تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 15 مايو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
ثقافة

جيمس بلدوين وأفريقيا: جدل في الغرفة المجاورة

28 مارس, 2025
الصورة
Geeska cover
Share

يمثل إسهام الكاتب الأفروأمريكي، ذاع الصيت، جيمس بلدوين (1928-1986) في نقد العنصرية والاستعمار الأبيض مرحلة متقدمة للغاية في مجمل تاريخ النضال الأفريقي؛ إذ اتسم إسهامه بالأصالة والقدرة الأدبية الفائقة على صياغة هذا النضال بلغة آسرة. كما يبدو مشروع بلدوين الفكري (الأدبي في أغلبه) أكثر وحدة واتساقًا وتأكيدًا على وجوب التحرر الكامل غير المنقوص، وفق اعتبارات تخلت بجرأة عن النزعة التوفيقية، التي طبعت أفكار عدد كبير من المفكرين الأفارقة في القارة والشتات. 
تفيد قراءة جدل بلدوين وأفريقيا في السياق الراهن كخلفية كاشفة لطبيعة السياسات الأمريكية الحالية تجاه القارة الأفريقية، وجهود مأسسة مزيدة لنهب مواردها وثرواتها، كما في مثال موقف إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من جنوب أفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغيرهما، وكذلك تبرز مثالا هاما لمناهضة هذه الهيمنة من منطلقات واضحة لا تتزعزع.

بلدوين والزنوجة: تأصيل التفكيك

قدم بلدوين، في أجواء صعود تيار الزنوجة في خمسينيات القرن الماضي، بالتزامن مع تقلبات عالمية مفصلية، مثل: صعود حركة عدم الانحياز وخوض فرنسا بوحشية تامة معركة بقاء استعمارها الاستيطاني في الجزائر، فصلًا بديعًا بعنوان "Princes and Powers" (1956) تضمن اشتباكات قوية وأصيلة مع رواد تيار الزنوجة، خلال انعقاد مؤتمر الكتاب والفنانون الأفارقة- الزنوج Le Congres des Ecrivains et Artistes Noire (باريس 19 سبتمبر/أيلول 1956)، استهله بوصف المؤتمر "بالمناخ النمطي (الملائم) لرأس المال الثقافي بالعالم الغربي" في إشارة دالة على موقفه الثابت تجاه أفكار الزنوجة باعتبارها منتجًا ثقافيًا غربيًا. 
جادل بلدوين في هذا الفصل أفكار أبرز حضور المؤتمر ومنظميه: من طينة الروائي الأمريكي ريتشارد رايت، وأليون ديوب (محرر مجلة Presence Africaine)، والشاعر السنغالي اليوبولد سنغور، والشاعر أيميه سيزار من المارتينيك، والشاعر والروائي جاك أليكس من هايتي، ورئيس المؤتمر بريس- مارس.


الاستيعاب ليس سؤال عن مجرد الابتلاع أو الاختفاء داخل معدة الثقافة الغربية، كما أنه ليس مسألة رفض الاستيعاب من أجل الانعزال داخل ثقافة أفريقية. وفوق ذلك ليس مسألة تقرير أي قيم أفريقية يتم الإبقاء عليها، وأي قيم أوروبية يتم تبنيها


