تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

السبت 8 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
حوارات

كاتدرائية مقديشو وسؤال الذاكرة الاستعمارية... حوار مع كلير ديلون

26 أكتوبر, 2025
الصورة
السودان: وزارة الإعلام أم وزارة وزير الإعلام؟
Share

حين شرعت مؤرّخة الفن كلير ديلون في دراسة كاتدرائية مقديشو المهدَّمة، لم تكن تستعيد سيرة معلمٍ منسيّ فحسب؛ فقد قادها البحث إلى كشف تفاصيل جديدة في تاريخ الصومال الاستعماري. شُيِّدت الكاتدرائية بين عامَي 1925 و1928 تحت الحكم الإيطالي على نموذج كاتدرائية تشيفالو القروسطية في صقلية. وبدت، في ظاهرها، تعبيرًا مهيبًا عن الإيمان والفن، لكن في جوهرها كانت بيانًا لطموحٍ استعماري، ومحاولةً معمارية لإضفاء شرعية على الاحتلال. وقد تخيّل القائمون على بنائها تصميمًا "يفرض نفسه" على سكان مقديشو، مُسوِّقين رؤيةً لانسجامٍ مُتوهَّم مع "بيئة المدينة وطرازها الشرقي".

انطلاقًا من وثائقٍ أرشيفية غير مُمحّصة في روما، تتبّعت ديلون شبكة تعاون غير متوقَّعة ضمّت مرسلين كنسيين ورعاةً ملكيين ومسؤولين فاشيين، أسهمت مجتمعةً في إخراج الكاتدرائية إلى حيّز الوجود. ويضع بحثُها هذا المعلم ضمن أنماطٍ أوسع من الاستعمار، مبيّنًا كيف استمدّت الطموحات الإمبريالية الإيطالية غطاءها من قراءةٍ انتقائية للماضي القروسطي. فـ«الطراز العربي–النورماني» الذي رُوِّج له، والمستند إلى سرديات التعايش بين ملوك النورمان في صقلية وسكانها المسلمين، صيغ ليُرمِّز إلى انسجامٍ مزعوم بين إيطاليا والصومال؛ غير أنّه حجبَ، في الواقع، نظامًا قائمًا على السُّخرة والتوسّع العنيف. ولهذا ترى ديلون أن ما يُقدَّم بوصفه "تمثيلًا سطحيًا للتسامح" لم يكن سوى رسالةِ هيمنةٍ ببلاغةٍ معمارية.

في هذا الحوار، تتحدّث كلير ديلون إلى"جيسكا"عن نتائج بحثها حول كاتدرائية مقديشو، كاشفةً دوافع بنائها، وطرازها «العربي–النورماني»، وكيف استُخدم هذا المظهر لتبرير التوسّع الاستعماري تحت لافتة الانسجام الثقافي والديني.

محبوب م. عبد الله: لنبدأ بأول لقائكِ مع كاتدرائية مقديشو. كيف عثرتِ عليها، وما الجوانب التي أقنعتكِ في تاريخها أو عمارتها أو سياقها الثقافي بأنها تستحق بحثًا جادًا؟

كلير ديلون: حتى أجيب عن أسئلتك، عليّ أن أتأرجح بين العصر الحديث، حين شُيِّدت كاتدرائية مقديشو، والعصور الوسطى التي يستدعيها تصميم المبنى. يتركز معظم بحثي على صقلية القروسطية، حين انتقلت من الإمبراطورية البيزنطية إلى الأغالبة والفاطميين المتمركزين في شمال أفريقيا، ثم إلى النورمان القادمين من فرنسا الحالية الذين فتحوا صقلية في القرن الحادي عشر. وبالنظر إلى هذه التحولات وإلى موقع الجزيرة في قلب المتوسّط، ضمَّ المجتمع الصقلي طيفًا واسعًا من البشر. وقد استرعت هذه التعدّدية اهتمامًا كبيرًا في العصر الحديث، ولا سيّما لِما تنطوي عليه من صلاتٍ تاريخية بين جماعاتٍ مسيحية ومسلمة ويهودية.

