الخميس 5 ديسمبر 2024
تتصاعد المخاطر في منطقة جنوب البحر الأحمر، منذ بدء الهجمات الحوثية على السفن الإسرائيلية، في نوفمبر / تشرين الثاني الماضي، وتوسيع نطاق الاستهداف تباعًا، ليشمل السفن المتجهة نحو الموانئ الإسرائيلية، ثم الأمريكية والبريطانية على مدار الأشهر القليلة الماضية.
تطور الهجمات الحوثية، جاء ردا على الهجمات التي شنها التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، على عدد من الأهداف التابعة للحوثيين داخل الأراضي اليمنية.
تبدو الحرب في ظاهرها واضحة الأطراف، بين جماعة أنصار الله (الحوثيين) المدعومة من إيران، والتي تستهدف السفن التي حددتها نصرةً لقطاع غزة، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي، وبين التحالف الدولي الداعم بطبيعة الحال لإسرائيل، والذي يستهدف، بحسب ما هو مُعلن، حماية حركة الملاحة الدولية في المنطقة.
بين هذا وذاك، تمشي جيبوتي - أصغر دول القارة السمراء مساحة – متأرجحة على حبال تلك الحرب التي دخلت شهرها السادس، دون أن تتورط فيها حتى الآن. فكيف يحدث ذلك؟
أهمية جيوسياسية
تبلغ مساحة جيبوتي حوالي 23 ألف كم مربع، وتقترب كثافتها السكانية من مليون مواطن فقط، إلا أنها تتمتع بأهمية جيوسياسية كبرى؛ بسبب موقعها المتميز المطل على مضيق باب المندب، الذي يمثل البوابة الجنوبية للبحر الأحمر وقناة السويس، ويعبره حوالي أربعة ملايين برميل نفط يوميًا.
دفعت تلك الأهمية القوى الدولية، مثل: أمريكا وفرنسا واليابان والصين إلى إقامة قواعد عسكرية على أراضي البلد الصغير، لحماية مصالحهم الأمنية والاستراتيجية والاقتصادية، خصوصا بعد الخسائر التي تكبدها الاقتصاد العالمي، جراء نشاط القراصنة الصوماليين في المنطقة، منذ عام 2005، فضلًا عن كون فرنسا المستعمر السابق لجيبوتي.
ذلك الوجود العسكري يُشبه العملة ذات الوجهين؛ الأول يوفر عوائد مالية سنوية تُقدر بنحو 226 مليون دولار، بما يوازي 15% أو أكثر من ثلث الإيرادات الحكومية السنوية تقريبًا، كما أنّه يحمل مخاطر الزج بجيبوتي في صراعات الدول الكبرى الإقليمية.
كما استفادت جيبوتي من أهميتها الجيوسياسية مؤخرًا، وتحديدًا منذ بدء الاضطرابات في البحر الأحمر، حيث ارتفعت مناولة الحاويات في أكبر موانئها، بنسبة تصل إلى 10% مقارنة بالأشهر السابقة. بحسب تصريح لمستشار الرئيس التنفيذي للعمليات بميناء دوراليه، إسماعيل حسن، لوكالة أنباء "الشرق الأوسط"، فإن الميناء الذي أنشئ عام 2009، خدم أكثر من 100 ألف حاوية، بمتوسط 60-70 سفينة بمختلف الأحجام في يناير/ كانون الثاني الماضي فقط، ويمكنه استقبال أكبر السفن في العالم.
وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن موانئ جيبوتي تشهد يوميًا عبور نحو 90 سفينة، نسبة 59% منها تأتي من آسيا، فيما تمثل السفن القادمة من أوروبا 21%، في حين تمثل القارات الأخرى بما فيها أفريقيا 16%.
جيبوتي تدعم غزة
على جانب آخر، كان الموقف الرسمي لجيبوتي من الحرب في غزة واضحًا منذ البداية، حين عبرت في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن قلقها البالغ إزاء تطورات الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
كما حملت الاحتلال الإسرائيلي مسؤولية التصعيد الجاري، بسبب اعتداءاته المتواصلة، وانتهاكاته المستمرة لحقوق الشعب الفلسطيني، ومقدساته، وآخرها الاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، تحت حماية أفراد الشرطة، داعية المجتمع الدولي للتحرك من أجل وقف لإشعال فتيل حرب جديدة، غير متكافئة، ضد المدنيين وقتها.
كما أكد الرئيس إسماعيل عمر جيلي على نفس الموقف، في القمة العربية الإسلامية في الرياض، مطالبًا بضرورة التحرك بشكل حازم، لاتخاذ موقف موحد من أجل حماية المدنيين في غزة، وتقديم يد العون والمساعدة لهم.