مثلت ملاحظاته على خطاب أليون ديوب، فيما يهم السياق الحالي، رؤية تفكيكية أصيلة للغاية لمجمل تيار الزنوجة، لعدة اعتبارات منها تبني ديوب لخطاب عقلاني معتدل (مقارنة بسنغور وسيزار، وكذلك رايت الذي دخل بلدوين معه في صدام فكري عنيف)، وأنه بحكم تحريره لدورية "Presence Africaine" قد اطلع على الأفكار الأفريقية الشابة المتنوعة، وكذلك تبنيه خطابًا أفريقانيًا متميزا ببعد سياسي. 
يلاحظ جنوح أليون لتقدير مفرط لدور الزنوج الأفروأمريكيون في نضال العرق الأسود في تلك المرحلة، وعرض بلدوين لخطاب ديوب الذي استهله، بمبالغة واضحة، بوصف المؤتمر بأنه "باندونج الثاني" من بعض الأوجه، وأن المشاركين فيه يسعون للتخلص من "الرؤية الأوروبية للعالم" والعنصرية التي باتت سببًا مزمنًا لمعاناة جميع السود. 
تتضح نزعة بلدوين لتفكيك فكرة الزنوجة، مثالًا عابرًا هنا، في عرضه لفكرة ديوب عن "الاستيعاب"؛ أوضح ديوب أن الاستيعاب قد فرضه الاستعمار، وتتطلب اقتلاع المرء (الأفريقي/ الأسود) من السياق الذي تحققت فيه هويته، وأن تحل محل عادات شعوره وتفكيره وتصرف مجموعة أخرى تنتمي للغرباء الذين يهيمنون عليه، ضاربًا مثالًا بأفارقة الكونغو البلجيكي الذين رغبوا في تحقيق استيعاب يصل لدرجة الاكتمال، بحيث لا يمكن تمييزهم عن البيض. 
لكن بلدوين قدم في فقرة ملفتة للغاية نقدًا لهذه الفكرة؛ ويمكن أن نسوقها هنا بنصها (Baldwin, James, The Price of the Ticket, Collected Nonfiction 1948-1985, New York, 1985, p. 43.) لأهميتها: "لا يمكن، بأي حال، عرض سؤال الاستيعاب على هذا النحو. فالاستيعاب ليس سؤال عن مجرد الابتلاع أو الاختفاء داخل معدة الثقافة الغربية، كما أنه، من جهة أخرى، ليس مسألة رفض الاستيعاب من أجل الانعزال داخل ثقافة أفريقية. وفوق ذلك فإنه ليس مسألة تقرير (أو اختيار) أي قيم أفريقية يتم الإبقاء عليها، وأي قيم أوروبية يتم تبنيها. إن الحياة ليست بمثل هذه البساطة..". 
يشير بلدوين بصياغته تلك إلى مسألة مهمة للغاية، وفاصلة في نقد الزنوجة، وهي وجود سياق تاريخي معقد في عملية الاستيعاب، يتضمن فرض قيم ثقافية واجتماعية داخل النخب الأفريقية ودوائر تأثيرها أصبحت بمرور الوقت مكونًا أصيلًا، أو لا يمكن فصله، في فكر هذه النخب وخياراتها الأيديولوجية. ومن ثم فإن المقابلة بين الأفريقي والغربي/ الأوروبي، أو العكس، تصبح مقابلة منقوصة وغير واقعية ربما في سياقات متباينة. وينطبق تحليل بلدوين، أو قراءتنا له هنا، على فكرة الزنوجة، وما يمكن قوله أنها في حد ذاتها كانت نتاجًا ثقافيًا غربي المضمون، بغض النظر عن مستوى الوعي في هذه العملية.    

بلدوين صيف 1968: التخلص من عبء الرجل الأبيض

حضرت أفريقيا في قلب مشروع بلدوين في مواضع جمة؛ ففي خطاب أرسله بلدوين  قبل وفاته بأسبوع واحد فقط للأسقف الجنوب أفريقي ديزموند توتو لاحظ أنهما، رغم عدم لقاءهما شخصيًا من قبل، يعيشان في "جحيم مشترك"؛ وكان بلدوين يشير إلى حالة التفوق العنصري الأبيض في بلديهما (الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا). 
ورد في هذا الخطاب المهم جوهر رؤية بلدوين لجنوب أفريقيا التي حظيت بدورها باهتمام كبير في مجمل كتاباته؛ فقد خاطب توتو قائلًا: "أنت، دون جدال، أحد نواتج هذه المهمة (التمدينية)، وكذلك كان الراحل مارتن لوثر كنج. غير أن وجودنا لا يدين بفضل للتمدين (التبشير الغربي). إننا هنا رغم التمدين. ولا يبدو هذا الأمر أوضح حالًا مما عليه الأمر في جنوب أفريقيا الآن، وفي رد المتمدين على هذا الجزار. لسنا بيضًا، إننا سود، ومن ثم فإننا نوجد، في هذا النظام وهذه التراتبية في مستوى آخر، لا يمكن الحديث عنه حرفيًا تمامًا" (فصل لهوجو كانام H. Canham: بلدوين في جنوب أفريقيا؛ روتردام 2014).  


