الاثنين 24 مارس 2025
أصبحت وسائل الإعلام الرقمي، خلال العقود الأخيرة، أحد الأدوات الأكثر تأثيرًا في النزاعات المسلّحة، لاسيما في البلدان الهشة التي تعاني من ضعف مؤسسات الدولة وغياب الرقابة الفعالة، وضعف أجهزة الأمن والدفاع. خلال أوقات الحرب، يتم استغلال الإعلام كثيرًا لبث خطاب الدعاية التي تحتوي على رسائل كراهية، وتحريض عبر مجموعة من التقنيات التي تتكامل مع طبيعة وسائل الإعلام الرقميّ وقدرتها على الوصول السريع والواسع لإيصال رسائلها إلى الجمهور المستهدف.
خلال حرب السُودان المستمرة منذ أكثر من عشرين شهرًا، استغلت أطرافها الإعلام الرقمي بمختلف وسائطه بشكلٍ واسع لإيصال رسائل دعائية واستقطابية مقصودة، ما ساهمت في تصعيد خطابات التحريض والدعاية والعنف المضاد والكراهية ضمن دائرة الحرب النفسيّة، الأمر الذي خلّف تداعياتٍ كارثية على حياة المدنيين بصفةٍ خاصة، بما فيها تفاقم نزعة الانقسام السياسي والاجتماعي والاثني والمناطقي، وانتشارها وسط المدنيين والقوى المدنيّة بشكلٍ سافر. والجوار الإقليمي لم يكن استثناءً في تأثير الحرب عليها سياسيًّا واجتماعيًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا.
منذ مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي حتى أواسطه، لعبت وسائل الإعلام التواصليّة في السُودان وجنوب السودان حول تداعيات استهداف مدنيين من جنوب السودان في ولاية الجزيرة السُودانيّة، دورًا محوريًا في تأجيج مشاعر الغبن والكراهية والغضب وسط الشارع الجنوبسوداني بشكل واسع، لدرجة وصول الأخير إلى إحداث رد فعل مضادّ غاضب ضد السُودانيين المقيمين/اللاجئين في مختلف مناطق الجارة الجنوبيّة الذي وصل حدّ القتل خارج القانون، والنهب والاعتداء الجسدي.
يشترك البلدان تاريخًا طويلًا من الصراع، حيث ظلت علاقة جنوب السُودان منذ حقبة استقلال السُودان، وحتى قبل أن يصبح هذا الإقليم دولةً مستقلة، متوترة ومضطربة. ومع الزمن تطورت طبيعة الحساسيّة التي وصلت حدّ التوتر المعقد إلى انفصاله عن الجسد الأم في 11 يوليو/ حزيران 2011، عقب عملية استفتاء شعبيّ للجنوبيين، جاءت نتائجها مؤكدة لرغبتهم في خلق دولةً جديدة تخصهم. وظلت علاقة الدولتين عقب الانشطار متأرجحة بين الشدّ والجذب، ما انعكس بشكلٍ واسع على طبيعة العلاقة الناظمة بين شعبيهما اجتماعيًا وثقافيًا، حيث الحساسيّة والتوتر والتحفظ كلما طرأت تعقيداتٍ جديدة في جوانب العلاقة، ولكلتاهما مصلحةً فيها سلبًا كان أو إيجابا.
ظلت مسائل الموارد الاقتصادية العالقة، مثل: تصدير البترول وعائداته وحركة التجارة الحدودية ومداخل التنافس حولها، والتعقيدات السياسية مثل الإرث التاريخي لنظام البشير بكثير من أوجه السُلطة في جوبا، والتوترات الاجتماعية بما فيها استمرار الصراع حول منطقة أبيي، أهم الجوانب الشائكة التي ما فتئت تزيد طبيعة علاقة الدولتين تعقيدًا. وقد فاقمت حرب 15 أبريل/نيسان من حجم وعمق التوتر الذي ظل يشوب العلاقة، الأمر الذي تأثر به المواطنين المدنيين باعتبارهم نازحين ولاجئين، ظلوا يعبرون حدود البلدين وسط أزمة إنسانية خانقة، تزداد سوءًا يومًا بعد آخر. وحالة العنف الذي تعرض له السُودانيين في جنوب السودان خلال أيام منتصف يناير/ كانون الثاني، أوضح شاهد يفسّر عمق الاضطراب والحساسيّة التي وصلت إليها علاقة الدولتين.