ولم يتغير الموقف حتى مع بدء الهجمات الحوثية على السفن في البحر الأحمر، حيث قال وزير الخارجية محمود علي يوسف، إن بلده "لم تدن عمليات جماعة أنصار الله الحوثيين"، لأنه يعتبرها إغاثة حقّ للفلسطينيين بحسب وصفه.
وأضاف يوسف أن بلاده تتحفظ على المشاركة في التحالف العسكري الدولي بقيادة الولايات المتحدة، والمعروف إعلاميًا باسم "حارس الازدهار"، والذي استهدف عددًا من المواقع العسكرية داخل الأراضي اليمنية خلال الأسابيع القليلة الماضية.
كما رفض الرئيس عمر جيلي في حوار مع وكالة أنباء "الشرق الأوسط"، استهداف أي طرف انطلاقًا من أراضيه، مشيرًا إلى أنّ القواعد العسكرية الدولية في البلاد تهدف إلى "حفظ الأمن والسلم الدوليين ومكافحة الإرهاب والقرصنة البحرية وحماية الملاحة".
هذا الموقف الثابت، منذ بدء العدوان الإسرائيلي، دفع حركة حماس لتثمينه في بيان لها، كما وصفته بالموقف الشجاع في وجه حرب الإبادة الصهيونية، مجددة ندائها للدول العربية والإسلامية للوقوف عند مسؤولياتهم القانونية والسياسية في نصرة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
المشي على حبال الحرب
لم تتورط جيبوتي في الصراع القائم في البحر الأحمر، رغم الضرر اللاحق بالملاحة البحرية التي تُعد مصدر الدخل الرئيسي لها، فضلًا عن وجود القاعدة الأمريكية الوحيدة في أفريقيا على أراضيها.
إلى جانب ذلك، لم تُعلن الولايات المتحدة وحلفاؤها في قوة "حارس الازدهار"، عن استخدام القواعد العسكرية لهم داخل الأراضي الجيبوتية. ومع ذلك، تشير المعلومات الملاحية إلى نشاط عسكري ملحوظ، بالتزامن مع بدء الهجمات ضد الحوثيين.
رصد حساب "MenchOsint" المتخصص في مراقبة البيانات الملاحية، عبر منصة "اكس"، عدد من الرحلات العسكرية، من وإلى قاعدة "لومينير" الأمريكية، على مدار الأسابيع القليلة الماضية.
جاءت تلك الرحلات من قواعد أمريكية مجاورة في المنطقة، أو من داخل الولايات المتحدة، والتي من المرجح أن تكون في إطار دعم حاملة الطائرات المتواجدة في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن "آيزنهاور".
الأمر نفسه بالنسبة للقاعدة الفرنسية أيضًا، حيث رصد حساب (MenchOsint) على منصة "إكس" هبوط رحلات لطائرات تابعة للقوات الجوية الفرنسية في جيبوتي. والأكثر أهميةً ما رصده الحساب المتخصص في متابعة العمليات العسكرية، من إقلاع طائرة فرنسية من قاعدة في جيبوتي للتصدي لمسيرات انتحارية أطلقها الحوثيون، لاستهداف القطع البحرية الحربية الأمريكية والفرنسية في خليج عدن، بتاريخ التاسع من مارس/آذار الماضي.
لا تؤكد تلك الرحلات، بطبيعة الحال، استهداف الأراضي اليمنية انطلاقًا من داخل جيبوتي، ولكنها في الوقت ذاته تفتح باب التساؤل حول الغاية منها، في هذا الوقت الحرج تحديدًا، وتبعيات الكشف عن ذلك مستقبلًا في الصراع الحالي.
ووفقًا لخرائط "غوغل"، فإن الموقع الجغرافي للقاعدتين الأمريكية والفرنسية في جيبوتي، يبعدان حوالي 130 كم (80 ميلًا) فقط عن أقرب نقطة للحدود مع اليمن، وهو الأمر الذي يجعلها أهدافًا سهلة بالنسبة للحوثيين الذين يزعمون امتلاك صاروخ يعمل بالوقود السائل، يصل مداه إلى 1200 ميل.
ويبقى السؤال المطروح الآن، هل يتبع الحوثيون سيناريو الرد على التحالف الدولي بقيادة أمريكا، عبر استهداف قواعده العسكرية في جيبوتي؟ أم أن الدولة الأفريقية ستبقى قادرة على مواصلة سياسة المشي على حبال الحرب، متسلحة بموقفها الرسمي الثابت والداعم للقضية الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر؟