تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 16 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
رأي

جون قرنق: تفكيك الصورة الزائفة

21 أكتوبر, 2025
الصورة
  جون قرنق: تفكيك الصورة الزائفة
Share
"العروبة لن توحدنا… الأفريقانية لن توحدنا… الإسلام لن يوحدنا… المسيحية لن توحدنا… السودانوية وحدها قادرة على توحيدنا". (جون قرنق دي مبيور)

ظل هذا المقطع، المنسوب إلى جون قرنق، يُعاد تداوله مع كل اشتداد للأزمة السودانية أو عودة سؤال الهوية إلى الواجهة. في كل مرة يطفو فيها المقطع، تستعاد صورة لامعة لزعيم كاريزمي يُنسب إليه مشروع إنقاذي اسمه «السودان الجديد». غير أن استعادة السيرة بتفاصيلها، ومراجعة أثر المشروع في الميدان مثلما في الخطاب، تكشف وجهاً مركباً يتجاوز ما تُنتجه المقاطع المقتطعة والحنين الانتقائي.

تقدم هذه المادة قراءة صحفية تحليلية مُطوّلة تسعى إلى تفكيك «الصورة الزائفة» لقرنق من دون الوقوع في فخ التسفيه أو التمجيد. نعتمد سرداً زمنياً متدرجاً تتخلله محاور تحليلية: الجذور والتكوين، التحول من أديس أبابا إلى مانيفستو الحركة، التناقض بين الخطاب والممارسة في مناطق سيطرة الحركة، طبيعة الصراعات الجنوبية–الجنوبية، ثم مسار التفاوض وإرث الرجل بعد رحيله.

الإطار التاريخي

في صباح 27 فبراير/شباط 1972، وبينما كانت الخرطوم وجوبا تتبادلان أنباء التوقيع على اتفاقية أديس أبابا للسلام، جلس شاب في أحد معسكرات «الأنيانيا» متأمّلًا مصيرًا يراه يُرسم خارج إرادة المقاتلين. لم يكن قد مضى وقت طويل منذ أن التحق بالحركة المسلحة، لكنّه حمل رتبة نقيب، وامتلأ إيمانًا بأن الحرب لم تنته بعد. كان خبر الاتفاقية بالنسبة إليه أشبه بوقف ساعة القتال قبل أن يُستكمل شوطها. كتب رسائل متتابعة لقادة الحركة، يحثّهم على تجاهل وقف إطلاق النار، ويدعوهم لمواصلة الحرب، كأنّه يستشعر أنّ توقيع السلام ليس سوى استراحة قصيرة ستنتهي عاجلًا بانفجار أكبر. ذلك الشاب كان جون قرنق دي مبيور.

لم يكن موقفه وليد اللحظة، فمنذ مطلع عام 1972، حين بدأت تتسرب أنباء المفاوضات السرية بين الحكومة السودانية وحركة تحرير السودان برئاسة اللواء جوزيف لاقو، بعث قرنق برسالة يحذر فيها من الانخراط في تلك المباحثات، مؤكّدًا أن جيش «الأنيانيا» ما زال هشًا، بحاجة إلى السلاح والتدريب لا إلى وعود السلام. تجاهله القادة، ربما لأنّهم رأوا في تجربته القصيرة التي قضاها بين معسكرات التدريب ما لا يتيح له تذوّق مرارة الحرب. لكن الأقدار خبّأت لهم مفاجأة؛ فذلك النقيب الصامت سيعود بعد عقد ليقود أطول حرب أهلية في السودان، حرب امتدت اثنين وعشرين عامًا وغيرت وجه البلاد.

كانت اتفاقية أديس أبابا قد أخمدت نارًا ظلّت تتقد منذ إعلان الإدارة الكولونياليّة البريطانيّة للسياسة الجنوبيّة، أو ما يُعرف في الأدبيات التاريخية السودانية بقانون المناطق المقفولة (1914–1946) التي عزلت الجنوب عن الشمال، ثم أشعلتها شرارة تمرد الفرقة الجنوبية في أغسطس/آب 1955، قبل أن تتحوّل المناوشات إلى حرب شاملة مع ميلاد حركة «الأنيانيا» في سبتمبر/أيلول 1963. ورغم ذلك، فإن الاتفاقية لم تحظ بترحيب شامل، إذ رآها البعض هدنة موقتة أكثر منها سلامًا دائمًا. قرنق كان من هؤلاء، بل ربما الأكثر إصرارًا على أن «سلامًا كهذا لا يعيش».

