الثلاثاء 10 ديسمبر 2024
يعد كتاب " تاريخ إثيوبيا الحديثة 1885–1991" لبحرو زودي، أحد كبار المحاضرين في جامعة أديس أبابا، مرجعًا لا غنى عنه في التاريخ الايثوبي الحديث، لأسباب ليس أقلها أنّه يُغطي بطريقة جيّدة التطورات الرئيسة في تاريخ البلاد منذ أكثر من قرن. يصوغ المؤلف روايته بالعودة إلى المناقشات التي تجري في مختلف المجالات الفرعية للتاريخ السياسي، الاقتصادي والثقافي، ويفتح، من بين أمورٍ أخرى، نوافذَ لإجراء أبحاثٍ إضافية. تنبع الكثير من المعلومات القيمة من أطروحات الطلاب في جامعة أديس أبابا الذين أجروا أبحاث ميدانية على التاريخ الشفاهي للمناطق والثقافات الإثيوبية. من الأشياء المثيرة الأخرى في الكتاب هي سلسلة التوضيحاتِ البصريّة المختارة بعنايةٍ—خرائطَ، رسوماتٍ وصورٍ فوتوغرافيّة—من منشوراتٍ وأرشيفاتٍ لا يمكن الوصول إليها بسهولةٍ.
يبدأ المؤلف بالأحداث في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بما في ذلك التحدي الخارجي. تتبع هذه الخلفية التمهيدية أربعة فصولٍ تتناول، على نحوٍ متتابعٍ، عهدي الإمبراطوريين تيودروس الثاني ويوحنس الرابع—ملوك المركزية والتحديث للمرتفعات الإثيوبية، ثمّ سنوات المواجهة مع الإيطاليين منذ هزيمتهم عام 1896 وحتى غزوهم للبلاد عام 1935 واحتلالهم لها حتّى عام 1941. يغطي الفصل الثالث الفترة من 1941 إلى 1974 والتي "تمثل ملخصاً للتاريخ الإثيوبي الحديث". وأضاف الكاتب في الطبعة الثانية من الكتاب فصلا أخيرًا يتناول الفترة من 1974 إلى 1991 بعد تغيير النظام في أديس أبابا في مايو/أيار 1991 وعن حقبة الاضطهاد والقمع الذي اتسمت فترة مانغيستو ماريم.
إن المواضيع الرئيسة للتاريخ الإثيوبي، والتي نعرفها من خلال الأعمال الأكثر تخصصيّةً في التاريخ الإيثوبي، نُسجت داخل شبكةٍ شاملةٍ تتضمن: الجغرافيا السياسية لمختلف المناطق داخل وحول المرتفعات الإثيوبيّة، إرث الصراع بين المسيحية والإسلام، سياسات السلالات، مسعى تشكيل الدولة، البنية الاجتماعية المتعددة الأعراق، العلاقات المعقدة مع الأجانب؛ وسيرورة وآثار التحديث في ظل حكم هيلا سيلاسي.
يمكن تسمية الإطار التفسيري لهذا التناول بالاقتصاديّ السياسي أو المادي، أي أن التمرحلات الكبرى واللحظاتِ الحاسمة في التاريخ الإثيوبي فُسّرت غالباً في ضوء صراعات القِوى، العمليات الاقتصادية، والمنافسة بين شخصيات أو مجموعاتٍ عالقةٍ في ساحة مشتركةٍ ولها مصالحُ متضاربة. يُنظر الكتاب مثلا إلى كثافةِ الاهتمام الأوروبي بإثيوبيا في أوائل القرن التاسع عشر على أنّ له أصولاً اقتصاديةً في جوهره: «إن تصنيع السلع الصناعية بما يتجاوز بكثيرٍ ما يمكن أن تستهلكه أوروبا نفسها جعل غزو السوق الإفريقيّة أمراً حتمياً»(ص 24). قد لا تكون هذه الحجة مقنعة تماماً. ويمكن التساؤل عما إذا كان تحليل كمي ما لنقلِ السلع من شأنه أن يعزّز هذا الادعاء إذا أخذنا في الاعتبار أنّ اقتصادات إفريقيا في ذلك الوقت لم تكن نقديةً. كان المستكشفون الأوائل لأفريقيا، بما في ذلك إثيوبيا، على نحوٍ غالب ممثلي تقليدِ متنامي ومستقلٍّ نسبياً بدأ في أواخر القرن السابع عشر واستمر مع ظهور الطبقات الوسطى البرجوازية الغربيّة للقرن الثامن عشر. وربما وجد حسّ التفوق لدى هذه الطبقة المتوسعة من المجتمع الأوروبي أوضح تعبيرٍ له في الجهود التبشيرية.