ينطوي تاريخ صقلية على أمثلة عديدة للتبادل الثقافي والتفهّم الديني، تُستثمر اليوم غالبًا لتعزيز التعايش والتعاون بين شعوبٍ ودولٍ في أوروبا وأفريقيا وآسيا. فمثلًا، استُدعي ماضي الجزيرة القروسطي مؤخرًا لتعضيد جهود إنقاذ المهاجرين في المتوسط، على أساس أن صقلية كانت دومًا مرحِّبة بمختلف الناس.

لكنني، قبل سنوات، حدستُ أن هذا التاريخ استُخدم أيضًا لأغراض أقل شمولًا. وعلى هذا الأساس، عثرت سريعًا على كاتدرائية مقديشو، المعروفة منذ زمن بأنها تُحاكي كاتدرائية تشيفالو القروسطية التي بدأ النورمان تشييدها في شمال غرب صقلية منذ عام 1131. وكاتدرائية مقديشو غريبة ومثيرة للاهتمام لأسبابٍ كثيرة: بخلاف الكنائس الأخرى القروسطية الطابع في المستعمرات الأفريقية لإيطاليا، تتّضح فيها المحاكاة الصقلية بلا التباس. لقد كانت تقاطعًا فريدًا بين اهتماماتي ومجالات خبرتي، ولم تكن قصتها قد سُردت كاملة بعد، لذا شرعتُ في تفكيك هذه الصلة بين صقلية القروسطية والصومال الحديث.

م. عبد الله: لماذا، برأيك، اختار المعماري أنطونيو فاندوني، مع المسؤولين الاستعماريين المبشِّرين، هذا الطراز «العربي–النورماني» للكاتدرائية؟

ديلون: كشفتُ في بحثي أن الطراز «العربي–النورماني» المزعوم للكاتدرائية كان مقصودًا به تمثيلُ سردية حكمٍ "متسامح" في المستعمرة، بغية نزع فتيل المقاومة المحلية للاحتلال الإيطالي، وإلهام الناس لاعتناق المسيحية. ولتفكيك الدافع وراء هذا التصميم، يلزم الرجوع إلى ماضي صقلية القروسطي وصلاتها الراسخة بالعالم الإسلامي، وبالأخص شمال أفريقيا. وقد تجسّدت هذه الصلات في عمارة النورمان، التي تقارب في بعض سماتها المساجدَ وسائر الآثار. فمثلًا، يمكن مقارنة أبراج أجراس كاتدرائية تشيفالو بمآذن في تونس.

بدت هذه الصلات التاريخية جذّابةً للقوى الاستعمارية في الصومال بعد قرون، فقد كان المأمول أن تستميل كاتدرائيةُ تشيفالو، بعناصرها "الإسلامية"، السكانَ المسلمين في معظمهم بمقديشو. بطبيعة الحال، يختلف شمال أفريقيا عن شرقها اختلافًا بيّنًا، لذا كانت هذه الوصلة مُفتعَلة، في الحدّ الأدنى.

ومن اللافت أن السلطات الإيطالية استغرقت وقتًا قبل الحسم باعتماد هذا التصميم القروسطي لكاتدرائيتها الحديثة. فقد دارت نقاشات مطوّلة قبل اختيار كاتدرائية تشيفالو نموذجًا؛ ولسوء الحظ لا يتضح تمامًا كيف نشأت الفكرة في مبتدئها. وقد فاجأني أن أعثر في الأرشيف على مقترحاتٍ أخرى لكنائسَ تستلهم مصادر تمتد من مستعمراتٍ إسبانية في الأميركيتين إلى لومبارديا في شمال إيطاليا. وتُظهر المراسلات الباقية بين المسؤولين الاستعماريين المبشِّرين أنهم انتهوا إلى اختيار تصميم فاندوني «العربي–النورماني»، لما سيخلّفه من أثرٍ قوي في المدينة الاستعمارية الجديدة، ولأن عناصره المعمارية "الإسلامية" زُعم أنها تتكامل مع سياقها المحلي.