تشاء الصدف أن يتحول هذا النقيب الذي رفض التوقيع بالصمت إلى صورة محفورة على العملة النقدية لدولة جنوب السودان بعد استقلالها في 9 يناير/كانون الثاني 2011، إثر استفتاء تقرير المصير الذي نصّت عليه اتفاقية نيفاشا (2005). غير أنّ الرجل الذي بُنيت أحلام كثيرة على كاريزمته لم يعش لحظة ولادة الدولة الجديدة، فقد غيّبته حادثة تحطم طائرة على الحدود السودانية الكينية في 31 يوليو/تموز 2005.

لكن حضوره ظلّ أكبر من غيابه؛ فصورة قرنق لم تغادر ذاكرة السودان، وخطبه ما زالت تتردّد في حلقات الناشطين والفاعلين السياسيين، وتُستعاد كأنها ترسم أفقًا لم يكتمل. بل إنّ الإعجاب به وصل عند بعض السياسيين والباحثين إلى درجة الافتتان الذي يُحوّل المجرم إلى بريء، ويُبدّل صقور الحرب إلى حمائم سلام تحمل غصن زيتون.

مضت عشرون سنة على رحيله، لكن أثره باقٍ، ممتدٌّ في كل سطر من تاريخ السودان الحديث. قلّ أن عرف السودان قائدًا واجه نخبه السياسية، وأسقطها في أكثر من جولة كما فعل قرنق. لم تكن طموحاته مقصورة على جنوب السودان، بل كانت بامتداد المليون ميل مربع التي شكّلت حدود البلاد قبل الانفصال. وربما كان انكسار حلم «السودان الجديد» الذي حمله في وجدانهو وبشّر به طيلة حياته، هو ما يجعل ذكراه حتى اليوم مثقلة بالحسرة ومكللة بالمبالغة في التعظيم.

المسألة الجنوبية

"لا أعرف على وجه الدقة متى وُلدت... لكنه في الأربعينيات من القرن العشرين... أعتقد أني ولدت عام 1945". هكذا روى جون قرنق في مقابلة مع التلفزيون القومي، وليس غريباً ألا يعرف تاريخ ميلاده بدقة، ففي الفترة التي شهدت صرخته الأولى كانت الإدارة الكولونيالية تطبق قوانين "المناطق المقفولة" التي فصلت بين الشمال والجنوب. وقد جاءت هذه السياسة بذريعة الخشية من هيمنة الشمال واستغلاله للجنوب الأقل نمواً، ومن أسلمته وتعريبه، فضلاً عن الخوف من عودة الاسترقاق. ونتيجة لذلك لم تكترث الإدارة الاستعمارية ببناء مؤسسات خدمية أو تطوير البنية المدنية في الجنوب كما فعلت في الشمال خدمةً لمصالحها الاقتصادية.

قد لا يكون قرنق وُلد عام 1945؛ فربما جاء ميلاده عام 1946، في 22 أبريل/نيسان، وهو اليوم الذي عقدت فيه الإدارة الاستعمارية مؤتمراً حول إدارة السودان. أوصى المؤتمر آنذاك بربط الشمال بالجنوب, وتشجيع حركة التنقل بينهما، وتعليم العربية في الجنوب الذي كانت المدارس والإرساليات المسيحية تهيمن فيه على التعليم والصحة، فضلاً عن توحيد سلم درجات الموظفين في الخدمة المدنية.

مثل كثير من أبناء قبيلته "الدينكا"، قضى قرنق طفولته في رعي الأبقار حول قريته "وونقولي"، الواقعة شمالي مدينة بور التي ستلعب لاحقاً دوراً محورياً في حياته وحياة السودان. لم يكن ابن زعيم قبيلة أو موظف حكومي، فكان تعليمه أمراً عسيراً، خاصة أن أسرته قاومت ذهابه للمدرسة، ولم يُبد هو نفسه حرصاً على التعليم. لكن أحد أقاربه أصر على اصطحابه معه إلى مدينة "تونج" في بحر الغزال عام 1953، بعد إلحاح استمر عاماً كاملاً. في ذلك العام كانت النخبة السياسية السودانية في القاهرة لتوقيع اتفاقية الحكم الذاتي (فبراير/شباط 1953). وربما كانت تلك النخبة بحاجة إلى استلهام إصرار قريب قرنق، لتشمل المفاوضات القوى الجنوبية وسائر التنظيمات السياسية السودانية، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث.

