السبت 8 نوفمبر 2025
توفي الشاعر الجنوب أفريقي جيمس ماثيوز في 7 من سبتمبر/أيلول 2024 عن عمر ناهز 95 عاما، وتُستعاد سيرته مع حلول الذكرى الأولى لرحيله في سياق احتفائي يذكّر بمكانته الاستثنائية، باعتباره آخر الأصوات الكبرى في جيل الكتّاب الذين واجهوا نظام الفصل العنصري القمعي في جنوب أفريقيا.
ظلّت تجربته الأدبية والسياسية رمزا للمقاومة الثقافية؛ إذ دفع ثمن مواقفه تعرّضه للملاحقة والاعتقال وحظر أعماله، لكنّه واصل الكتابة والنشر والمشاركة في الحياة العامة. مؤكّدا أنّ الكلمة يمكن أن تكون سلاحا في وجه الظلم. وفي هذا الاسترجاع، لا يُنظر إلى ماثيوز بكونه شاعرا فحسب، بل أيقونة ثقافية ومثقّفا ملتزما، ترك أثرا عميقا في الذاكرة الأدبية والسياسية لجنوب أفريقيا ولحركات التحرّر في العالم.
وُلد جيمس ماثيوز في 24 ماي/آيار 1929 في منطقة بو كاب بمدينة كيب تاون، وهو الابن الأكبر من بين ستة أطفال. تلقّى تعليمه في الحي السادس بمدينة كيب تاون، وهي منطقة جرى فيها تهجير السكان السود قسريّا، لإفساح المجال لمشاريع التنمية المخصّصة للبيض.
عمل الراحل في عدّة وظائف بسيطة في بداياته، قبل أن يتم توظيفه كاتب تحرير وموظّف هاتف في صحيفة كيب تايمز. كما عمل مراسلا لصحيفة "غولدن سيتي بوست" الخاصّة بالسود في جوهانسبرغ، ولاحقا كتب لصحيفة "مسلم نيوز" تحت إشراف الإمام عبد الله هارون، أحد أوائل النشطاء المناهضين للفصل العنصري الذين توفوا أثناء الاحتجاز على يد الشرطة عام 1969.
لم يكن يرغب في أن تُقيّده القوى السياسية السلطويّة، كما كان يرفض نظام الفصل العنصري رفضا شديدا
منذ صباه، كان جيمس ماثيوز مهتمّا بالكتابة بشكل مستمر. وقد لاحظ بعض معلميه موهبته وشجّعوه على تنميتها. ورغم تركه المدرسة قبل إتمام المرحلة الثانوية، استمرّ شغفه بالأدب دون انقطاع. نشر ماثيوز أوّل قصّة له في صحيفة "The Sun" في كيب تاون، وهو في السابعة عشرة من عمره، ومنذ ذلك الحين لم يكن هناك رجوع عن مساره الأدبي.
بدأ ماثيوز مسيرته بكتابة القصص القصيرة، حيث نشر نصوصا في مجلات مختلفة، مثل: "Hi-Note" (هاي-نوت) و"Drum" (درام)، كما شارك في مجموعة بعنوان "Quartet" (الرباعية، 1963) التي حرّرها الكاتب الجنوب أفريقي الشهير ريتشارد ريف. وقد صدرت مجموعته القصصية "Azikwelwa" (لن نصعد، 1962) في الخارج، قبل أن يُعاد نشرها لاحقا محليّا تحت عنوان "The Park and Other Stories" (الحديقة وقصص أخرى، 1983). أما روايته السيريّة "The Party is Over" (انتهت الحفلة، 1997)، فقد كانت قد نُشرت أوّلا بالألمانية عام 1986.
