تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 15 مايو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
ثقافة

كمال داود: تتويج لفرنسا أكثر من الجزائر

25 نوفمبر, 2024
الصورة
الكاتب الجزائري كامل داود
الكاتب الجزائري كامل داود يقف خلال جلسة تصوير في مهرجان الأدب السادس والعشرين "Les Correspondances" في مانوسك، جنوب فرنسا، في 25 سبتمبر 2024. (تصوير جويل ساجيت / وكالة الصحافة الفرنسية عبر غيتي إيماجز)
Share
رغم عدم الاهتمام به في الجزائر كما يبدو، إلا أن كمال داود أصبح أول جزائري يحصل على أرفع وسام أدبي فرنسي هذا الأسبوع.

لم ينشر هذا الإنجاز سوى عدد قليل من الصحف الجزائرية الكبرى وجاء الخبر في زاوية صغيرة على صفحتها الأولى، كما لم يهنئه علنا سوى عدد قليل من زملائه المقربين منه على وسائل التواصل الاجتماعي. يبدو أن الخبر لم يحدث ضجة إعلامية كبيرة لدى معظم الجزائريين، ولا أستطيع أن أقول ما إذا كان كمال داود يستحق جائزة غونكور(Prix Goncourt)؛ التكريم الأدبي الأكثر شهرة في فرنسا. لم أقرأ كتابه الأخير، حالي كحال العديد من أقراني الجزائريين من جيل الألفية، وربما لن أقرئها.  

يبدو كمال داود أكثر أهمية في فرنسا منه في الوطن، فحاله حال اتفاقيات الهجرة الفرنسية الجزائرية لعام 1968 أو اعتراف ماكرون في الآونة الآخيرة بالمسؤولية العسكرية الفرنسية عن مقتل العربي بن مهيدي.  فلماذا كل هذا التغاضي عن هذا الكاتب الموهوب؟

أتذكر عدم توفر رغبة لدي في الإعجاب بداود حتى قبل مقابلته، فقد كنت أقرأ بعضا من مقالاته بشكل مقتصد، وكنت أجد في أغلب الأحيان مبالغة في وجهات نظره إلى حد محرج، إذ كانت معظمها أحادية الجانب.

في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز، عام 2016، بعنوان "البؤس الجنسي في العالم العربي"، كتب: "خلال الصيف في الجزائر، تخرج جماعة من السلفيين والشباب المحليين، الذين تحثهم خطب الأئمة المتطرفين والدعاة الإسلاميين التي تبث على شاشات التلفزيون، على مراقبة أجساد النساء، وخاصة على الشاطئ. في الأماكن العامة تطارد الشرطة الأقران، حتى المتزوجين. والحدائق محظورة على العشاق المتجولين. وتُفصل المقاعد إلى نصفين لمنع الناس من الجلوس بالقرب من بعضهم البعض".

إن تبقى الجزائر التي وصفها الكاتب، بالنسبة لي، أكبر من وصفها بمجرد مجموعة من الحوادث المعزولة؛ غالبا ما ينتهي بها الأمر إلى الإدانة والسخرية الشديدة، يتم عرضها مفصلة، لإرضاء جمهور اليمين في الغرب، لأن ما نشر ليس تصويرًا دقيقًا لحياتنا اليومية.  

لكنني لم أقم بصياغة تصوري قط بالكامل حتى التقيت بالرجل في مارس/آذار 2022. كنت أعمل منسقا لصحافي ياباني كان يريد السفر  إلى الجزائر لإجراء مقابلة مع داود حول كتابه التالي. التقينا في فندق أربع نجوم يطل على البحر الأبيض المتوسط ​​في وهران. كان داود دقيقا في مواعيده، وأطول مما توقعت، ومهذبا أيضا. كان يمشي بسرعة مشية على شكل إصبع البطة. تصافحنا ثم جلسنا، وطلبنا القهوة والمشروبات الغازية قبل بدء المقابلة.

قاطعتنا سيدة أنيقة المظهر تشبه إحدى عماتي، وكانت عاطفية، قائلة: "آسفة على المقاطعة. أردت فقط أن أقول لك إنني لا أحب مهاجمة الناس لك، وأؤكد وقوفي إلى جانبك بكل قوة. رغم أنني لا أقرأ كثيرًا، إلا أنني أدعمك، استمر".

بعد بضع دقائق، قاطع مقابلتنا رجل في الردهة، قال وهو يمر من أمامنا: "أردت فقط أن أهنئك على كل ما تفعله. حظا سعيدا". وأتذكر شعورا غمرني بالدهشة. ليس فقط بسبب المشاعر الصادقة التي انتابت معجبيه، بل لأنني أيضا كنت معجبا بهذا الرجل، لقد كان ثاقب البصيرة بشكل منعش.

ركزت المقابلة على جائحة كوفيد-19 في الجزائر، وكيف يمكننا رسم أوجه تشابه بين عصرنا ورواية الطاعون لألبير كامو، التي تدور أحداثها أيضًا في وهران. وعندما سُئل عن ملاحظاته الرئيسية خلال فترة الإغلاق، قال داود إنه: "أعاد اكتشاف الصمت. الصمت يسمح لك بسماع نفسك والعالم. وعلى عكس ما نعتقد، لم يعد الصمت والليل مرتبطين بشكل طبيعي. كنا بحاجة إلى الانفراد لإعادة اكتشافه".