شق قرنق طريقه في التعليم على إيقاع الأزمات السياسية. ففي ديسمبر/كانون الأول 1955 تنكر النواب السودانيون لوعود الفيدرالية التي قدموها للجنوبيين مقابل التصويت على إعلان الاستقلال. وقبلها بأشهر، أشعل تمرد "توريت" فتيل العنف وأدى إلى إغلاق مدارس الجنوب. مع ذلك، التحق قرنق بالمرحلة الثانوية في "رمبيك"، وهناك بدأ يلامس الفعل السياسي بصورة عملية. وفي 31 ديسمبر/كانون الأول 1962، ترك حقيبته الدراسية واتجه مع أكثر من خمسة وعشرين زميلاً إلى الحدود الإثيوبية بحثاً عن الانضمام إلى الجنود المتمردين. لم يكن هدفهم الانتقام، بل الالتحاق بالتمرد واستبدال الحقيبة المدرسية بصندوق الذخيرة.

لكن قيادة "الأنيانيا" (المتمردين) نصحتهم بإكمال تعليمهم الثانوي. ومن إثيوبيا إلى كينيا ثم أوغندا، استقر قرنق في تنجانيقا (تنزانيا حالياً) حيث حصل على منحة دراسية من مجلس الكنائس لإكمال الثانوية. التحق بمدرسة "مقامبا"، التي قال إنها قريبة من جبل كلمنجارو. ورغم أن المسافة بينهما مئات الكيلومترات، فقد مثّل الجبل بالنسبة له قمة الطموح التي أراد بلوغها. في عام 1964 قبل مباشرة في الصف الثاني الثانوي، وأكمل عامين في عام واحد، ليتخرج في ذات السنة التي شهدت ثورة أكتوبر/تشرين الأول في الخرطوم ضد نظام الفريق إبراهيم عبود.

انتهى قرنق إلى توقيع اتفاق لم يختلف كثيراً عن أديس أبابا الذي انتقده من قبل، إن لم يكن أسوأ، تاركاً خلفه أزمات جديدة وحروباً أخرى في أطراف السودان

عبَر قرنق الأطلسي عام 1965 ليدرس الاقتصاد في "قرنيل" بولاية أيوا الأمريكية، وعاد إلى دار السلام عام 1969 بعد نيله الدرجة الجامعية. هناك قضى عاماً في جامعة دار السلام ضمن زمالة ممولة من مؤسسة "توماس واتسون"، انشغل خلاله بالتنمية الريفية. كاد يستكمل دراساته العليا، لولا أن جوزيف لاقو دعاه للانضمام إلى الأنيانيا، فاستشعر أن لحظة الفعل قد حانت.

شهد قرنق تقلبات السياسة السودانية عن بُعد: من حكومة أكتوبر/ تشرين الأول الانتقالية إلى انقلاب جعفر نميري عام 1969، ثم فشل انقلاب الشيوعيين عام 1971. ومع أنه أمضى عقداً خارج السودان، ظل يشعر بأنه على هامش الأحداث، خصوصاً مع بدء مفاوضات السلام بين الأنيانيا والحكومة.

وقّعت اتفاقية أديس أبابا 1972، فتم استيعاب ستة آلاف من قوات الأنيانيا، بينهم قرنق الذي مُنح رتبة نقيب. عاد لاحقاً إلى الولايات المتحدة ببعثة من الجيش، فدرس في "فورت بيننق" (جورجيا)، ثم عاد مدرساً بالكلية الحربية. وفي 1976 تولى قيادة الكتيبة 105 في بور. تزوج من ربيكا نياندينق، واستمر في الجمع بين طموحه العسكري والأكاديمي. ففي 1977 عاد إلى أمريكا حيث نال الماجستير في الاقتصاد الزراعي ثم الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة ولاية أيوا. وبعد عودته عام 1982 رُقي إلى رتبة عقيد، وتولى منصب نائب رئيس الأبحاث العسكرية بالقيادة العامة، إلى جانب التدريس بجامعة الخرطوم.

عام 1983، وعند تمرد الكتيبة 105، تباينت الروايات حول دور قرنق: قيل إنه أُرسل لقمع التمرد، وقيل إنه ذهب للتوسط، وآخرون ذكروا أنه نسق مع ضباط مثل كاربينو كوانين لافتعال التمرد. لكنه قال لاحقاً: "هذه المسألة نتركها للتاريخ ليبحث عنها".