نشر ماثيوز أوّل قصّة له في صحيفة "The Sun" في كيب تاون وهو في السابعة عشرة من عمره
اعتبارا من سبعينيات القرن الماضي، ركّز جيمس ماثيوز اهتمامه بصورة شبه حصرية على كتابة الشعر، وأصبح يُعرف أساسا شاعرا. من أبرز مجموعاته: "Cry Rage" (اصرخ غضبا، 1972)، Pass Me a" Meatball, Jones" (ناولني كرة لحم، يا جونز، 1977)، "No Time for Dreams" (لا وقت للأحلام، 1981)، و"Poisoned Wells and Other Delights" (آبار مسمومة وملذّات أخرى، 1990). وقد تميّز شعره المبكّر بموقفه السياسي الملتزم وبوعيه النضالي، مع نمو وعيه الذاتي الذي ارتبط بحركة الوعي الأسود.
نعتبر اليوم جيمس ماثيوز كاتبا سياسيا ملتزما ذا أهميّة خاصة، لا سيما خلال فترة القمع السياسي والاجتماعي في جنوب أفريقيا. لقد كان صوته متواصلا في الدفاع عن التحرّر السياسي وحرية التعبير. ولم يكن يرغب في أن تُقيّده القوى السياسية السلطويّة، كما كان يرفض نظام الفصل العنصري رفضا شديدا.
يمكن القول إنّ أهمّ قوّة أثّرت في مسيرة ماثيوز الكتابية كانت القيود الصارمة التي فرضها نظام الفصل العنصري على السود. ومن الضروري تذكّر أنّ الفصل العنصري لم يقتصر على تقسيم الناس إلى فئات اجتماعية تحدّ من إمكاناتهم، بل أجبرهم أيضا على ترك أراضيهم ومنازلهم وأفقَرهم، ودمّر أحيائهم، مستحدثا صورة زائفة لهم باعتبارهم أناسا دون مستوى الآخرين. وقد واجه ماثيوز هذه اللا إنسانية تقريبا بصورة حدسيّة في كتاباته.
في أواخر الستينيات، وجد ماثيوز أنّ حركة التحرّر وفلسفة الوعي الأسود جذّابتان للغاية، لا سيما المبادئ الأساسية لها المتعلّقة بالاكتفاء الذاتي، واعتداد الشخص بنفسه، والتركيز على القواسم المشتركة بين جميع المقهورين في البلاد.
أدت كتاباته ومعارضته لنظام الفصل العنصري إلى وضع ماثيوز في مرمى الحكومة العنصرية. ولم يتمكّن لفترة من السفر دوليّا، كما قامت الحكومة بحظر كتبه، واحتُجز لفترات طويلة في مناسبات عدّة.
كان جيمس ماثيوز شخصا استثنائيّا وغير ملتزم بالمعايير التقليديّة، ولم يسمح أبدا للقواعد المقيّدة أن تحدّ من حريته
تركّزت أعمال ماثيوز الشعرية بعد عام 1994 على القضايا الاجتماعية التي شغلت فكره، مثل: الفقر والتهمش والأحلام غير المتحقّقة، إضافةً إلى السياسات المرتبطة بالتمييز العرقي والاجتماعي التي مارستها الحكومة الجديدة، بما في ذلك تجاوزاتها وتصاعد نزعة كراهية الأجانب. كما لم تغب موضوعات الشيخوخة والموت عن تجربته الشعرية، وهو ما يتجلّى بوضوح في مجموعاته: "Flames and Flowers" (لهيب وزهور، 2000)، "Age is a Beautiful Phase" (العمر مرحلة جميلة، 2008)، و"Gently Stirs My Soul" (اهتزاز رقيق لروحي، 2015).
كان جيمس ماثيوز شخصا استثنائيّا وغير ملتزم بالمعايير التقليديّة، ولم يسمح أبدا للقواعد المقيّدة أن تحدّ من حريته. وغالبا ما وضعه هذا الأمر في مواقف صعبة حتى بين أصدقائه، لكنّه حين استُخدم إيجابيّا أدّى إلى لحظات ثقافية بارزة. على سبيل المثال، أسّس أوّل معرض فني مملوك للسود في كيب تاون، في ضاحية أثلون.