م. عبد الله: خلال تدشينها، وُصفت الكاتدرائية بأنها رمزٌ لـ«فتحٍ سلمي». كيف ينبغي لنا فهم هذه العبارة على ضوء العنف والإكراه اللذين طبعا المشروع الاستعماري؟

ديلون: ما سُمّي آنذاك «الفتح السلمي» مفارقة لفظية طالما استخدمتها قوى استعمارية لتصوير نفسها كغزاةٍ محسنين. وقد عزّزت كاتدرائية مقديشو هذه السردية بإحالتها إلى المملكة النورمانية القروسطية، التي طالما امتدحها بعضهم على تسامحها مع المسلمين وغيرهم من الجماعات الدينية. فعندما فتح النورمان صقلية في القرن الحادي عشر، كانت الجزيرة تحوي نسبةً كبيرة من المسلمين، وأجاز الحكّام الجدد لتلك الجماعات الاستمرار في كثيرٍ من ممارساتها وتقاليدها. بل إن ملوك النورمان تبنّوا عاداتٍ عديدة من نظرائهم في المجتمعات الإسلامية، واستعانوا بمسلمين في البلاط الملكي، بلغ بعضهم مناصب رفيعة نسبيًا. ورغم أن ذلك المجتمع لم يكن مساواتيًا حقًا، فقد صُوِّر (في الحقبة التي شُيِّدت فيها كاتدرائية مقديشو، ويستمر هذا التصوير حتى اليوم) مجتمعًا تعدديًا متكافئًا.

كانت هذه القراءة للتاريخ القروسطي نافعة في صوغ صورة متسامحة خلال استعمار الصومال. لكن الواقع أن الحكم الإيطالي دخل مرحلةً عنيفة على نحوٍ خاص أثناء بناء الكاتدرائية بين 1925 و1928، إلى حدّ أن حاكم الصومال تشيزاري ماريا دي فيكّي واجه انتقاداتٍ داخل إيطاليا لشدّة سياساته في المستعمرة. لذا، لم يكن الفتح سلميًا البتة.

م. عبدالله: في مقالتكِ أوردتِ أسماء عمّالٍ محلّيين شاركوا في التشييد، كثيرٌ منهم مُكرَهين أو تقاضَوا أجورًا زهيدة أو تعرّضوا لإصابات، كما ذكرتِ حادثة مقتل أربعة أشقاءٍ صوماليين جرّاء انهيار جدار. ماذا يكشف هذا الثمن البشري عن التناقضات الأخلاقية الكامنة في المشروع؟

ديلون: هذا تناقضٌ مهم من بين جملة تناقضات أخرى. فمثل أغلب المستعمرين، روّج الإيطاليون لاحتلالهم بوصفه منفعةً للمستعمَرين؛ استثمارٌ حكومي في البنية التحتية، وخدماتٌ تعليمية وصحية يقدّمها المبشِّرون الكاثوليك.… إلخ. لكنه، بطبيعة الحال، مشروعٌ نفعي لأنفسهم؛ وقد قُرن بالعنف والاستغلال، من جرائم الحرب إلى شروط العمل الرديئة.

كان المبشِّرون على علمٍ بكثيرٍ من هذه المشكلات، وقد سجّلوا بعض الوقائع في أرشيفهم، لكنهم لم يناقشوها علنًا، لذا رغبتُ في نشر أكبر قدرٍ ممكن من تلك المعلومات. تعمّدتُ نسخ جميع أسماء العمّال التي عثرتُ عليها، إذ نادرًا ما تتوافر معلوماتٌ عن الذين شيّدوا المعالم فعليًا؛ فعادةً لا نملك سوى أسماء أصحاب السلطة الذين أمروا بالبناء أو صمّموا. كما أحلتُ إلى الروايات الشفوية التي جمعها هارون ق. محمود، والتي ذكرت أن بعض العمّال سقطوا من علٍ وفارقوا الحياة أثناء البناء.

أما الأشقاء الأربعة الذين ذكرتَهم، فقِيل إنهم قضَوا في يونيو/حزيران 1926، وقد سُجِّل هذا الحدث في الأرشيف. وشهد رجلان آخران بوفاتهم، وقالا إنهم جميعًا أُجبروا على العمل في الموقع بوصفهم سجناء. أمّا الأخُ الباقي الذي طلب تعويضًا فقد سُجن لاحقًا لجرائمَ أخرى على صلةٍ بالابتزاز، فصُرف النظر عن القضية، وعلى هذا الأساس أنكر الأرشيفي الإيطالي آنذاك وقوعَ الوفيات. مع مثل هذه الحكايات غير المحسومة، يتّضح أن في جعبة هذا المعلم ما يُقال بعد، وأن كثيرًا من تلك المعلومات محفوظٌ في ذاكرة الناس، أكثر مما هو في الوثائق الأرشيفية أو المنشورات الأكاديمية.

