت تفوقا استراتيجيا للجيش، كما عززت من معنويات أفراده.
وعلى هذا المستوى، اعتمد الجيش منذ بداية المواجهات على القوة الجوية، وتمثل القوات الجوية السودانية جزءا من الجيش السوداني، فكانت نواتها تعود إلى استقلال البلد. عراقة تاريخها تقاطعت مع تحديات افتقارها للطائرات والمعدات وضعف تسليحها، بالإضافة إلى سيطرة الدعم السريع على قواعد جوية ومطارات عسكرية. ورغم هذه التحديات تصدى الطيران السوداني بما يملك للدعم السريع، فكانت الطائرات المقاتلة من طراز ميج 29 أهم المقاتلات التي اعتمد عليها الجيش، إذ تتميز بأداء مناورات قوية وقدرات على تنفيذ ضربات بصواريخ جو أرض، والتي حصل عليها من صفقات مع روسيا خلال الفترة ما بين 2003 و2004. وكانت حاسمة في تحقيق استهداف مباشر لقوات الدعم السريع خلال تقدمها أو بمحاور سيطرتها، لتعتبر ميزة قتالية بغطائها الجوي وكثافتها النيرانية، وحققت للجيش تقدما في محاور عدة.
كانت أغلب صفقات الجيش السوداني روسية، غير أنه حاول تنويع شركائه بالانفتاح على مقاتلات صينية وأبرم صفقات مع شركاء آخرين لتوسيع أسطوله الجوي. وفي سياق متصل، برزت مزاعم للدعم السريع بأن الجيش يتلقى دعما جويا لتغطية نقائصه من جهات خارجية، وأنها رصدت حصوله على طائرات مصرية من نوعK-8 تساهم في هجماته، غير أن الجيش السوداني فنّد هذه الادعاءات، معتبرا بأنها معلومات مضللة وغير موثوقة، وبأنه يمتلك هذا الطراز منذ أكثر من 20 سنة.
كانت هجمات طائرات الجيش فعالة، غير أنه مع استمرار المعارك وحصول الدعم السريع على مضادات للطائرات، ومزاعم بنجاحه في إسقاط طائرة حربية بأم درمان، بدأ الجيش يفقد امتياز الاستحواذ على الجو، لذلك فكر في بدائل تضمن تفوقه الجوي، فكانت الطائرات المسيرة خير بديل، غير أن السودان كان يفتقر لهذه التقنيات، فبدأ في البحث عن شركاء لتزويده بهذه التقنيات المتطورة.
وعليه، رصدت أولى محطات توظيف هذه الطائرات بدون طيار في معارك الدفاع عن المنشئات بالعاصمة، وساهم استخدامها من تحقيق نجاحات ميدانية وتقدم كبير في محاور كثيرة؛ خصوصا بالعاصمة، فاستعاد السيطرة على أم درمان وعلى منشئات كهيئة الإذاعة والتلفزيون مارس 2024. وبتوظيفها تغيرت معالم المواجهات مع غريمه، فقد أضحت الدعم السريع تتحاشى عرض سياراتها المصفحة، كما تحولت إلى أسلوب المباغثة عوض الاستعراض الذي كانت تقوم به سابقا، كما لاحت في الأفق محاولاتها لتوظيفها نفس التقنيات خصوصا الاستعانة بالطائرات المسيرة التجارية رباعية المحاور وتفخيخها بقذائف.
