تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 19 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
ثقافة

كيف حوّل شعراء أفريقيا القصيدة إلى فعل تحرري؟

15 سبتمبر, 2025
الصورة
كيف حوّل شعراء أفريقيا القصيدة إلى فعل تحرري؟
Share

ما كان الشعر الأفريقي الحديث مجرد ترف جمالي، بل كان – منذ النصف الأول من القرن العشرين – صرخةً وجودية وصوتًا للمقاومة، ومجالًا لإعادة صياغة هوية القارة بأسرها. لقد جاء في لحظة تاريخية مفصلية كانت فيها أفريقيا ترزح تحت نير الاستعمار الأوروبي، وتبحث في الوقت ذاته عن سبل استعادة كرامتها، وتحرير وعيها من التبعية والاستغلال. في تلك وإلى جانب المقاومة السياسية والعسكرية، برز الشعر بوصفه قوة رمزية ومعنوية.

إذا كان الإرث الشفهي الأفريقي – من الأهازيج والمراثي والأساطير الشعبية – قد شكّل الخزان الأول للذاكرة الشعرية، فإنّ الكتابة بلغة المستعمر منحت القصيدة بعدًا مزدوجًا: فهي من جهة تُدين أدوات السيطرة الثقافية وتعيد توظيفها، ومن جهة أخرى تفتح مجالًا للتواصل بين أفريقيا والعالم. وهكذا أصبح الشعر الأفريقي الحديث تجسيرًا بين الماضي والمستقبل، وبين الذاكرة الجمعية والرغبة في التحرر.

في هذا السياق برزت أسماء شعراء ارتبطوا بالبدايات الكفاحية للشعر الأفريقي الحديث مثل الشاعر السينغالي دافيد ديوب الذي حوّل الغضب الشعبي إلى صيحات شعرية ملتهبة، والشاعرة الموزمبيقية نويميا دي سوزا التي جعلت من القصيدة صوتًا للمرأة الأفريقية، وهي تواجه الاستعمار البرتغالي، والشاعر السينغالي ليوبولد سنغور الذي رفع راية "الزنوجة"، وأعطى للشعر بعدًا هويّاتيًا وكونيًا، والشاعر المارتيني إيمي سيزير الذي فجّر لغة بركانية أعادت كتابة الذات السوداء في مواجهة محوها الاستعماري.

ومن الأسماء العرب نجد اسمًا بارزا طالما ظلّ يتصدّر المشهد في الفضاءين العربي والأفريقي معًا، هو محمد الفيتوري، الذي جمع بين عمق الجذور الأفريقية وامتداد الثقافة العربية، ليحوّل الكلمة إلى نشيد للتحرر وصوت ضد الاستعمار والرق والتمييز. لم يكن ديوانه الأول "أغاني أفريقيا"(1955)مجرد كتاب شعري، بل وثيقة وجدانية لأحزان القارة السوداء وآمالها، وعلامة فارقة في مسار القصيدة العربية-الأفريقية الحديثة. ومن خلاله جسّد الفيتوري كيف يمكن للشعر أن يكون فعل مقاومة بقدر ما هو فن جمالي، وأن يتحول من تعبير فردي إلى ذاكرة جمعية وصرخة مشتركة بين الشعوب.

لم يكن الشعر الأفريقي الحديث ترفًا، بل كان صرخة وجودية ومشروعًا للتحرر

لقد كان الشعر جزءًا من البنية الاجتماعية والسياسية للمجتمعات. فقد أدّت الأهازيج والمراثي والأمثال أدوارًا حيوية: تمجيد الأبطال والمحاربين، فضح ظلم الطغاة والمستعمرين الأوائل، وحفظ الذاكرة الجمعية للشعوب. في القرى الأفريقية كان الشاعر أو الحكّاء يقوم مقام المؤرخ والمربّي والناقد الاجتماعي، إذ يخلّد انتصارات الجماعة، ويذكّر بأمجادها، ويعلّم الأجيال معاني الشجاعة والكرامة. وهكذا شكّل الشعر الشفهي ما يشبه "الدستور الرمزي" الذي يربط الماضي بالحاضر.

ومع دخول المدرسة الاستعمارية وتوسّع استعمال اللغات الأوروبية (الفرنسية، الإنجليزية، البرتغالية)، ظهر جيل جديد من الشعراء الذين لم يتخلّوا عن إرثهم الشفهي، بل استثمروا لغة المستعمر نفسها لتقويض شرعيته. لقد كان هذا الجيل واعيًا بمفارقةٍ عميقة: أنهم يكتبون بلغات فُرضت عليهم، لكنهم حوّلوها إلى أسلحة رمزية تُدين الاستعمار، وتستعيد الكرامة المسلوبة.

في هذا السياق يبرز اسم دافيد ديوب (1927-1960) الذي سبقت الإشارة إليه سابقا، الشاعر السنغالي الذي عاش في فرنسا، وكتب معظم قصائده بالفرنسية. ورغم قصر حياته، فقد خلّد اسمه كأحد أبرز الأصوات الثائرة. في قصيدته الشهيرة "أفريقيا"، يحوّل الحنين إلى أرض الأجداد إلى دعوة صريحة للنهوض:

"أفريقيا، انهضي وامشي،

ليرتفع صوتك صافيًا

كالماء المنبثق من النبع".