م. عبد الله: ماذا تكشف أطلال الكاتدرائية عن إرث الاستعمار الإيطالي واستمرارية الذاكرة في المشهد ما بعد الاستعماري؟

ديلون: كتبتْ إيمان محمد ببراعة عن الكيفية التي أعادت بها إيطاليا تشكيل البيئة الحضرية لمقديشو؛ ولا يزال ذلك الأثر يُعرّف المدينة إلى اليوم، وإنْ تبدّلَ كثيرًا عبر عقودٍ من العمران والدمار. ويفتح عملها نقاشًا معقّدًا حول ما ينبغي فعله لاستذكار الفصل الاستعماري من تاريخ الصومال، وهو نقاش لم يُحسَم بعد. وتتزايد رهاناته مع المساعي الأخيرة من جانب ساسةٍ ومنظماتٍ غير حكومية لإحياء النفوذ الإيطالي في الصومال.

تُعدّ الكاتدرائية محورَ هذه النقاشات، خصوصًا لأنها صُمِّمت لتكون مُهابة الحضور، ويبدو أن الكنيسة الكاثوليكية ما زالت تعتزم إعادة بنائها. وهي حالةٌ فريدة لأنها لم تُستملَك قطّ من الدولة الصومالية المستقلة، خلافًا لكثيرٍ من المباني الإدارية الإيطالية وسواها من المواقع التي أُعيد توظيفها. ويمكن مقارنة حالها الراهنة بكاتدرائية طرابلس في ليبيا، التي بناها الإيطاليون في الحقبة نفسها تقريبًا، لكنّها تحوّلت على النقيض إلى مسجد بعد الاستقلال. وعلى الرغم من أن كاتدرائية مقديشو أطلالٌ طالها الإهمال طويلًا ونالها تقصير الباحثين، فأحسبُها من أبرز ما ينبغي تناوله في أي حديثٍ عن إرث الاستعمار الإيطالي في العمران المديني للمدينة، نظرًا إلى كثرة القضايا التي تُثيرها.

وخلال بحثي صادفتُ تقريبًا كل المواقف الممكنة تجاه الكاتدرائية من الرغبة في هدمها إلى الأمل في إعادة بنائها، لكن استوقفني خصوصًا مقترحٌ صاغه تجمّع «Somali Architecture» قبل سنوات. تصوّر أصحابُه إعادة توظيف الموقع ليغدو رمزًا للتسامح يُحيل إلى فترة استقلال الصومال، قبل الحرب، بدلًا من تسامح الحقبة الاستعمارية. تلك مقاربةٌ أخّاذة لإعادة تأويل المعلم، لا سيّما بعدما بتنا نعرف أن الإيطاليين اختاروا التصميم «العربي–النورماني» ليرمز إلى المفهوم نفسه. بمعنى ما، يتبنّى هذا التجمّع إرث التسامح، ويعيد تعريفه في سياقٍ ما بعد استعماري.

م. عبد الله: المواقع التي تدرسينها غالبًا ما تحمل آثار صراعٍ وتحولات. كيف أثّرت تلك التواريخ والحساسيات والظروف الصعبة الأخرى في منهجكِ؟

ديلون: بوصفي باحثةً غير صومالية، حرصتُ على مراعاة موقعي والقصص التي ينبغي أو لا ينبغي لي أن أرويها. ومن ثمّ ركّزتُ عمدًا بحثي على الحقبة الاستعمارية والقوى الخارجية الأخرى في الإقليم، وهو نهجٌ أشعر أنه ينسجم مع منظوري بوصفـي وافدة. وآملُ، في المستقبل، أن يقدّم باحثون صوماليون وأبناء المجتمع مزيدًا من المعلومات عن الكاتدرائية في الحقبة ما بعد الاستعمار، وسأكون سعيدةً بدعم ذلك العمل بكل ما أستطيع.

المزيد من الكاتب