بالاضافة إلى العلاقة المعقدة بين جنوب السودان والسودان سياسيًّا، وخاصة في ظل استمرار الحرب في الأخيرة، ووجود نزاعات حدود تاريخية وتعقيدات الموارد الاقتصادية، زاد تدفق اللاجئين السُودانيين إلى الجارة الجنوبية الضغط على الموارد المحدودة والشحيحة من الأساس، مثل: الماء والغذاء وخدمات الكهرباء والتعليم والصحة، مما يظل يسهم بشكلٍ كبير في تأجيج التوتر بين السُكان المحليين واللاجئين، في ظل انتشار خطاب إعلامي متضمن رسائل تحريض وحساسية مبطنة، ظلت تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهي مدعومة بالتصريحات التي ما فتئت تصدرها شخصيات ومجموعات سياسية واجتماعية مؤثرة على مستوى السلطة والنفوذ الاقتصادي والمكانة الاجتماعية في كلا البلدين.
كما أن الانقسامات القبلية الحادة بين مكونات جنوب السُودان التي دومًا تؤدي إلى خلق نزاعات اثنية متطرفة، كانت لها تأثيرها المقدر في السياق. بالإضافة إلى النظرة السلبية والمتحفظة لبعض المجموعات تجاه السُودانيين، خاصةً في سياق لجوئهم إلى الجارة بسبب حرب 15 أبريل/نيسان فيما يتعلق بذاكرة العنف الذي طال الجنوبيين خلال حقبة نظام البشير والأنظمة التي سبقته.
ظلت الديناميكيات الاجتماعية والسياسية المتصارعة في جنوب السُودان عاملًا محفزًا ورئيسيا لإشعال فتيل أي نزاع محلي أو إقليمي، باعتبار العلاقة الراسخة والحيوية بين شعبيّ البلدين. فيما تأتي الهشاشة والضعف الأمني والمؤسسي، ولاسيما ضعف البنية القانونية والدستورية الذي تعاني منه جوبا وكذا بورتسودان حاليًا، أحد أهم ركائز إفتعال العنف وارتكاب انتهاكات ضد المدنيين، ولاسيما الأجانب واللاجئين من مختلف الجنسيات.
خلال فترة العنف الذي تعرّض له السودانيين في مختلف مدن جنوب السودان في منتصف يناير/ كانون الثاني 2025، حذر المتحدث باسم شرطة جنوب السودان مواطنيها من الالتفات إلى الشائعات والمعلومات المغلوطة التي يتم تداولها في وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يشير بوضوح إلى أن محتوى الخطاب الإعلامي الذي راج مؤخرًا، قبل وأثناء انفجار حالة العنف، كان موجهًا ومقصودًا، ما أدى إلى تأجيج مشاعر الغضب تجاه السودانيين، وصولًا إلى قتلهم ونهب ممتلكاتهم.
إن خطاب سلطات جوبا، يؤكد فرضية أن الحالة قامت بفعل طاقة الخطاب الإعلامي الذي انتشر وسط الشارع، وعند شريحة الشباب الغاضبين بصفة خاصة. كما أن محاولة جوبا إيقاف خدمات منصات التواصل الاجتماعي، مثل "الفيسبوك، وتك توك"، تأكيد إضافي على أن الحالة العنيفة التي قامت ليست أكثر من انعكاس طبيعي ونتاج تلقائي لخطاب التحريض والدعاية المتضمنة مشاعر غبن وتوتر وتحفظات، تم الترويج لها من قِبل جهات ومجموعات مؤثرة على المستوى السلطة في جنوب السودان، وهي خطابات تدّعي أنها تستقي قوتها من خطاب رائج في السودان، وأنها ليست أكثر من مجرد رد فعل مضاد، كما أكدته جملة التحليلات التي ملأت الفضاء الاسفيري حول ذلك.
إن خطاب التحريض في جوبا ليس سوى انعكاسا لخطاب في بورتسودان، والعكس أيضًا ما خلق وضعية اتهام متبادل بشكل دائري، ظلت محفزة لدرجة وصول الدولتين إلى مستوى التصعيد الدبلوماسي الحاد، والذي تفاقم مع خطاب وزير خارجية جنوب السودان في جلسة مجلس الأمن بعد أسبوع من شرارة العنف، ورد خارجية السودان عليه، وما راج في وسائط الإعلام من تحليلات وقراءات بعضها مبررِة والأخرى ناقدة، ومجموعة ثالثة متفهمة للسياق.
استغلت المجموعات التي دعت إلى العنف بتبرير الاحتجاج على استهداف مدنيين في ولاية الجزيرة السُودانيّة، وسائل التواصل الاجتماعي لسهولة توفرها ما مكّنها من نشر معلومات مضللة، حفزت الشارع الجنوبي الهش من الأساس نحو ممارسة العنف في أقصي تجلياته.