من إثيوبيا أعلن قرنق في يوليو/تموز 1983 مانيفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان، واضعاً نفسه في قلب السياسة السودانية. لم يطرح حلاً لأزمة الجنوب وحده، بل لمجمل أزمة السودان، معلناً مشروع "السودان الجديد".

رغم سقوط نميري 1985، ثم سقوط النظام البرلماني بانقلاب الإسلاميين 1989، وتفكك الاتحاد السوفيتي، وانهيار نظام منقستو في إثيوبيا، وانشقاق الحركة عام 1991، ظل قرنق ثابتاً، يمسك بخيوط الأحداث. وفي 2005 وُقعت اتفاقية السلام الشامل التي أنهت أطول حرب أهلية في القارة. أصبح قرنق بموجبها رئيس حكومة الجنوب والنائب الأول لرئيس الجمهورية. لكن بعد ثلاثة أسابيع من أدائه القسم، وفي ذكرى إعلان المانيفستو، غيبه الموت في حادث الطائرة.

طوال مسيرته، قابل قرنق عروض السلام والتنازلات الحكومية للتفاوض بعين شرهة، وفضّل المساومة على مزيد من المكاسب. وقع إعلان "كوكادام" عام 1986 مع الأحزاب السودانية، مطالباً بإلغاء قوانين الشريعة وحالة الطوارئ. ولم ير تناقضاً في ضم منصور خالد ـ أحد رموز نظام نميري ـ إلى حركته. ومع تعدد المنابر من أبوجا إلى مشاكوس ونيفاشا، عاد مشروع "السودان الجديد" ليتقلص إلى "جنوب علماني" مقابل شمال محكوم بالشريعة. هكذا انتهى قرنق إلى توقيع اتفاق لم يختلف كثيراً عن أديس أبابا الذي انتقده من قبل، إن لم يكن أسوأ، تاركاً خلفه أزمات جديدة وحروباً أخرى في أطراف السودان.

التناقض بين الخطاب والممارسة في إدارة قرنق

رسم مانفيستو الحركة الشعبية لتحرير السودان ملامح مشروع "السودان الجديد" بوصفه دولة اشتراكية، تسعى إلى التحرر من إرث الاستغلال والهيمنة. غير أن واقع الإدارة في مناطق سيطرة الحركة كشف عن تناقض صارخ بين الخطاب الثوري والممارسة اليومية. فالحركة أعادت إنتاج جوهر النظام الذي انتقدته: جيش مسخر لحماية مصالح النخبة، واقتصاد يقوم على الجباية والنهب، ونخب جنوبية تستحوذ على الموارد.

اعتمد النشاط الاقتصادي على أنماط أقرب للسخرة، إذ جرى تشغيل السكان –خاصة النساء– في أعمال الزراعة وخدمة الجنود، في علاقات إنتاج قسرية شابها العنف والاغتصاب. وقد أشارت الباحثة كلومنس بينو إلى أن "خطوط الرق" تحركت جنوبًا، لتجد امتدادها في مناطق سيطرة الحركة. وإلى جانب العمل القسري، فرضت الحركة ضرائب باهظة على المحاصيل والماشية تجاوزت 20٪، وشكلت عصابات محلية – مثل "القولينق"– لابتزاز المجتمعات عبر حماية الماشية مقابل أموال، أو نهبها عند الرفض.

تكشف تجربة إدارة الحركة الشعبية لمناطق سيطرتها عن مفارقة أساسية: خطاب تحرري يعد بالعدالة والمساواة، وممارسة ميدانية أعادت إنتاج أشكال القهر والاستغلال، سواء عبر السخرة والضرائب والنهب، أو عبر توظيف المساعدات الدولية كأداة للتمويل السياسي والعسكري

بعد 1994 شهدت الحركة تحولًا مؤسسيًا مع عقد مؤتمرها العام الأول، مستفيدة من مشروع "شريان الحياة" للإغاثة الذي وفر موارد ضخمة منذ 1989. لكن بدلاً من أن يتحول إلى أداة لتخفيف معاناة السكان، أصبح رافدًا إضافيًا لتمويل الحرب وبناء مؤسسات الحركة. فالهيئة السودانية للإغاثة وإعادة التأهيل حولت جزءًا كبيرًا من المساعدات إلى خزينة الحركة، فرضت ضرائب على ما وزع منها، وباعت محاصيل مشاريعها للمنظمات الإغاثية لتعود إليها في شكل توزيع إنساني. كما استفادت القيادة من البنى التحتية التي مولها المشروع لتخدم في الوقت نفسه الأغراض المدنية والعسكرية، بينما احتكرت الشركات التابعة لقيادات الحركة –ومن ضمنها قرنق– معظم العقود.