حضرت أفريقيا في قلب مشروع بلدوين في مواضع جمة؛ ففي خطاب أرسله بلدوين  قبل وفاته بأسبوع واحد فقط للأسقف الجنوب أفريقي ديزموند توتو لاحظ أنهما، رغم عدم لقاءهما شخصيًا من قبل، يعيشان في "جحيم مشترك"


كما تعمق هذا الارتباط، في القراءة الحالية، في مقابلة بلدوين الشهيرة التي أجرتها معه مجلة Esquire (يوليو/تموز 1968) في ذروة الحرب الأمريكية في فيتنام، وتداعيات حركة احتجاجات مايو/آيار 68 في فرنسا، ولم تكن جنوب أفريقيا غائبة عن هذا المشهد، في مقابلة بلدوين. 
بعد طرح رؤيته عن أفكار ستوكلي كارمايكل (S. Carmichael)، أحد قادة حركة القوة السوداء في الولايات المتحدة والداعية لعولمة/ أممية النضال الأسود في ذلك الوقت، يلاحظ أن قطاع كبير من السود (في الولايات المتحدة) ينظر لمعاناة الأفارقة في بقية العالم من نفس نظام القمع الذي يعانون منه، ما وصفه بلدوين "بالنظام الذي تقوده آخر الأمم الغربية"، وأنه قد يكون مقنعًا تمامًا، إن لم يكن هناك مثل هذا العدد الكبير من السود في الولايات المتحدة أن يقرر الأمريكيون "تحرير جنوب أفريقيا"، أليس كذلك؟ أي لإبقاء شرور الشيوعية بعيدًا، فيما سيتوجه جميع مقاتلي الحرية في جنوب أفريقيا لتحويل بلادهم إلى فيتنام أخرى. 
لا يجهل أحد حقيقة ما يجري في فيتنام، ويريد هذا النظام حسب بلدوين نهب موارد جنوب أفريقيا، وغيرها من الدول الغنية بالموارد خارج نطاق العالم الغربي. إضافة إلى نقطة مهمة وهي سعي هذا النظام (الذي سيسميه لاحقًا بالشكل الأخير من أشكال الإمبريالية) لتسخير عمل شعوب تلك المناطق للأبد لصالحه، وهو الأمر الذي يرفضه بلدوين تمام الرفض. 
كما ربط في موضع آخر بالحوار بين الترويج لفكرة العالم الحر واستغلال هذه الموارد، وضرب مثالا بعمال المناجم الأفارقة في جنوب أفريقيا الذين يسدون، قسرًا ووفق نظام قمعي، خدمة كبيرة للإمبريالية الغربية، ولا يحظون –في المقابل- إلا بوعود بالحرية المدنية، كما حال الولايات المتحدة "شرطي العالم" حسب بلدوين. 
في قراءة ذكية دعا بلدوين، بأسلوبه الرشيق وبالغ العمق، إلى تخلص "السود" من عبء الرجل الأبيض، في نقض واضح للسردية الاستعمارية الغربية. تقاطعت هذه القراءة للوضع في جنوب أفريقيا مع تصور إمبريالي، سائد ومفهوم، لجنوب أفريقيا باعتبارها "المجتمع الرأسمالي الصناعي الوحيد في العالم الحديث" الذي يخضع لهيمنة عرقية على تنظيمه الاجتماعي الأساسي (روث ميلكمان: الأبارتهيد والنمو الاقتصادي والسياسة الخارجية الأمريكية، Berkeley Journal of Sociology, 1977-8)، وهي الرؤية التي تنظر لبدء تاريخ جنوب أفريقيا بعد وفود قوى الاستيطان الأوروبي عليها في القرن الخامس عشر، ومأسسة النهب الاقتصادي وإبادة النظم الاجتماعية الأفريقية بشكل منهجي على مدار نحو خمسة قرون، الأمر الذي تجددت ملامحه تمامًا في هجمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الراهنة على بريتوريا منذ مطلع العام الجاري (2025).