أدى توجيه الأخبار المضللة إلى تأثيرات نفسية حادة، حيث عملت على تأجيج مشاعر الغضب والخوف بين فئات الشعب الجنوبسوداني المهمشة والضعيفة اقتصاديًا، ما عززت عوامل الغبن والكراهية تجاه السودانيين. كما يبدو أن المحتوى الإعلامي انتشر بشكل أوسع وسط المجموعات الهشة؛ الأقل تعليمًا والأكثر فقرًا، ما أدى تلقائيًا إلى تفاقم محفزات التحريض على العنف بشكل متصاعد.
لامس الخطاب الإعلامي، الانقسامات الاثنية؛ حيث استُغلت التوترات العرقية والقبلية وحتى الدينية القائمة في جنوب السودان، ما عزز خطاب التوتر الهوياتيّ؛ "نحن" ضد "هم"، حيث اعتبار السودانيين، "هم" الذين تشملهم الذاكرة التاريخية المريرة بالنسبة ل"نحن" الجنوبيين، وهي في المحصلة انعكاس لتصاعد مشاعر القومية في جنوب السودان، في الآونة الأخيرة تجاه الأجانب واللاجئين. واستخدم الخطاب اللغة البصرية؛ حيث الصور ومقاطع الفيديو، ما أدى إلى تقديم روايات عاطفية وسرديات انفعالية، زادت من الاستقطاب عبر تقنية إعادة تكرار المحتوى بما يسمى "البوتات والجيوش الإلكترونية" بشكل مكثف، لتصبح جزءاً من الوعي الجمعي لدى الجمهور المستهدف، بما فيهم شخصيات ومجموعات معارضة مؤثرة مستغلًا غياب الرقابة الفعالة؛ حيث إن ضعف حكومة جوبا بمختلف بمؤسسات الدولة الهشة يجعل من الصعب ملاحقة مرتكبي التحريض الرقمي.
بعد أسبوع فقط من أحداث العنف ضد السُودانيين في جنوب السُودان، تصاعد مستوى التوتر الدبلوماسي بين بورتسودان وجوبا، خاصةً عقب خطاب وزير خارجية الأخيرة، كجزء من الآثار الممتدة المباشرة لتلك الأحداث في البلدين. الأمر الذي قد يسهم في تدهور متفاقم للعلاقات بين الدولتين ويزيد من هشاشة الوضع الأمني في المنطقة، مع احتمال ظهور ضغوط دولية، إذا لم تعالج المسائل العالقة بدبلوماسية وآليات سلمية، تضبط شروط العلاقات الثنائية بينهما.
إذا لم يتم معالجة الأزمة، قد تستغل مجموعات ما الوضع المأزوم، وخاصة المعارضة الجنوبية، لتأجيج الصراعات القبلية حول السلطة والنفوذ التي هي قائمة في البلاد، ما يمكن أن تتزايد الانقسامات الداخلية في البلاد، بشكل يمكن أن تتفاقم بصورة كارثية. فالانتشار الواسع لخطاب الكراهية والتحريض الناتج عن التدهور الاقتصادي والانهيار الاجتماعي في الجنوب، قد يؤدي إلى توسيع الفجوات بين المكونات الاجتماعية والاثنية، ما يحفز قيام نزاعات مسلحة جديدة فوق القائمة، ما سيؤدي تلقائيًا إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، حيث ستزداد أعداد النازحين والمشردين. كما أن تأثيرات هذه الأحداث ستسهم في إضعاف جهود السلام بين البلدين؛ حيث ستعمل إلى عرقلة المبادرات السلمية التي سعت إلى معالجة القضايا العالقة، مثل قضية أبيي وتصدير البترول عبر السودان، والقضايا الاجتماعية والاقتصادية المتعلقة بخطوط جغرافيا البلدين سوسيولوجيًا.
إن أهم المداخل للحدّ من تصاعد الأزمة إعلاميًا، هو تحرك جوبا وبورتسودان بجانب المجتمع المدني بمختلف مؤسساته ومنظماته لمواجهة الخطاب الإعلامي التحريضي بشكل رسمي وشعبيّ، فضلًا عن ضرورة مراقبة الإعلام الرقمي، وما يقدمه من محتوى وخطاب، مع تعزيز ونشر ثقافة التحقق من الأخبار الكاذبة والمعلومات المغلوطة ومكافحة الشائعات، بجانب محاولة سن قوانين تجرم خطابات التحريض والكراهية على المنصات الرقمية، وتنظيم حملات توعوية لوسائل الإعلام المحلية حول خطورة الخطاب التحريضي، وتأثيره دعمًا لصحافة السلام؛ ومحاولة الاستثمار في إعلام يعزز الحوار بين الشعبين، ويبرز المشتركات أكثر من نقاط الخلاف. كل هذا مستندًا على إرادة من كلا البلدين، بمختلف شرائحهما ومؤسساتهما الاجتماعية والسياسية والثقافية، لإعادة صياغة علاقة دبلوماسية ثنائية متوازنة ذات توجهات مستدامة.