الأحد 9 فبراير 2025
تُعد العلاقات الجيبوتية -الإريترية واحدة من أكثر العلاقات تعقيدًا وإثارة للجدل في منطقة القرن الأفريقي، بما يكتنفها من تحديات تاريخية وجيوسياسية، تؤثر بشكل كبير على الأمن والاستقرار الإقليمي. بدأ النزاع بين البلدين أواخر القرن العشرين، عندما اندلعت توترات حدودية في منطقة "دميرة"، وتطور لاحقًا إلى مواجهات عسكرية في عام 2008، مما شكل تهديدًا مباشرًا للسلام الإقليمي. لم يكن النزاع نتيجة خلافات جغرافية فقط، بل جسد صراعا على المصالح السياسية والاقتصادية، ما جعل العلاقات بين البلدين تتسم بالاضطراب.
على الرغم من تصاعد التوترات، إلا أن جهود الوساطة الإقليمية والدولية شهدت محطات بارزة، لعل أبرزها المبادرة القطرية التي انطلقت في محاولة لإيجاد حل سياسي شامل للنزاع، ما أثار آمالًا بتحقيق تسوية دائمة. لكن انسحاب قطر من دور الوساطة عام 2017، طرح تساؤلات بشأن استدامة هذه الجهود، ومدى تأثيرها على مسار المصالحة بين البلدين.
اتسمت العلاقات الإريترية مع محيطها الإقليمي منذ الاستقلال بالتوتر وعدم الاستقرار، فقد انخرطت الدولة الناشئة في سلسلة من النزاعات الحدودية مع جيرانها، كانت في معظمها مدفوعة برغبة القيادة الإريترية في تثبيت أركان سيادتها الناشئة من جهة، والسعي إلى تأمين دور إقليمي مؤثر من جهة أخرى. وعلى الرغم من أهمية هذه الأهداف، فإن اختيار القوة العسكرية أداة رئيسية لحل الخلافات أدى إلى تفاقم التوترات مع دول الجوار، ما أثر سلباً على العلاقات السياسية والدبلوماسية لإريتريا على المستويين الإقليمي والدولي.
لم تكن العلاقات مع جيبوتي استثناءً عن هذا النهج، إذ شهدت بدورها توترات متصاعدة ونزاعات حدودية، كان أبرزها الخلاف حول منطقة "رأس دميرة"، الذي تسبب في مواجهات عسكرية وأزمة دبلوماسية طويلة الأمد. وتفاقمت التوترات نتيجة غياب قنوات الحوار الفعالة، واعتماد النهج التصعيدي، ما جعل العلاقة بين جيبوتي وإريتريا نموذجاً بارزاً لتعقيد العلاقات الإريترية مع محيطها الإقليمي.
يرجع النزاع الحدودي بين جيبوتي وإريتريا إلى أواخر القرن التاسع عشر، حين عمدت القوى الاستعمارية الأوروبية إلى تقسيم منطقة القرن الأفريقي وفقاً لمصالحها الاستراتيجية والاقتصادية، ما أفضى إلى نشوء حدود غير واضحة في المناطق الساحلية الصحراوية، بما في ذلك منطقة رأس دميرة والجزر المجاورة.
تتمثل المناطق المتنازع عليها في مضيق باب المندب بجبل دميرة وجزيرة دميرة، حيث نصت اتفاقية عام 1900 بين فرنسا وإيطاليا، ممثلتين للمستعمرتين آنذاك، على أن تكون جزيرة دميرة وما حولها من الجزر منطقة منزوعة السلاح وخالية من السيادة. إلا أن غياب آليات واضحة لترسيم الحدود وتنفيذ الاتفاقية، إضافة إلى التحولات الجيوسياسية لاحقاً، أبقى النزاع قائماً ومفتوحاً على احتمالات التصعيد.
ساهم افتتاح قناة السويس في إضفاء أهمية استراتيجية كبيرة على مضيق باب المندب، كممر ملاحي دولي حيوي، مما أضاف تعقيدًا إلى النزاع، وأدى إلى تحوّل المنطقة من هامشية إلى نقطة ارتكاز استراتيجية. تجدد النزاع حول منطقة رأس دميرة والجزر المجاورة، عقب استقلال إريتريا عام 1993، حيث سعت إريتريا إلى تعزيز سيادتها في تلك المناطق. وفي عام 1996، كاد النزاع أن يتحول إلى مواجهة عسكرية شاملة لولا التدخل الإيجابي للهيئة الحكومية للتنمية (الإيجاد).
