تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

السبت 8 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
تحليلات

جزر إيبارس.. إرث استعماري يتحول ورقة جيوسياسية بين فرنسا ومدغشقر

8 سبتمبر, 2025
الصورة
جزر إيبارس.. إرث استعماري يتحول ورقة جيوسياسية بين فرنسا ومدغشقر
Share

تتجدد النزاعات السيادية في أفريقيا والمحيط الهندي كلما أُثيرت قضايا الجزر الصغيرة التي خلّفها الاستعمار وراءه، وظلّشت موضع تنازع بين القوى الاستعمارية والدول المستقلة. ويأتي الخلاف القائم بين فرنسا ومدغشقر حول جزر إيبارس، أو ما يُعرف بـالجزر المتناثرة، كأحد أبرز هذه الملفات العالقة التي تجمع بين الإرث الاستعماري والحسابات الجيوسياسية. فبينما تراها باريس ورقة استراتيجية لضمان حضورها البحري في قناة موزمبيق، تتمسك أنتاناناريفو باستعادتها باعتبارها حقًا سياديًا لا يقبل المساومة.

مفاوضات متعثرة بين تمسك مدغشقر وضغوط فرنسا

اختتمت في يوليو/تموز 2025 الجولة الثانية من اجتماعات اللجنة المشتركة بين مدغشقر وفرنسا في باريس بشأن النزاع القائم حول الجزر المتناثرة. وانتهت المباحثات إلى مجرد الاعتراف بوجود خلاف سيادي بين الجانبين، من دون أن يفضي ذلك إلى أي اختراق ملموس في مسار التسوية. ففي الوقت الذي أصرت فيه باريس على أن مسألة السيادة ليست موضع تفاوض، حيث دخلت الجولة بمقاربة محدودة تمحورت حول مقترح الإدارة المشتركة. غير أن أنتاناناريفو رفضت هذا الطرح بشكل قاطع، مؤكدة أن أي نقاش حول ترتيبات الإدارة لا يمكن أن يسبق استعادة السيادة على الجزر.

جاء هذا التعثر ليعكس تمسّك مدغشقر بمطلبها الأساسي المتمثل في استعادة السيادة الكاملة على الجزر المتنازع عليها، مع التأكيد على حقها في المطالبة بتعويضات عن الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها منذ فصل هذه الجزر عن أراضيها عقب الاستقلال. كما ترفض أن تُتخذ بشأن الجزر أي قرارات أحادية الجانب، مثل الخطوة الفرنسية بتحويل جزيرة غراند غلوريوز، إحدى جزر إيبارس، إلى محمية طبيعية عام 2021. وتسعى مدغشقر كذلك إلى تأمين حقوق الصيد لمواطنيها في محيط هذه الجزر، إضافة إلى ضمان مشاركة علمائها وباحثيها في البرامج البحثية التي تُجرى فيها.

تعد الجزر المتناثرة ركيزة أساسية لما يُعرف بـمثلث القوة الفرنسي، الذي يضم أيضًا جزيرتي ريونيون ومايوت

لكن هذا الموقف الصلب لا يلغي قناعة بعض المسؤولين بجدوى إبقاء باب الحوار مفتوحًا. إذ رأت وزيرة الخارجية الملغاشية راسا رافارافافيتافيكا أن انعقاد الجولة الثانية من المفاوضات يمثل خطوة إيجابية، معتبرة أن الحفاظ على مسار تفاوضي يحترم القانون الدولي يشكل مؤشرًا مشجعًا، رغم ما يكتنف الملف من تعقيدات. لكن هذه النظرة المتفائلة لم تجد صدى لدى جميع الأطراف الداخلية؛ إذ انتقد المحلل السياسي سيرج زافيماهوفا الاكتفاء بالمسار التفاوضي، مفضلًا خيار اللجوء إلى محكمة العدل الدولية أو طرح القضية على اللجنة الخاصة بإنهاء الاستعمار في الأمم المتحدة.

