تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

السبت 8 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
تحليلات

"كنا نتمنّى الموت"… شهادات من سجون إريتريا

2 أكتوبر, 2025
الصورة
"كنا نتمنّى الموت"… شهادات من سجون إريتريا
Share

في مكتب كنيسته المعتم، يستعيد الواعظ كيف كان يُعذَّب: كان حرّاسه يضعون عصًا خشبية خلف ركبتيه المثنيّتَين، يعلّقونه رأسًا على عقب من السقف، ثم يجلدون باطن قدميه بأنابيب مطاطية. وعلى مدى العقدين اللذين سبقا فراره مع أسرته عام 2020، قضى ثماني سنوات في الاحتجاز. بعضها في زنازين تحت الأرض خانقةٍ لا تتسع للاستلقاء، وأحيانًا أُجبِر على تكسير الحجارة وحصاد المحاصيل. وبين هذا وذلك، كانت غرف التعذيب، "كلّما يُودِعونك السجن لا يقولون لك كم ستبقى"، يقول.

كانت "جريمته" في نظر سلطات إريتريا مزدوجة: أنه يعظ في بلدٍ مقيَّد الحريات الدينية، ويقيم جلسات صلاة سرّية مع رعيّته؛ وأنه قاوم الخدمة العسكرية الإلزامية.

قضى الواعظ ثماني سنوات في الاحتجاز على مدى عقدين، بينها فترات في غرف تعذيب. تصوير: فريد هارتر.
قضى الواعظ ثماني سنوات في الاحتجاز على مدى عقدين، بينها فترات في غرف تعذيب. تصوير: فريد هارتر.

اليوم يعيش في الجارة إثيوبيا، وكغيره من نزلاء السجون الإريترية السابقين الذين تحدّثوا في إثيوبيا، طلب عدم ذكر اسمه، حتى هنا خشية أن تقتفي جواسيسُ النظام أثره.

تمنح شهاداتهم لمحةً نادرةً عن نظام «غولاغ» واسعٍ تديره إريتريا، إحدى أكثر دول الحزب الواحد قمعًا في العالم. يصفون ضربًا مبرّحًا، و"أوضاع إجهاد" مؤلمة، وأشكالًا أخرى من سوء المعاملة، إلى جانب ظروفٍ غير صحية، وعملٍ قسري، ومحاولات هروبٍ يائسة، وحالات وفاةٍ في مرافق احتجاز موزّعة على أنحاء البلاد.

إريتريا دولةٌ صغيرة على البحر الأحمر يقطنها 3.5 ملايين نسمة، وقد اكتسبت سمعة «كوريا الشمالية في أفريقيا». فمنذ نالت استقلالها عن إثيوبيا عام 1993، لم تُجرِ انتخاباتٍ عامة، ولم تُفعِّل دستورًا. حاكمها، أسياس أفورقي -الذي صار رئيسًا بعد قيادته حرب التحرير- حظر الأحزاب المعارضة والإعلام المستقل ومنظمات المجتمع المدني، والصحفيون الأجانب ممنوعون من الدخول ما لم يتعهدوا بتغطيةٍ "إيجابية".

كما تُجرّم السلطات التعبّد خارج الطوائف الأربع المُجازة رسميًا. وعلى الرغم من غناها بالمعادن، فإن "الصادرات" الأبرز لإريتريا هو البشر: إذ يعيش قرابة ثلث الإريتريين خارج البلاد فرارًا من الفقر والقمع وسياسة الخدمة العسكرية المفتوحة الأجل، التي يشبّهها تقرير للأمم المتحدة بالعبودية. "أن تكون جنديًا في إريتريا أمرٌ فظيع" يقول معتقَلٌ سابق. "إن رفعت يدك وتكلّمت، يأخذونك. لا حرّية هناك".

معتقلٌ إريتري سابق يعيش اليوم في تيغراي. تصوير: فريد هارتر.
معتقلٌ إريتري سابق يعيش اليوم في تيغراي. تصوير: فريد هارتر.