تعقدت الأمور أكثر وتعمّق التوترات بعد توقيع جيبوتي اتفاقية تعاون عسكري مع إثيوبيا عام 1999، ما اعتبرته إريتريا تهديدًا مباشرًا لأمنها الإقليمي. لم تُفضِ الجهود الوساطات الإقليمية والدولية، بما في ذلك جهود الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي عام 2001، إلى تسوية دائمة للنزاع. فقد تجدد التوتر عام 2006، بسبب المواقف السياسية المتباينة حيال الأزمة الصومالية، وبلغ النزاع ذروته، بعد سنتين، عقب نشرت إريتريا قواتها في منطقة رأس دميرة، ما أدى إلى مواجهات عسكرية.
تطور النزاع بين جيبوتي وإريتريا من مجرد خلاف حدودي إلى صراع على النفوذ الإقليمي في منطقة القرن الأفريقي، إذ زادت الأهمية الاستراتيجية للمناطق المتنازع عليها، بسبب قربها من مضيق باب المندب. ومع تعزيز جيبوتي لعلاقاتها العسكرية مع إثيوبيا، أصبحت التوترات أكثر تعقيدًا.
برزت مبادرة الوساطة القطرية في يونيو/ حزيران 2010، كخطوة محورية لحل النزاع الحدودي المعقد بين البلدين، وشهدت الدوحة توقيع الرئيسين الجيبوتي والإريتري على اتفاقية، تضمنت وثيقة تنفيذية تهدف إلى وضع حد للنزاع، عبر آليات متعددة اشتملت على تشكيل لجنة وساطة برئاسة الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، وعضوية ممثلين عن الطرفين، لتقديم حلول عملية تستند إلى التفاهم المشترك.
تضمنت الوثيقة أيضًا تكليف شركة دولية بترسيم الحدود وفقًا للقوانين الدولية، وهو بند يعكس تطلعات نحو حل قانوني ودائم للنزاع. كما اشتملت بنود الاتفاقية على جوانب إنسانية، منها: تبادل الأسرى وتقصي مصير المفقودين، ما أضفى طابعًا إنسانيًا على المبادرة، إلى جانب أهدافها السياسية. في الوثيقة أيضا التزام قطري بالإشراف على الحدود من خلال نشر قواتها، منعا لأي مواجهات عسكرية بين الطرفين خلال فترة الوساطة، وهو ما ساعد مؤقتًا في تهدئة الأوضاع الأمنية على الأرض. فضلا عن ذلك، نصت الاتفاقية على توثيقها لدى المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة، والجامعة العربية، والاتحاد الإفريقي، لتعزيز مكانتها وضمان احترامها.
أثارت المبادرة حالة من التفاؤل في الأوساط السياسية والشعبية، خاصة في جيبوتي، باعتبارها فرصة لتجنب المواجهات العسكرية وفتح صفحة جديدة من الاستقرار الحدودي، لكن التحديات الميدانية واللوجستية سرعان ما بدأت تظهر، حيث ظلت بعض البنود، مثل ترسيم الحدود بشكل نهائي، دون تنفيذ فعلي، مما انعكس على مصداقية الجهود المبذولة، ومدى التزام الأطراف المعنية.
لقد ساهم الانتشار القطري على المناطق الحدودية المتنازع عليها في تقليل حدة التوتر العسكري، ما يُعدّ إنجازًا مهمًا في ظل تعقيدات النزاع. ما يجعل من تدخل قطر في هذا النزاع تجربة غنية بالدروس حول أهمية الوساطات الدولية، حيث أظهرت المبادرة أن التفاهم بين الأطراف المتنازعة لا يقتصر على توقيع الاتفاقيات، بل يتطلب التزامًا طويل الأمد وآليات تنفيذ فعالة لتحقيق السلام والاستقرار.
لم تقتصر آثار الأزمة الخليجية التي اندلعت في يونيو 2017 على دول الخليج والمنطقة العربية، بل امتدت بسرعة إلى القرن الأفريقي، لتضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى النزاعات القائمة هناك، وفي مقدمتها النزاع الحدودي بين جيبوتي وإريتريا. وقد كشفت هشاشة الأوضاع السياسية والأمنية في المنطقة، إلى جانب اعتماد دولها على المساعدات الخارجية، وتداخل الأجندات الداخلية مع المصالح الإقليمية، عن استعداد المنطقة للتأثر السريع بالأزمات الخارجية.