يولي زودي العناية لأهمية معركة "عدوة"—حيث هُزمت إيطاليا عام 1896 على يد الجيوش الإثيوبية للإمبراطور مينيليك الثاني—ويقدم أيضاً وصفاً جيداً للنظام الاجتماعي–الاقتصادي الإقطاعي للبلاد، بما في ذلك تجارة الرقيق ورأس المال التجاري الأجنبي والامتيازات. المسح الموجز ولكن المفصّل بشكلٍ ممتازٍ الذي قام به المؤلف ضروريٌّ لفهم المجتمع الريفي لتلك الفترة. ويناقش أحد الأقسام المثيرة للاهتمام ظهور انتليجنتسيا إثيوبيّةٍ في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين؛ وهي مجموعة أبيدت بلا رحمة على يد المحتلين الإيطاليين بعد عام 1936. وفي فصل لاحقٍ، سيحلل الأساس الاقتصادي للنظام الذي ترأسه هايلا سيلاسي بعد عام 1941، وإنجازات الإمبراطور التي غالبًا ما يُبالغ فيها، ولكن لا يمكن إهمالها في مجال التحديث، ويضعها في حجمها الطبيعي.
تحظى التطورات الاجتماعية والاقتصادية بالنصيب الأكبر من اهتمام الكاتب، مع احتفاظ هذا التاريخ بطابعه السياسي بشكل أساسي، كقصةِ تفاعل بين الأشخاص والمجموعات الاجتماعية والسياسية والقوى الأجنبية. ويولى اهتمام كبيرٌ لأعمال الأباطرة، ولا سيما تيودروس الثاني، ويوحنس الرابع، ومنيليك الثاني، بالإضافة إلى خصومهم المحليين والأجانب. على نحوٍ موجزٍ ولكن واضح بشكلٍ مثير للإعجاب، تُعرض جميع الأحداث الهامّة وذلك حتى عام 1991، وخاصّة صعود هايلا سيلاسي، الحملة والاحتلال الإيطاليين، حركة المقاومة الوطنية، «توطيد الحكم المطلق» بعد الحرب على يد الإمبراطور والثورات الناشئة، التّي ضمّت انقلاب عام 1960 والاحتجاجات الطلابية. وعلى الرّغم من أن الكتاب يأتي كمقدمةٍ في التّاريخ الإثيوبي، فقد حقق توازناً جيّداً بين العمليّات البنيويّة طويلة المدى وفاعليّةِ شخصياتٍ رئيسةٍ محددة.
ونظرًا لموقفه التفسيري للعديد من القضايا، يحفز زودي على إعادة التفكير وتوسيع النقاش حول التاريخ الإثيوبي الحديث - مثل تأثير الإمبريالية في إثيوبيا، وحول طبيعة ودوافع "الحكم المطلق" لهايلا سيلاسي، أي ذلك المزيج المثير لتوطيد السلطة والإصلاحات المجتمعيّة التدريجيّة.
في الطبعة الثانية للكتاب (منشورات كامبريدج 2017) وسّع الكاتب دراسته إلى فترة 1974—1991، ليشرح الثورة التي أطاحت بهيلا سيلاسي، وصعود نظام الدرج العسكري الماركسي بقيادة منغستو هايلي مريام. كما يناقش الإصلاحات الجذرية التي أُدخلت، بما في ذلك التأميم وإعادة توزيع الأراضي، وكذلك القمع السياسي والمجاعات.
يتعرض المؤلف أخيرًا للحجج القائلة بأنّ إثيوبيا ليست سوى فكرةً متخيّلة. وبطبيعة الحال، فإنّه توجد نقاشات حول هويتها التاريخية، الدينيّة والوطنية. ولكن عند مقارنتها تقريباً بأي دولة أخرى في القارة، فإن الروابط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وسلاسل التداخلات بين مختلف المجموعات العرقية–الإقليمية في ما يسمى بـ الهامش" وبين تلك المجموعات في مناطق المرتفعات واضحةٌ بشكلٍ صاخبٍ خلال مساحات واسعة من التاريخ. وعلى الرغم من أن الطريقة التي عُبّر بها سياسيّاً عن هذه العلاقات بلغة الغزو والاستغلال كانت موضع خلافٍ دائماً، ولكنّ ذلك لا يلغي صحتها.