بلدوين وأفريقيا: أصداء من السيرة الذاتية

مثلت السيرة الذاتية لبلدوين التي كتبها دوجلاس فيلد (All Those strangers  New) مرجعًا مهمًا لتبين حياة بلدوين ممزوجة بقراءات عميقة لآثاره الفكرية والثقافية. فعلى سبيل المثال قدم الفصل الرابع جانبًا من حضور بلدوين في أفريقيا، بدءًا من صلاته بالجزائريين خلال وجوده في فرنسا (فيما عرفت بسنوات باريس) وصولًا لتناول أعم لقضايا القارة في كتاباته وغلبة النزعة الأفريقية Africanicity عليه. 
لم يفت فيلد ملاحظة أن الكتابة لدى بلدوين كانت في الأصل تحديًا اجتماعيًا، بالنسبة له للخروج من مسار العمل الكنسي في بدء مراهقته، ومن ثم فإن كتابته عن أفريقيا، كما غيرها من الموضوعات، انطلقت من تصورات ذاتية صرفة، ما أكسبها جرأة وخصوصية، إضافة إلى مصداقية كبيرة بغض النظر عن الانتقادات التي قد توجه لها. 
تشير تعليقات بلدوين حول أفريقيا قبل زيارته للقارة (يوليو/تموز 1962)، حسب فيلد، لدرجة معينة من القلق في نثر تواق بالفعل لصلة يعلم أنه لن يجدها. ويفسر فيلد تلك الملاحظة بمقتطف من خطاب أرسله بلدوين لوكيله روبرت ب. ميللز: "تعرف عظامي، على نحو ما، أنه ثمة ما ينتظرني في أفريقيا، لكن ينتابني شعور كئيب بأنني لن أجد إجابات في أفريقيا، بل مجرد مزيد من الأسئلة". 
يفسر ذلك تردد بلدوين في زيارة القارة الأفريقية في سن مبكرة تخوفًا من مقابلة مزيد من الأشخاص على شاكلة من عرفهم من الأفروامريكيين الذين بدأوا في تبني الثقافة الأفريقية (في الولايات المتحدة وفي محيط أوثق دوائر علاقاته بمن فيهم زوج أمه). 
توجه بلدوين للقارة الأفريقية في جولة زار خلالها سيراليون وغينيا وليبيريا وساحل العاج، دون أن يحدوه شعور بالعودة إلى الوطن، الأمر الذي عززه مواجهته مشكلات في دخول العاصمة السنغالية داكار "لمشكلات تتعلق بتأشيرته". 


"تعرف عظامي، على نحو ما، أنه ثمة ما ينتظرني في أفريقيا، لكن ينتابني شعور كئيب بأنني لن أجد إجابات في أفريقيا، بل مجرد مزيد من الأسئلة"


لكن زيارته الثانية لأفريقيا (تحديدًا في نيروبي) بمناسبة استقلال كينيا ميزت بدء شعور بالانتماء للقارة وقضايا التحرر بها. غير أن كتابًا أفارقة، مثل إزينوا-أوهاتو Ezenwa-Ohaeto، رأوا صعوبة في قراءة وجهات نظر بلدوين حول أفريقيا، مع الإقرار بملاحظة مهمة، وحقيقية، وهي أن ما يميز بلدوين أن نظرته للأفارقة لم تحتمل إزدراء أو تقليلًا من شأنهم. 
تمثل قراءة رؤى بلدوين للقارة الأفريقية وقضاياها إضافة مهمة لفهم أزمة القارة الأفريقية الراهنة فيما يتعلق بموقعها في النظام الدولي وسياقات الهيمنة والسلب الجارية على قدم وساق، وياتي ذلك من جهة ما قدمه بلدوين من نقد أصيل لمواقف النخب الأفريقية "التوافقية" (كما حال نقده لتيار الزنوجة)، وطرحه الحاسم إزاء اسنغلال موارد القارة الأفريقية بغطاء القيم الغربية والديمقراطية والانتماء "للعالم الحر" في عهد الحرب الباردة، ثم العولمة الحالية كنظير نسبي له.