كانت دار النشر Blac التي أسّسها ماثيوز تصدر أعماله بالإضافة إلى أعمال كتّاب آخرين. وفي شيخوخته، كان غالبا ما يقدّم ورشا للكتابة الشعرية للمتعلّمين وطلبة الجامعات في مختلف أنحاء البلاد.
ومن الضروري النظر إلى أعمال ماثيوز على أنّها تعكس رؤية كاتب تجاه بيئة معيّنة، حيث تُعبّر كلّ واحدة من مجموعاته الشعرية عن لحظة تاريخيّة محدّدة في جنوب أفريقيا. ويُفضّل تقييم أثره الأدبي من خلال النظر إلى مجموع أعماله ككل وتأثيرها الثقافي والاجتماعي.
ينظر إلى أعمال ماثيوز على أنّها تعكس رؤية كاتب تجاه بيئة معيّنة، حيث تُعبّر كلّ واحدة من مجموعاته الشعرية عن لحظة تاريخيّة محدّدة في جنوب أفريقيا
حظي جيمس ماثيوز بالاعتراف الدولي منذ وقت مبكّر في مسيرته الأدبية. ففي الولايات المتحدة، نال جائزة Woza Afrika (1978)، وأُدرج اسمه ضمن قائمة تكريم Kwaza (1979)، وحصل على زمالة في الكتابة من جامعة آيوا. أما في ألمانيا، فقد مُنح جائزة حرية مدينتين هما ليرت ونورمبرغ.
ومع ذلك، لم يحصل على الأوسمة ودرجات الدكتوراه الفخرية في جنوب أفريقيا إلّا في الحقبة الديمقراطية. ففي عام 2004، مُنح وسام الدولة إكهامانغا (National Order of Ikhamanga) تقديرا لإنجازاته المتميّزة في الأدب، ومساهماته في الصحافة، ولالتزامه بالنضال من أجل جنوب أفريقيا غير العنصرية. وفي سنة 2022، أقرّت وزارة الفنون والثقافة بأنّه «أسطورة بشرية حية».
ثقافيا، يمثّل رحيله نهاية حقبة. فقد كان جيمس ماثيوز مؤسّسة أدبية وثقافية في كيب تاون، وأيقونة بارزة في المشهد الثقافي للمدينة. وهناك حتى جداريات تخلد وجوده في أحد الشوارع الرئيسيّة في المدينة.
في الأدب الجنوب أفريقي، يُعدّ ماثيوز جزءا من جيل من الكتاب السود الرائدين الذين أسّسوا فعليّا تقليد الكتابة المقاومة خلال خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن العشرين. وكانت أعماله من بين أوائل الأعمال التي حُظرت من قِبل حكومة الفصل العنصري، كما كان صوته من الأصوات البارزة في المعارضة خلال فترة صعبة للغاية في تاريخ البلاد.
يمثّل جيمس ماثيوز نموذجا فريدا للكاتب المثقّف والمقاوم، الذي لم ينفصل عن بيئته الاجتماعية والسياسية، واحتفظ بصوته النقدي والإنساني رغم القمع والتهديدات المستمرّة. لقد جسّد في مسيرته الأدبية والسياسية قدرة الكلمة على أن تكون أداة للتحرّر والمقاومة، وترك أثرا خالدا في الأدب الجنوب أفريقي والعالمي، ليس فقط من خلال أعماله المنشورة، بل أيضا من خلال المبادرات الثقافية والتعليميّة التي أسّسها ونقلها للأجيال التالية.
تُظهر حياة وإبداعات الراحل كيف يمكن للكتابة أن تتجاوز حدود الفن لتصبح ممارسة للعدالة والحرية، وتجعل من الكاتب شاهدا وفاعلا في آنٍ واحد على التحوّلات الاجتماعية والتاريخية. وبذلك، يظل إرث ماثيوز مصدر إلهام للباحثين والقراء والمثقّفين، ويؤكّد على الدور المركزي للأدب المقاوم في فهم التجربة الإنسانية تحت أنظمة القمع والفصل العنصري.