هذه الأبيات البسيطة والمباشرة كانت بمثابة مانيفستو/بيان شعري لشباب القارة، تُذكّرهم بأن الاستعمار ليس قدرًا أبديًا، وأن النهوض يبدأ باستعادة الثقة بالذات.

هكذا ارتبط الشعر منذ البداية بمعركة التحرّر، لا كإضافة ثانوية أو ترف جمالي، بل كجزء أصيل من الفعل التاريخي. لقد كان الشعراء، في نظر شعوبهم، مقاتلين من نوع خاص: يقاتلون بالكلمة، ويمنحون الجماعة ثقتها بذاتها، ويحوّلون الألم إلى طاقة أمل. ولعل ما يميز هذا الشعر أنه لم يكن حبيس الصالونات الثقافية أو النخب، بل كان يُقرأ ويُنشَد في الساحات والجامعات والمظاهرات، ليصبح جزءًا حيًا من الذاكرة الشعبية.

وبينما كانت القارة الأفريقية في ثلاثينيات القرن العشرين، تعيش تحت وطأة الاستعمار الأوروبي، وطلابها يدرسون في باريس أو لندن محاطين بنظرات الاستعلاء والتمييز، وُلدت حركة الزنوجة بوصفها صرخة في وجه العنصرية الثقافية ومحاولة لاستعادة الجذور. أسّسها ثلاثة شعراء شباب سرعان ما سيصيرون رموزًا: إيمي سيزيروليوبولد سنغوروليون-غونتران داما. كان هؤلاء الثلاثة يعيشون تجربة الاغتراب المزدوج: من جهةٍ أبناء مستعمرات يعيشون في قلب فرنسا، ومن جهةٍ أخرى مثقفون يواجهون ثقافة أوروبية، تدّعي عالميتها بينما تحقر كل ما هو أفريقي. ومن هذا الجرح النفسي ولدت الزنوجة كإعلان شعري وفلسفي بأن السواد ليس عارًا، بل هوية وحضارة.

لم تكتفِ القصيدة الأفريقية بوصف الجرح، بل حوّلته إلى أمل

وفي ديوانه الأبرز المعنون بـ"دفتر عودة إلى الوطن الأم"، أطلق إيمي سيزير صرخته المدوية: التحرّر يبدأ باستعادة الشعوب صورتها عن نفسها. قصيدته الطويلة كانت أكثر من نص أدبي؛ بمثابة بيان ثوري بلغة شعرية ملتهبة، ترسم ملامح وعي جديد:

"لقد آن الأوان لنقول للعالم من نحن،

أن نستعيد أسماءنا وأغانينا،

وأن ننهض من رماد العبودية".

أما ليوبولد سنغور، الذي سيصبح لاحقًا أول رئيس للسنغال المستقلة، فقد سلك مسارًا مختلفًا قليلًا، حيث حاول في دواوينه مثل "أناشيد الظل" أن يحتفي بجمال الإيقاعات الأفريقية، ويعيد الاعتبار للتراث الشفهي. لكنه لم يكن منغلقًا على أفريقيا وحدها؛ بل كان يؤمن بفكرة طموحة أسماها "الحضارة الكونية"، حيث تتفاعل الثقافات جميعًا دون هيمنة، وتُغني إحداها الأخرى. بالنسبة إليه، الزنوجة لم تكن انغلاقًا هوياتيًا، بل بوابة للمساهمة في الإنسانية المشتركة.

في المقابل، حمل ليون-غونتران داما في ديوانه "الأصباغ" (1937) لغة أكثر حدة وغضبًا. قصائده كانت قصيرة ومشحونة وصاخبة، تفضح العنصرية، وتكشف آثارها على الروح والجسد. لقد عبّر عن الألم المباشر للمنفى والاغتراب، وعن شعور الأفريقي الذي يعيش في باريس محاصرًا بلون بشرته.

رغم اختلاف أساليب شعرائها، مهّدت هذه الحركة، الطريق لوعي أفريقي جديد يرى في القصيدة أكثر من مجرد مساحة جمالية: وسيلة لبناء الذات الجماعية، ومواجهة التفكك الذي فرضه الاستعمار. فقد علّمت الزنوجة الأجيال التالية أن الشعر يمكن أن يكون أداة فلسفية وسياسية في آن واحد، وأن الكلمة قادرة على ترميم ما دمّرته الهيمنة الثقافية.

ولعل قوة الزنوجة تكمن في كونها لم تبقَ مجرد تيار أدبي في باريس، بل تسللت إلى العواصم الأفريقية والكاريبية، حيث تلقفها الطلاب والنشطاء والفنانون، وصارت جزءًا من روح التحرر التي ستنفجر في الخمسينيات والستينيات مع موجة الاستقلالات.