عندما سُئل عن إحدى المعضلات الرئيسية في رواية كامو، وهي فكرة البقاء في مكان خطير أو ترك الأحباء خلفك، أجاب داود أيضًا بإجابة مدروسة. "بالنسبة لي، أن أعيش في الجزائر قرار طبيعي، لأنني حر في التنقل. عندما تكون حرًا، ترى حياتك بشكل مختلف. الأشخاص الذين يغادرون يقومون بذلك لأنهم لا يملكون خيارًا آخر. ألق نظرة على هذا البحر". وأشار إلى البحر الأبيض المتوسط ​​من فوق كتفه. "بالنسبة للسائح، فإن المنظر مريح، ولكن عندما لا تتمكن من السفر عبره، فإنه جدار".

رافقنا داود بعد المقابلة، في جولة في المدينة، لمشاهدة المكان الذي أقام فيه كامو في وهران. بل وكان لطيفاً إلى الحد الذي جعله يدعونا إلى منزله لمزيد من المناقشة. ولكن مع تحول حديثنا إلى المجتمع الجزائري، عادت شخصية داود في مقالاته إلى الواجهة، حيث انحصر تحليله لقضايا الإحباط الجنسي والقمع الديني.

هنا تكمن الازدواجية التي يتسم بها داود، أثناء إقامتي في الفندق، وجدته قادراً على تقديم ملاحظات عميقة ومتعددة الطبقات حول مفاهيم غير محسوسة، مثل "الصمت"، وتقديم منظور إنساني للهجرة. لكن عندما يتعلق الأمر بتشريح المجتمع الجزائري، فإنه يستخدم، مراراً وتكراراً، عدسة ثابتة ومبسطة بشكل مستحيل، وعاجزة عن التكبير أو التصغير لإدراج أو استبعاد مجموعة متنوعة من العوامل الأخرى.

اضطررت إلى التساؤل عما إذا كانت النخبة السياسية والثقافية اليمينية الفرنسية، على وجه التحديد، تقدره لهذا السبب. فهو يعبر عن آراء تعكس افتراضاتهم وتحيزاتهم الخاصة بشأن الطبقة العاملة الجزائرية، وهم يحتاجون إلى جزائري يعبر بصوت عال عما يفكرون فيه.

بعد مغادرة وهران في جو ودي، فكرت في داود أكثر. أتذكر أنني ناقشته مع الأصدقاء، وسألته: "كيف يمكن لشخص ذكي للغاية أن ينظر إلى الأمور بهذه البساطة؟ هل يؤمن بالفعل بما يكتبه، أم أنه يتصرف بطريقة غير صادقة لأغراض سياسية واقتصادية؟ وأيهما أسوأ؟".

لقد ذكّرني ترددي بحكاية طريفة حكاها لنا في وهران عن فترة عمله صحفيا، في جريدة "لو كوتيديان دوران" (يومية وهران)، أثناء الحرب الأهلية الجزائرية. كان يغطي مذبحة مزعومة ارتكبتها الجماعة الإسلامية المسلحة بالقرب من غليزان، وقد روى بوضوح كيف ركض صاعدًا التل باتجاه القرية، ورأى الناس يتدفقون في الاتجاه المعاكس. وفي مسرح الجريمة لم يجد جثثًا سليمة، بل مجرد أشلاء متناثرة. إن العيش في مثل هذه التجارب يمكن أن يثير اشمئزازك، لدرجة أنك تصبح غير راغب في التفكير في مفاهيم إسلاموية بطريقة دقيقة.

حتى اللحظة، كانت الاستجابة بالإجماع من الأصدقاء أن داود كان يعرف بالضبط ما كان يفعله اختياريا لتمثيل الجزائر بطريقة تخدم اليمين العنصري، وأنه كان يفعل ذلك لكسب الود، ودفع أجندة سياسية، وبمرور الوقت، توصلت إلى الموافقة على هذا التقييم.

حدثت أولى العلامات التي تدعم هذا الاستنتاج خلال احتجاجات الحراك الجزائري، عندما أساء داود تمثيل نطاق الاحتجاجات بشكل غير عادل، لمحاولة إضفاء الشرعية على حكومة تبون. وبعد ذلك، مُنح حق الوصول الحصري إلى الرئيس. واصل عمله دون مواجهة عوائق من السلطات الجزائرية، بصفته كاتب عمود في صحيفة "لوبوان"، على عكس الصحفيين الموضوعيين الآخرين المتهمين بالتأثر بالنفوذ الأجنبي. وبسبب إحجامه عن انتقاد الإرث الاستعماري لفرنسا في الجزائر، وجد نفسه مدعوًا إلى التجمعات في السفارة الفرنسية، وحتى تناول العشاء مع الرئيس ماكرون في الجزائر. وفي النهاية، حصل على الجنسية الفرنسية، مما عزز علاقاته بفرنسا.

لكن ما غير وجهة نظري حقًا تجاه داود ما قاله، في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، في مقال بعنوان: "رسالة إلى إسرائيلي مجهول"، صاغ فيها الدعم الجزائري للقضية الفلسطينية باعتباره استياءً تبسيطيًا، قائلاً: "لقد تعلمت ألا أعرف اليهودي الإسرائيلي، لأنك كنت عدوًا لله وفلسطين والعدالة والنبي، وكل شيء تقريبًا، لقد استاءت منك، وحلمت باختفائك في مكان ما ".

إن قيام مثقف جزائري بتحريف مفهوم الاستعمار الاستيطاني المعروف لدينا جميعاً، لا يمكن أن يكون إلا متعمداً. لذا، تهانينا لداود على حصوله على جائزة غونكور ـ فهي بلا شك سوف تجد جمهوراً متفهماً. ولكن إلى أن يبدأ في التعامل مع المجتمع الجزائري بشيء أكثر واقعيا من مجرد الازدراء، فإن تكريمه سوف يظل إنجازاً فرنسياً أكثر منه إنجازاً جزائرياً.