تتجاوز دلالات هذه الجولة الأخيرة سياقها التفاوضي المباشر، لتعكس تحولات أوسع في الحضور الفرنسي بالقارة. فعودة باريس إلى مدغشقر لم تكن معزولة عن تراجع نفوذها في أفريقيا عقب طردها من مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، وما ترافق مع ذلك من أزمة اقتصادية داخلية تفاقمت بفعل فرض الولايات المتحدة الأمريكية رسوم جمركية 25٪ على منتجاتها. وإزاء هذا الوضع، تسعى فرنسا إلى إعادة بناء شراكات جديدة لتعويض خسائرها الاستراتيجية.

تجلّى هذا المسعى بوضوح في زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى مدغشقر في أبريل/نيسان 2025، وهي الأولى لرئيس فرنسي منذ عقدين، حيث حاولت باريس إعادة تموضعها في أفريقيا، بعد إدراكها أن الخطاب العسكري فقد بريقه في القارة. ولإعادة صياغة صورتها، حمل ماكرون معه حزمة من الاتفاقيات الاقتصادية والتنموية قدّمت فرنسا في صورة شريك للتنمية. فقد التزمت وكالة التنمية الفرنسية بتمويل بناء سد فولوبي للطاقة الكهرومائية، إلى جانب اتفاقيات أخرى شملت مجالات البنية التحتية والزراعة والتعليم والطاقة، في محاولة لتوسيع مجالات التعاون بما يتجاوز الملف السيادي المعلّق حول الجزر.

المطالب الملغاشية في مواجهة المناورة الفرنسية

شهد عام 2019 انطلاق الجولة الأولى من المفاوضات بين مدغشقر وفرنسا، بعدما دعا الرئيس الملغاشي أندري راجولينا نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إيجاد حل للنزاع حول جزر إيبارس، باعتبارها قضية ترتبط بالهوية الوطنية للبلاد. وفي هذا السياق، طرح ماكرون مبادرة تقضي بتشكيل لجنة مشتركة بين الجانبين لتسوية الخلاف بعيدًا عن المسارات القضائية أو تدخل المنظمات الدولية. وكان من المقرر أن يتوج هذا المسار بتطبيق إطار للتعاون في يونيو/حزيران 2020، تزامنًا مع الذكرى الستين لاستقلال مدغشقر. غير أن المقترح قوبل برفض وجدل واسع في الداخل.

تستند مدغشقر في تمسكها بالمطالبة بجزر إيبارس إلى مسار تاريخي طويل يعود إلى عام 1972، حين رفعت العاصمة أنتاناناريفو مطلب استعادة السيادة على هذه الجزر بعد استقلال البلاد عن فرنسا عام 1960. وتشمل مجموعة جزر إيبارس كلًا من جزيرة باساس دا إنديا، وجزر أوروبا، وجزيرة خوان دي نوفا، وتروملين، وجزر غلوريوسو. ولا يعيش في هذه الجزر أي سكان أصليين، إذ يقتصر تواجد البشر على نحو 14 شخصًا من العسكريين وموظفي الأرصاد الجوية الفرنسيين.

كما عززت مدغشقر موقفها القانوني والسياسي من خلال قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادرة عامي 1979 و1980، والتي طالبت فرنسا بإعادة هذه الجزر، وهو ما منح المطالب الملغاشية غطاءً دوليًا لدعم استمرار المطالبة بالسيادة على هذه الأراضي.

جاء قرار المملكة المتحدة في مايو/أيار 2025 بنقل سيادة أرخبيل تشاغوس إلى موريشيوس ليعزز بدوره الموقف الملغاشي في نزاعه مع باريس. واعتبرت صحيفة لوموند هذه الخطوة إعادة فتحٍ لملفات الجزر الصغيرة في المحيط الهندي، ورأت فيها رسالة قوية تصب في صالح المطالبات المدغشقرية استنادًا إلى حجج مشابهة قانونيًا وتاريخيًا.

بينما ترفع باريس شعارات التعاون وحماية البيئة والتضامن، تمارس في الواقع سياسة باردة لترسيخ حضورها الاستراتيجي

أعادت السابقة البريطانية إحياء قضايا سيادية أخرى، من بينها مطالبة جزر القمر باستعادة جزيرة مايوت. فقد أيّدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في أربعة عشر قرارًا صدرت بين عامي 1976 و1994 حق الجزر في العودة إلى السيادة القمرية. غير أن فرنسا رفضت تلك القرارات، وأبقت الجزيرة تحت إدارتها، فارضةً على سكانها البالغ عددهم نحو 321 ألف نسمة الحصول على تأشيرة خاصة، تُعرف باسم "الأدور" لدخول بقية جزر الأرخبيل.