في هذا السياق، لعبت الانقسامات الداخلية دورًا مهمًا، فقد برز قادة من بحر الغزال، مثل: سلفاكير ومالونق وجاستين ياك، في منافسة مباشرة لقرنق. قاد بول مالونق مشروع "تحرير الرقيق" بتمويل من منظمات غربية مثل التضامن المسيحي، ما أتاح له شراء الولاءات والتجنيد خارج سلطة قرنق. ورغم استياء الأخير من هذه الممارسة، لم يكن اعتراضه على المبدأ بقدر ما كان على تهديدها لسلطته المركزية. كان مشروع "تحرير الرقيق" مسرحية كبيرة شارك بها قادة الحركة ببحر الغزال، مستخدمين مواطنين من الجنوب للعب دور من تم استرقاقهم، وآخرين يرتدون الجلباب لتمثيل دور تجار الرقيق. لم يكن هنالك تجار رقيق ولا رقيق، على الأقل في تلك الحملة التي صورتها عدسات الكاميرات. لكن قرنق الذي رفض المشروع لأنه يجعل من نفوذه ضعيفاً في بحر الغزال؛ استفاد سياسياً من الموضوع، واستطاعت الحركة أن تستفيد من الحملة ضد الحكومة السودانية وتم الزج بموضوع الرق ضمن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على الحكومة السودانية عام 1997.

بذلك، تكشف تجربة إدارة الحركة الشعبية لمناطق سيطرتها عن مفارقة أساسية: خطاب تحرري يعد بالعدالة والمساواة، وممارسة ميدانية أعادت إنتاج أشكال القهر والاستغلال، سواء عبر السخرة والضرائب والنهب، أو عبر توظيف المساعدات الدولية كأداة للتمويل السياسي والعسكري. هذه المفارقة أضعفت صدقية مشروع "السودان الجديد"، وأظهرت أن الحركة لم تكن بعيدة عن النموذج السلطوي الذي طالما ناهضته.

الحركة الشعبية بين الانقسامات القبلية والخيارات السياسية

منذ اندلاع التمرد عام 1983، لم تكن الحرب الأهلية في جنوب السودان مجرد مواجهة بين الشمال والجنوب، بل ساحة مفتوحة لصراعات داخلية متشابكة في بنية الحركة الشعبية لتحرير السودان نفسها. هذه الانقسامات تكشف أن جذور الأزمة لم تكن أحادية البعد، بل متعددة المستويات: سياسية وعسكرية وقبلية وإقليمية.

يُعزى اندلاع الحرب الثانية في الجنوب إلى جملة من الأسباب: فالبعض يربطها بقوانين الشريعة الإسلامية التي أقرها جعفر نميري في سبتمبر/أيلول 1983، فيما يشير آخرون إلى أزمة مالية مرتبطة برواتب كتيبة بور التي رفضت الحكومة دفعها ما لم تُراجع كشوفاتها. وهناك من يعيدها إلى قرار نقل الوحدات العسكرية الجنوبية إلى الشمال واستبدالها بأخرى شمالية، أو إلى سياسة نميري في إعادة تقسيم الجنوب إلى ثلاث مديريات بدلاً من إقليم واحد. هذه التفسيرات تعكس تعقيد المشهد، وتعدد الأطراف المستفيدة من تفجير الصراع.

تكشف تجربة الحركة الشعبية أن الحرب الأهلية في السودان لم تكن مجرد مواجهة ثنائية بين "شمال عربي مسلم" و"جنوب مسيحي أفريقي"، بل كانت ساحة لصراعات داخلية معقدة

برزت داخل الجنوب نفسه حالة من التململ، خاصة لدى المجموعات الاستوائية التي شعرت بالتهميش وهيمنة الدينكا على الحكم الإقليمي. قادة مثل جوزيف لاقو أيّدوا إعادة تقسيم الجنوب لإضعاف هيمنة الدينكا، غير أن النقاش العام تجاهل هذه التوترات القبلية، وغالبًا ما جرى تفسيرها باعتبارها مؤامرة من المركز لإشعال الفتنة بين الجنوبيين، بينما كانت في جوهرها صراعًا حقيقيًا على السلطة والموارد داخل الحركة.