في عام 2023 كانت إريتريا رابع أكبر مصدرٍ لوصول المهاجرين إلى المملكة المتحدة عبر القوارب الصغيرة (2,662 وافدًا). لكن معظم اللاجئين الإريتريين يمكثون في شرق أفريقيا؛ إذ استضافت إثيوبيا وحدها 158,000 لاجئ في 2023.

أما من بقي داخل إريتريا فيخاطر بالتواري داخل منظومة احتجازٍ مترامية، تشمل زنازين تحت الأرض في قواعد عسكرية ومرافقَ سرّيةً إلى حدّ أن النزلاء أنفسهم لا يعرفون أسماءها. وفي بعض المراكز يُحشَر السجناء داخل حاويات شحنٍ خانقة في الصحراء.

يقول محمّد عبد السلام بابكر، المقررُ الخاص للأمم المتحدة المعنيّ بحالة حقوق الإنسان في إريتريا: "إنه نظامٌ مُصمّم لبثّ الرعب، وبسط السيطرة على حياة الإريتريين، ويؤدي دورًا بالغ الأهمية في خنق أي معارضة سياسية".

عام 2014 قدّرت الأمم المتحدة أن السجون العسكرية وحدها تضمّ ما لا يقل عن 14,000 شخص. ويشمل المحتجزون سياسيين معارضين وصحفيين وزعماء دينيين، إضافةً الفارين من التجنيد. ويرجّح بابكر أن هذا العدد ازداد إبّان الحرب الأهلية في إثيوبيا (2020–2022) التي شاركت إريتريا في جانب الحكومة الإثيوبية خلالها، وساقت مزيدًا من مواطنيها إلى الخدمة قسرًا.

يفيد مكتبته بأن التعذيب والاعتداءات الجنسية بحقّ المجنّدين أمرٌ شائع. إذ يروي معتقلٌ سابقٌ خدم 12 عامًا في الجيش الإريتري أنّه أُجبِر أثناء الاحتجاز على الوقوف لساعاتٍ حتى الكاحلين في رمال الصحراء الملتهبة. ينزع شبشبه البلاستيكي ليكشف قدميه الملطّختين بندوبٍ حمراء. يصف آخر كيف قُيّد فيما يُعرَف بـ«المروحية» -ربط اليدين والقدمين إلى الخلف في وضعية إجهاد. وثالثٌ يقول إنه ضُرِب ضربًا أفقده البصر في إحدى عينيه.

ندوب معتقلٍ تعرّض للتعذيب بإجباره على الوقوف حتى كاحليه في رمالٍ حارقة. تصوير: فريد هارتر.
ندوب معتقلٍ تعرّض للتعذيب بإجباره على الوقوف حتى كاحليه في رمالٍ حارقة. تصوير: فريد هارتر.

كان القاسمُ المشترك بين هؤلاء الثلاثة أنهم سُجنوا لأنهم تجاوزوا إجازاتهم السنوية من الجيش للعمل في المزارع لتأمين دخلٍ إضافي لأسرهم. "كانوا يكابدون العيش، وراتبي لم يكن يكفي لإعالتهم"، يقول أحدهم.

يقضي كثيرٌ من النزلاء فترات احتجازهم في ظلامٍ دامس. معتقلٌ سابق آخر أمضى ثمانية أشهر في مرفق يُعرَف باسم «القطاع ب» يقول إنه حُبس في مخبأٍ تحت الأرض مع مئاتٍ من السجناء. كان الظلام حالكًا إلى درجة أنّه بالكاد يرى يديه إذا قرّبهما من عينيه. ويضيف أن مرضى السكري وضغط الدم حُرموا الدواء، وأن القمل اجتاح الجميع. ولضيق المكان جلس السجناء في صفوفٍ طويلة وأرجلهم ممدودة لتفسح المجال لمن أمامهم. "يمكنك الوقوف لبضع دقائق فقط، هذا كل ما في الأمر"، يقول. "لا مكان تذهب إليه. مفاصلي كانت تؤلمني بلا انقطاع".