أمام هذه الضغوط المتزايدة، تتمسك باريس بموقفها، معتبرة أن الجزر المتناثرة تشكل جزءًا لا يتجزأ من استراتيجيتها البحرية في المحيط الهندي. فبحسب تقرير لموقع فرانس 24، تعد الجزر المتناثرة ركيزة أساسية لما يُعرف بـمثلث القوة الفرنسي، الذي يضم أيضًا جزيرتي ريونيون ومايوت. ويمنح هذا المثلث فرنسا نفوذًا بحريًا وعسكريًا واسعًا، فضلًا عن موقع متقدم في مواجهة التمدد الصيني والروسي المتنامي. فبينما تكثف بكين حضورها عبر مبادرة الحزام والطريق، ولا سيما من خلال مشاريع كبرى، مثل "بايز توليارا" للتعدين وتطوير الموانئ في مدغشقر، مدعومة بجالية صينية تُقدَّر بأكثر من 100 ألف نسمة، تسعى موسكو إلى توطيد مكانتها عبر دعمها السياسي والدبلوماسي لموقف مدغشقر في نزاعها مع فرنسا، إضافة إلى تعزيز وجودها العسكري وإجراء مناورات مشتركة مع دول المنطقة.

نفوذ بحري واسع في قلب التنافس على المحيط الهندي

لا تقتصر أهمية الجزر علي بعدها السياسي، فرغم أن مساحة جزر إيبارس لا تتجاوز 43 كيلومترًا مربعًا، فإن السيطرة الفرنسية عليها تمنح باريس نفوذا بحريا واسعا، يمتد لنحو 640 ألف كلم مربع. ويتيح موقع هذه الجزر في قلب قناة موزمبيق لفرنسا التحكم فعليًا بأكثر من نصف القناة، الغنية بالهيدروكربونات والثروات السمكية، فضلاً عن كونها ممرًا رئيسيًا يمر عبره نحو 30٪ من تجارة النفط العالمية. كما تشير التقديرات إلى احتواء المنطقة على نحو 12 مليار برميل من النفط و5 آلاف مليار متر مكعب من الغاز المحتمل، ما يعكس الأهمية الاقتصادية الكبرى لهذه الجزر الصغيرة.

تتجاوز دلالات هذه الجولة الأخيرة سياقها التفاوضي المباشر، لتعكس تحولات أوسع في الحضور الفرنسي بالقارة

تُشكل هذه السيطرة أساس المنطقة الاقتصادية الخالصة الفرنسية في المحيطين الهندي والهادئ، التي تمثل نحو 93٪ من إجمالي المساحة البحرية الفرنسية، لتصبح ثاني أكبر منطقة بحرية على مستوى العالم بمساحة تقارب 11 مليون كلم مربع. ويُنظر إلى هذه المساحات باعتبارها ركائز أساسية في المحيط الهندي، إذ تمنح باريس القدرة على تعزيز نفوذها البحري والعسكري، واستغلال الموارد الاقتصادية، وممارسة تأثير استراتيجي في قلب أحد أهم الممرات البحرية الدولية، مع توقع أن تسهم منطقة المحيطين الهندي والهادئ بحوالي 60٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2030.

يبقى النزاع حول جزر إيبارس شاهدًا حيًّا على استمرار تركة الاستعمار في تشكيل خرائط النفوذ في العالم المعاصر، حيث يوضح أن هياكل الهيمنة القديمة لم تختفِ، بل أعادت إنتاج نفسها بأشكال جديدة. فبينما ترفع باريس شعارات التعاون وحماية البيئة والتضامن، تمارس في الواقع سياسة باردة لترسيخ حضورها الاستراتيجي. وفي ظل احتدام التنافس الدولي على المحيط الهندي، سيظل مستقبل هذه الجزر مرهونًا بموازين القوى الإقليمية والدولية، الأمر الذي يجعل معركة السيادة مسألة تتطلب وعيًا عميقًا بطبيعة الصراع وقدرة جماعية على مواجهته.