أعلنت جيبوتي تخفيض مستوى تمثيلها الدبلوماسي مع قطر تضامنًا مع السعودية والتحالف العربي، بينما قطعت إريتريا علاقاتها مع الدوحة دعمًا للموقف ذاته. وجاء الرد القطري سريعًا وحاسمًا بإنهاء وساطتها في النزاع الحدودي، وسحب قواتها من المنطقة المتنازع عليها بشكل مفاجئ، مما ترك فراغًا أمنيًا استغلته إريتريا للتحرك واحتلال المنطقة، ما أشعل فتيل الأزمة من جديد.
استنفرت جيبوتي قواتها المسلحة، ونددت بشدة بالتحرك الإريتري، متهمة أسمرة باستغلال الانسحاب القطري لإعادة إشعال النزاع، ودعا الرئيس الجيبوتي خلال قمة الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا، المجتمع الدولي والاتحاد الأفريقي إلى التدخل العاجل لترسيم الحدود المتنازع عليها، ومنع أي تصعيد عسكري محتمل، في حين رفضت إريتريا تلك الاتهامات، وامتنعت عن التعاون مع بعثة تقصي الحقائق التابعة للاتحاد الإفريقي.
لجأ الطرفان إلى الأمم المتحدة مع تصاعد التوتر، حيث أعرب مجلس الأمن الدولي عن قلقه العميق، ودعمه لإرسال بعثات رقابة وتقصي حقائق إلى المنطقة. وفي خطوة لافتة، جددت إريتريا تمسكها بالوساطة القطرية، معتبرة إياها الخيار الأمثل لحل النزاع، داعية الدوحة إلى استئناف دورها في إدارة الأزمة. على النقيض، رفضت جيبوتي العودة إلى الوساطة القطرية، معتبرة ذلك محاولة لتعطيل جهود الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة لإيجاد حل شامل للنزاع.
كانت الأزمة الخليجية بذلك عاملًا محفزًا لتأجيج النزاع الحدودي بين جيبوتي وإريتريا، مما أضاف تعقيدًا جديدًا إلى المشهد السياسي والأمني في القرن الأفريقي، وأكد أن تداخل الأزمات الإقليمية والدولية يترك بصماته العميقة على مناطق الصراعات الهشة.
يعكس التقارب الأمني الجديد بين جيبوتي وإثيوبيا، ممثلا في إعلان الطرفين عن تشكيل قوة أمنية مشتركة لمواجهة التحديات الأمنية المتصاعدة، في 22 ديسمبر/ كانون الأول 2024، تحولًا مهمًا في العلاقات الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي. وإن عبرت أطراف عن تحفظاتها من تداعيات هذا التعاون على النزاع الحدودي القائم بين جيبوتي وإريتريا. كما تثير هذه الديناميكيات الجديدة مخاوف متزايدة من إمكانية تجدد النزاع الحدودي بين جيبوتي وإريتريا، خاصة وأن الأخيرة قد تنظر لهذا التحالف الأمني كتهديد محتمل، ما قد يعيد إشعال فتيل التوترات التاريخية القائمة بين البلدين، ويساهم في تعقيد الأوضاع الأمنية في المنطقة، ويعرقل جهود الاستقرار المستدام.
تمت سيناريوهان رئيسيان لمستقبل العلاقات بين البلدين؛ يتمثل الأول، في الحلول السلمية عبر تعزيز الجهود الدبلوماسية، وتفعيل الوساطات الإقليمية والدولية، مثل: الاتحاد الإفريقي أو الأمم المتحدة، للوصول إلى اتفاقيات ملزمة لترسيم الحدود، وإطلاق مبادرات تعزز التعاون الاقتصادي والأمني. يعتمد هذا المسار، بشكل أساسي، على الإرادة السياسية لدى الطرفين، ومدى دعم الأطراف الدولية المؤثرة.
بينما يمثل التصعيد السيناريو الثاني، الذي قد يحدث نتيجة استمرار الاتهامات المتبادلة أو فشل ملء الفراغ الأمني على الحدود. خيار تكتنفه مخاطر جسيمة على المنطقة بأسرها، فمن شأن أي مواجهة عسكرية جديدة زعزعة استقرار القرن الأفريقي برمته.
تتطلب المرحلة المقبلة خطوات جادة، لتحقيق استقرار مستدام، أبرزها إعادة بناء الثقة بين الطرفين من خلال مبادرات مشتركة، وتفعيل دور الاتحاد الأفريقي لضمان الوساطة المحايدة، وتعزيز الشراكات الإقليمية لدفع دول الجوار إلى لعب دور إيجابي بعيدًا عن المصالح الضيقة. كما أن التحول من حالة العداء إلى شراكة استراتيجية بين الطرفين لا يعزز استقرار البلدين فحسب، بل يضمن أيضًا أمن القرن الأفريقي في مواجهة التحديات المتزايدة.