مع انطلاق التمرد، لعبت الأراضي الإثيوبية دور الحاضنة الأساسية للحركة. لكن حكومة منقستو لم تكن راغبة في دعم مشروع انفصالي، خشية أن يُحفّز الإريتريين على الانفصال. هذا الموقف أدى إلى صدام مبكر بين قرنق وفصائل الأنيانيا 2 التي تبنّت خطابًا انفصاليًا واضحًا، وانتهى الأمر بتصفية أبرز قادتها صامويل قاي توت، في حادثة أظهرت أن قرنق كان مستعدًا لاستخدام العنف الداخلي، والاحتفاء بالتمثيل بالجثث، لبسط هيمنته على الحركة وردع كل من يحاول الخروج عن عصا الطاعة.

انشقاق الناصر 1991: نقطة تحول

سقوط نظام منقستو عام 1991 كان لحظة فارقة، إذ انهارت الركيزة الإثيوبية التي كان قرنق يستند إليها. في هذا السياق خرج رياك مشار ولام أكول من الحركة وأعلنا "فصيل الناصر"، رافعين شعارات الديمقراطية ووقف الانتهاكات. لكن الصراع سرعان ما تحول إلى مواجهات دموية، أبرزها مجزرة بور التي راح ضحيتها الآلاف من الدينكا. رد قرنق جاء أكثر قسوة، باستهداف النوير بشكل واسع، وهو ما عمّق الشرخ القبلي والسياسي معًا داخل الحركة.

في أقاليم الاستوائية، اتخذت الصراعات شكلًا آخر. حصار جوبا عام 1992 كشف الوجه الأكثر قسوة للحركة، حيث أدى القصف والحصار إلى تهديد حياة مئات الآلاف بالمجاعة. تصاعدت المقاومة المحلية عبر تشكيل قوات دفاع جنوب السودان عام 1997، التي ضمت قبائل استوائية ومنشقين عن الحركة الأم من فصيل الناصر، مما زاد من تعقيد المشهد المسلح في الجنوب.

ما بعد قرنق: تأجيل الصراع لا حله

رفض قرنق لاحقًا دمج قوات دفاع جنوب السودان، مفضلاً نزع سلاحها بالكامل، وبالقوة، لتفادي أي تهديد لسلطته. لكن وفاته عام 2005 فتحت المجال لتسوية مؤقتة، وأجلت اندلاع حرب أهلية كانت لتشتعل لو واصل قرنق في نزع السلاح؛ حيث بادر خليفته سلفاكير بدمج هذه القوات عبر إعلان جوبا 2006. رغم وفاته، فقد كان لرجال قرنق بالحركة، المعروفون باسم "أبناء قرنق" نفوذ ضخم عمل سلفاكير على إضعافه باستيعاب هذه القوات. ومع ذلك، فإن جذور الانقسام لم تُعالج، بل أُجّلت، لتعود وتنفجر في الحرب الأهلية عام 2013، مما يوضح أن الصراع داخل الحركة كان بنيويًا أكثر من كونه ظرفيًا.

تكشف تجربة الحركة الشعبية أن الحرب الأهلية في السودان لم تكن مجرد مواجهة ثنائية بين "شمال عربي مسلم" و"جنوب مسيحي أفريقي"، بل كانت ساحة لصراعات داخلية معقدة. الصراع بين الدينكا والاستوائيين، وبين الدينكا والنوير، وبين فصائل الداخل والخارج، جعل الحركة ساحة تنازع قبلي وسياسي متشابك. هذه الانقسامات لم تضعف فقط مشروع "السودان الجديد" الذي رفعه قرنق، بل مهدت لانفجار الأزمات المتكررة حتى بعد الاستقلال، مما يجعل الصراع الداخلي في الحركة أحد أهم مفاتيح فهم مأزق الدولة في جنوب السودان.

 

تم كتابة هذا النص ضمن فترة التدريب والدراسة الخاصة بـ"الأكاديمية البديلة للصحافة العربية" الأكاديمية هي برنامج زمالة مُكثف مدته عام، يشجع على الإبداع والتفكير النقدي في الصحافة وتشرف عليه "فبراير".