وبدأ الجيش السوداني مراهنا على المساعدات الخارجية من أجل تجاوز حظر تزويد بالأسلحة المفروض عليه من مجلس الأمن منذ سنة 2005، ومن أجل تلبية الحاجة لهذه التقنيات، فكانت الطائرات الإيرانية بديلا، كما انفتح على توريد نماذج من الطائرات المسيرة الصينية. وإن كانت الأفضلية للمسيرات الإيرانية، فاستطاعت طهران إحياء علاقاتها بالسودان بعد قطيعة امتدت ما بين سنوات 2016 إلى 2023، ولتعزيز حضورها بالقرن الافريقي وتجاوز الضغوط بالإقليم وبالبحر الأحمر، اعتبرت السودان بوابة لتحركاتها الإقليمية. فانتعشت العلاقات بينهما ورجع السفير الإيراني، ومعها تأكيدات على استمرار التعاون العسكري بينهما، إذ تسربت معلومات عن الدعم العسكري الإيراني للجيش السوداني بعد رصد شحنات الطيران الإيرانية (قشم فارس) لتسليم طائرات مسيرة من طراز مهاجر وأبابيل عدة مرات إلى الأراضي السودانية.
وفي سياق متصل، لم يكن الاستعانة بالمسيرات في هذه الحرب حصرا على الجيش السوداني، فقد وردت معلومات أكدها تقرير للأمم المتحدة عن استعمال القوات الدعم السريع لطائرات مسيرة، حصل عليها في شحنات قادمة من أبوظبي. ويتجاوز الدعم الاماراتي للدعم السريع تزويده بالطائرات المسيرة، إذ وصلت حدة الاتهامات المتبادلة بين السودان والإمارات، دعوة ممثل السودان بالأمم المتحدة إلى إدانة للإمارات على خلفية دعمها للدعم السريع بالعتاد الحربي وتمويلها بالمقاتلين، رفض السفير الإماراتي بالأمم المتحدة هذه الاتهامات، ونفى بيان وزارة الخارجية الإماراتية مزاعم تقديمها الدعم للطرفين، مؤكدا عدم انحيازها الى أي طرف، وترحيبها ودعمها لجهود التسوية السلمية.
ورغم كل ذلك، يتحاشى أطراف النزاع الإقرار باستعمال هذه التقنيات في المواجهات، غير أن الوقائع تفضح ذلك، فقد جرى إسقاط نماذج كثيرة لكلا الجانبين، وقبل أسابيع نجى عبد الفتاح برهان من محاولة اغتيال بهجوم بطائرة مسيرة استهدفته خلال حفل تخرج للضباط، ومعها يستمر تدفق المسيرات والأسلحة إلى السودان وسط مخاوف وتحذيرات من تكلفة هذه الحرب على البلد والمنطقة.
يتأكد بأن المواجهات المسلحة بالسودان ما كان لها أن تستمر إلا بإرادة الطرفين في إطالة أمدها، وهي تأكيدا لاستحالة التفاوض السلمي وتذويب الفروق بينهما، فحالة الاستقطاب والعسكرة المتواصلة بين طرفي الصراع، أعادت تشكيل مستقبل السودان وعقدت مساراته الأولى نحو الديمقراطية، قبل أن تفعل الأسلحة فعلتها. وباستمرار المواجهات يتعاظم طموح الطرفين لاستجداء كافة الوسائل القتالية، رغم أن هذه الحرب أرست لمعادلة فشل كلاهما في حسم الأمور الميدانية لصالحه، بقدر نجاحهم في تدمير البلاد وتخريب مؤسساته وتعطيل مسيرته التنموية.
إلى ذلك، جرب الجانبين مختلف الأسلحة، ويتأكد بأن الرهان على الطائرات المسيرة لحسم المعارك لصالحهما لم يتحقق، لكن يمكن اعتبار أن هذه التقنيات ساهمت في إطالة أمد الحرب وتفاقم حدة الصراع، بعد أن كسب الطرفين هذه التقنيات المسيرة، وتأكد توظيفها ضمانا للمراقبة والاستطلاع ومن أجل القيام بمهام قتالية؛ فساهمت في تقدم العمليات العسكرية للجيش في مناطق عدة، فأجبرت الدعم السريع على الهرب والانسحاب من مناطق كثيرة في أم درمان مثلا، كما استعانت بها الدعم السريع لتوسيع نطاق هجماتها. وكلما احتدمت شراسة المعارك بينهما، يتجلى بأن الرهان على توظيف هذه التقنيات ليؤكد استمرار المجهود الحربي، مما جعل كل طرف يتحاشى الانخراط في العلمية السياسية، ففشلت جهود المحاولات الإقليمية والدولية في وقف هذه الحرب.