ولقتل الوقت كانوا يتبادلون قصص حياتهم وذكرياتهم عن البيت، لكنهم يتجنّبون السياسة خوفًا من أن يشيَ بهم مخبرٌ حكومي في الظلام. مات خمسة أشخاص في الزنزانة، كما يقول. كانت الجثث تُمرَّر فوق الرؤوس حتى الباب حيث يأخذها الحراس. "كان الموت أشبه بالراحة"، يضيف. "كان يتيح لنا أن نمدّ أرجلنا قليلًا".

لاجيءٌ إريتري وصف ظروف سجن «أدي أبيتو» بأنها «مثل الجحيم». تصوير: فريد هارتر.
لاجيءٌ إريتري وصف ظروف سجن «أدي أبيتو» بأنها «مثل الجحيم». تصوير: فريد هارتر.

يروي أربعة معتقلين سابقين ظروفًا مماثلة في مواقع أخرى. ففي مرفقٍ يُدعى «أدي أبيتو»، حُشِر النزلاء إلى حدّ أنهم كانوا ينامون بالتناوب على أرضٍ صلبة. ولردع محاولات الهرب، بعثر الحراس شظايا زجاجٍ مكسور في الساحة القاحلة التي يُسمَح للسجناء -حفاة الأقدام- بارتيادها مرةً واحدة يوميًا لقضاء الحاجة.

«كان ذلك أشبه بالجحيم»، يقول معتقلٌ سابقٌ سُجن لأنه تجاوز إجازته، ثم عاد إلى وحدته بعدما اعتقلت السلطات والده. وقد لجأ إلى إثيوبيا عام 2018، لكنه اليوم قلقٌ على ابنه المراهق الذي بقي في إريتريا: "عمره 17 عامًا -يكاد يبلغ سنّ التجنيد. كل ما حدث لي سيحدث له".

الهرب من إريتريا محفوفٌ بالمخاطر: لدى الحراس أوامر بإطلاق النار على من يحاول عبور الحدود. في مخيمٍ بتيغراي -أقصى شمال إثيوبيا- يرفع لاجئٌ إريتري كُمَّه ليُري أثرَ رصاصةٍ مدمّرة أصابته وهو يعبر نهرًا إلى إثيوبيا. وتروي امرأةٌ كيف تعرّضت للاغتصاب أمام أطفالها الصغار عند الحدود.

أثرُ رصاصةٍ مدمّرة في ذراع لاجئٍ أُصيب بينما كان يفرّ عبر نهرٍ إلى إثيوبيا. تصوير: فريد هارتر.
أثرُ رصاصةٍ مدمّرة في ذراع لاجئٍ أُصيب بينما كان يفرّ عبر نهرٍ إلى إثيوبيا. تصوير: فريد هارتر.

كان الاستقلال قد حمل آمالًا بالديمقراطية إلى إريتريا. لكن بعد حربٍ حدوديةٍ دامية مع إثيوبيا بين 1998 و2000، شدّد النظام قبضته: جمّد خططَ إقرار دستورٍ جديد واعتقل صحفيين وساسة إصلاحيين. من بينهم داويت إسحاق، الشريكُ في تأسيس «سِتِت»، أوّل صحيفةٍ مستقلةٍ في البلاد، والذي أمضى 23 عامًا خلف القضبان بلا محاكمة.

تقول ابنته بيتلهِم، المقيمة في السويد، إن أسرته لا تعرف مكان احتجازه، لكنها متيقنة من أنه على قيد الحياة. وفي تشرين الثاني/نوفمبر نال والدها جائزةً سويديةً مرموقة في مجال حقوق الإنسان. "لا يسعنا إلا أن نتخيّل ما مرّ به"، تقول بيتلهِم. "في 2001 -آخر مرة رأيته فيها- كان بالكاد يستطيع المشي من شدّة التعذيب".

وهي، شأنُها شأن الواعظ، تحلم بالعودة إلى الوطن. "حين غادرتُ إريتريا كنت أبكي"، يقول الواعظ. "لم أشأ أن أغادر. إنها بلدٌ جميل".

 

المادة مترجمة من هذا المصدر

المزيد من الكاتب