في قلب القرن العشرين، حين كانت القارة الأفريقية تعيش مخاض التحرر من الاستعمار، وحين كانت الأمة العربية تبحث عن طريقها بين القومية والتحرر الاجتماعي، برز اسم محمد الفيتوري (1936-2015)بوصفه شاعرًا استثنائيًا جمع في قصيدته بين الانتماء الأفريقي العميق والهوية العربية الممتدة. فهو ابن السودان وليبيا معًا، ابن الصحراء والجنوب، وفي الوقت ذاته المثقف الذي تشكل وعيه في قلب القاهرة وفضائها الثقافي العروبي.

كان شعراء أفريقيا مقاتلين من نوع خاص: يقاتلون بالكلمة، ويمنحون الجماعة ثقتها بذاتها

لم يكن الفيتوري شاعرًا فرديًا، بل ضميرًا جمعيًا حمل همّين متوازيين: همّ القارة السوداء الباحثة عن ذاتها، وهمّ الإنسان العربي الطامح إلى الحرية والوحدة. من هنا جاء شعره مشبعًا بالتوتر بين الانتماءات، لكنه حوّل هذا التوتر إلى مصدر قوة إبداعية.

في ديوانه الأول "أغاني أفريقيا" (1955)، فجّر الفيتوري لغة جديدة في الشعر العربي، لغة تنبض بإيقاع أفريقي، وتخاطب قضايا التحرر بلحم ودم. يقول مخاطبًا الآخر البعيد والقريب:

يا أخي في الشرق، في كل سكن
يا أخي في الأرض، في كل وطن
أنا أدعوكَ .. فهل تعرفني؟
يا أخاً أعرفه .. رغم المحن

لم تكن هاته الأبيات مجرد نداء شعري، بل إعلان عن وحدة إنسانية عابرة للحدود، تستند إلى الألم المشترك والأمل المشترك. لا يكتفي الفيتوري هنا بأن يكون شاعرًا قوميًّا أو وطنيًا، بل يجعل من القصيدة جسرًا إنسانيًا، منفتحًا على الشرق والغرب، على الشمال والجنوب.

وفي قصيدته الشهيرة "أنا زنجي"، يرفع الفيتوري راية الهوية السوداء متحديًا، ويحوّل السواد من وصمة تاريخية إلى رمز قوة واعتزاز:

"أنا زنجي

قلها لا تجبن

قلها في وجه البشرية"

بهذه الكلمات الحادة، يواجه شاعر عربي العالم كله بلون بشرته، معلنًا أنّ التحرر يبدأ من المصالحة مع الذات والاعتراف بها. لم يعد السواد عارًا، بل أصبح راية ترفرف فوق الوعي الأفريقي والعربي على حد سواء.

وفي قصيدته "البعث الأفريقي" التي ربما يحمل جيلنا لها ذكرى، لكونها كانت من ضمن ما حفظناه من قصائد فرضها المنهاج الدراسي في المستوى المتوسط، يتوجه الفيتوري مباشرة إلى القارة، محرضًا إياها على النهوض:

"أفريقيا، أفريقيا استيقظي

استيقظي من حلمك الأسود

قد طالما نمتِ.. ألم تسأمي؟

ألم تملّي قدمَ السيد؟"

هنا تتجاوز القصيدة حدود التعبير عن الواقع لتتحول إلى مشروع ثوري، قصيدة ليست مجرد كلمات بل طاقة تحريضية، تسعى لإشعال وعي الشعوب بقدرتها على التغيير.

لقد شكّل الفيتوري بوعيه ولغته حلقة وصل بين نضالات أفريقيا السوداء وحركة الشعر العربي الحديث. ففي الوقت الذي كان فيه شعراء مثل: سعدي يوسف ومحمود درويش يكتبون عن الحرية في سياقها العربي، كان الفيتوري يمد القصيدة العربية إلى أفق أوسع، يجعلها جزءًا من حركة التحرر الأفريقية العالمية.

من هنا يمكن القول إنّ الفيتوري لم يكن شاعرًا لأفريقيا فقط، ولا شاعرًا للعرب فقط، بل شاعرًا للكونية من موقع أفريقي، أعاد تعريف الشعر العربي في ضوء تجارب السود والعبودية والتمييز والمقاومة. لقد جعل من الكلمة سلاحًا رمزيًا في معركة التحرر، ومن القصيدة مرآة تعكس جراحًا جماعية وآمالًا مشتركة.

وبرحيل محمد الفيتوري عام 2015 بالرباط/المملكة المغربية لم تُطوَ الأسئلة التي فجّرها شعره، بل ازدادت راهنية: هل ما زالت القصيدة قادرة على أن تكون سلاحًا في مواجهة التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية؟ أم أنها ستذوب في منافسة الوسائط الرقمية والموسيقية والسينمائية؟

الإجابة لا تكمن في نفي الدور الشعري، بل في إعادة تعريفه: فالشعراء الجدد، وإن غيّروا لغتهم أو وسائطهم، ما زالوا يستلهمون جوهر التجربة الفيتورية وتجارب أسلافه: تحويل الكلمة إلى مقاومة، والقصيدة إلى طاقة بعث جماعي.