عقدت هذه الطائرات المسيرة مسار المواجهات بين الطرفين، فان استطاع كل طرف تخفيف وحماية قواته ومناطق سيطرته، غير أنها فشلت في حماية المدنيين، فالمحدد الخطير في معادلة المسيرات هو أنها فاقمت فاتورة استهداف المدنيين، إذ سجلت تقارير حقوقية تزايد المخاوف من استهداف الجانبين للمدنيين والمنشئات المدنية؛ فوزعت الخارجية الأمريكية اتهاماتها للطرفين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مطالبة بمحاسبتهم والالتزام بالقانون الدولي الإنساني، كما قدرت تقارير لمنظمة العفو الدولية بأن المدنيين يتعرضون لهجمات متعمدة وعشوائية، فجاءت هذه التقارير استكمالا لتحذيرات أممية من أن السودان على شفا كارثة إنسانية غير مسبوقة.
الرهانات المحلية للطرفين في كسب المعركة باستخدام هذه المسيرات يتقاطع مع رغبة خارجية في تعزيز حضورها بالبلد، وتشكل المسيرات الورقة الرابحة للقوى الخارجية لتعزيز حضورها، لقد ضمنت إيران رهان حضورها وفق هذا المحدد بعد أن كانت العلاقات مع السودان معلقة، فسرع دعمها العسكري للجيش إعادة العلاقات بينهما، فكسبت طهران استمرار إمتداد حضورها بالمنطقة إلى منطقة غرب افريقيا. كما حافظت الصين روسيا على وجودها وضمنتا مصالحهما بالدعم والاستثمار في هذه الازمة تسليحا ودعما، حتى القوى الإقليمية تستثمر في المعارك دعما لوجستيا لاسيما في المسيرات من أجل تعزيز حضورها بالمنطقة.
وبينما تتصاعد فاتورة تسليح الطرفين بمختلف الأسلحة، فتتزايد المخاوف من استمرار الحرب أمام شراسة المعارك وفشل الطرفيين في إنهائها، مع احتمالات ضعيفة في قدرة التسليح النوعية للطرفين على خلق حالة من التفوق لأحدهما على الآخر. وتتضاءل إمكانية فتح نافذة للحوار السياسي مع تصاعد حجم التسليح والمعارك، لتتفاقم الأزمة منذرة بمخاوف حقيقية من انعكاساتها السياسية، بما يعيد إحياء أطماع الحركات الانفصالية، لاسيما وأن التدخلات الخارجية أضحت المحرك الأساسي الداعم والمساند لهذه الحركات بالمنطقة، كما أن سيرورة المواجهات ومخاوف من ديمومتها ليؤكد تحدي انهيار الدولة السودانية بعد أن تصاعدت مؤشرات الاستقطاب القبلي والاحتماء بالخيار العسكري.
بالمجمل، تحتاج السودان لمبادرات سياسية داخلية لإنهاء الأزمة ووقف مسلسل الحرب أكثر مما هي بحاجة إلى شحنات علنية وسرية من الأسلحة والمعدات الحربية، ولا تزال الفرصة قائمة لوقف خط امدادات القتل وانهائها، لكنها بحاجة أكثر لطائرات لإطفاء لهيب المواجهات أكثر من حاجتها للطائرات المسيرة القاتلة، كما الحاجة ملحة لشركاء يدعمون مبادرات السلام أكثر من ممولين داعمين بالسلاح والمسيرات. لقد غيرت المسيرات ملامح هذه الحرب، وأكثر من ذلك عقدت مستقبل السودانيين، فحان الوقت ليغير السلام ملامح وجوههم المكدرة حزنا وكمدا، فهل ستعطى الفرصة للسلام ليغير المسار إلى الأفضل؟