الأربعاء 19 نوفمبر 2025
يتداعى اتفاق السلام الموقّع عام 2018 في جنوب السودان بسرعة لافتة. فبعد سلسلة من الخروقات من جانب الحكومة والمعارضة على السواء، تبدو البلاد وكأنها تعود إلى نقطة الصفر. في قلب الصورة يقف الرئيس سلفا كير ميارديت ونائبه الأول رياك مشار تيني، اللذان عجزا عن تحويل الشراكة الهشّة إلى مسار سياسي مستقر، بينما تمنحهما صفقات النفط مع الصين وروسيا مظلّة دبلوماسية ومالية تقلّل كلفة التراجع عن الالتزامات.
بدأ المنعطف الأخير قبل نحو ستة أشهر، عندما فُرضت الإقامة الجبرية على مشار وزوجته وزيرة الداخلية أنجيلينا جاني تيني، عقب اشتباكات عنيفة في ولاية أعالي النيل بين شباب النوير المعروفين بـ«الجيش الأبيض» وزوارق حربية نهرية ومروحيات هجومية. قُتل في المعارك الفريق ديفيد ماجور داك، وسارعت الحكومة إلى تحميل مشار المسؤولية، لتتعزز مخاوف الانزلاق نحو حرب شاملة.
لا تزال جوبا تتمتع بغطاء من عضوين دائمين في مجلس الأمن: الصين وروسيا، اللتين توسّعان حضورهما في قطاع النفط
في 22 أغسطس/آب، دعت لجنة العقوبات في مجلس الأمن أطراف «الاتفاق المُنعَش» لعام 2018 إلى الالتزام بوقف إطلاق النار، وتسريع توحيد القيادة العسكرية، وإكمال تدريب ونشر «القوات الموحّدة اللازمة»، ووقف الاعتداءات على أصول وموظفي بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان (يونميس) والعاملين الإنسانيين. كانت الرسالة الأشدّ صراحة من المندوبة الأمريكية دوروثي شيا، التي قالت إنّ قادة البلاد «فشلوا في إظهار الإرادة السياسية» للوفاء بالتزاماتهم، ولم ينبذوا العنف «أداةً للمنافسة السياسية»، معتبرةً أن الخطوات الأخيرة تُشير إلى تخلٍّ فعلي عن اتفاق 2018 الذي يقوم عليه الحكم الانتقالي.
رغم ذلك، لا تزال جوبا تتمتع بغطاء من عضوين دائمين في مجلس الأمن: الصين وروسيا، اللتين توسّعان حضورهما في قطاع النفط. موسكو، الخاضعة لعقوبات على خلفية حرب أوكرانيا، تمضي في إضفاء الطابع الرسمي على العلاقات وتبحث فتح سفارة في جوبا، بالتزامن مع تهديد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإغلاق البعثة الأميركية. هذا التموضع يمنح الحكومة مساحة مناورة أمام الضغوط الغربية، ويغذّي اتهامات المعارضة بأنّ الاقتصاد السياسي للنفط يعلو على مسار السلام.
اقتصاديًا، وقّعت جوبا في يونيو/حزيران مذكرة تفاهم مع «روسنفت» لتكرير النفط محليًا ونقله، بهدف تقليص الاعتماد على البنية الإقليمية وتعزيز الإيرادات. كما أبرمت اتفاقات مع الإمارات في مجالي النفط والمصارف، ومذكرة تفاهم مع إسرائيل عقب زيارة نائبة وزير الخارجية شارين هاسكل. رافقت الخطوات الأخيرة تكهّنات عن ترتيبات لاستقبال فلسطينيين تسعى إسرائيل إلى ترحيلهم من غزة؛ نَفَت الحكومة ذلك، لكن الغضب الشعبي لم يهدأ.
على خطّ الأمن الإقليمي، تواصل أوغندا تقديم دعم عسكري لحكومة جوبا رغم حظر السلاح الأممي. أعلن قائد قوات الدفاع الجنرال موهوزي كاينيروغابا في مارس/آذار أنّ «قوات دفاع الشعب الأوغندية لا تعترف إلا بسلفا كير رئيسًا لجنوب السودان، وأي تحرك ضده إعلان حرب على أوغندا». وفي أغسطس/آب زار جوبا لترميم العلاقات بعد اشتباكات حدودية في الاستوائية الوسطى أسفرت عن قتلى في صفوف قوات دفاع شعب جنوب السودان.
أما مع الخرطوم، فتسعى جوبا إلى إصلاح ما أفسدته الحرب على خط أنابيب النفط الذي يمر عبر السودان ويؤمّن معظم العملة الصعبة للبلاد. قاد مالك عقار آير، نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، وفدًا إلى جوبا منتصف أغسطس/آب لبحث إنعاش الصادرات عبر بورتسودان. كلا البلدين بحاجة ماسّة إلى الإيرادات، لكن الخرطوم تتوجّس من بحث جوبا عن بدائل عبر إثيوبيا وجيبوتي. زاد المشهد تعقيدًا تسرّب صدى الصراع جنوبًا إلى الشمال: عناصر من «الحركة الشعبية/الجيش الشعبي في المعارضة» تُبدِي تعاطفًا مع القوات المسلحة السودانية، فيما عمّق سلفا كير صلاته مع الإمارات التي تُنظر إليها على نطاق واسع داعمًا رئيسيًا لقوات الدعم السريع، ما غذّى التكهنات بتحولات في الولاءات.
وفي تطوّر لافت، انضمّ عبد العزيز آدم الحلو، زعيم «الحركة الشعبية–شمال» في جبال النوبة، إلى قوات الدعم السريع نائبًا لرئيس حكومتها الموازية المسماة «المجلس الرئاسي». داخليًا، اتّجه سلفا كير إلى إعادة تشكيل المشهد على نحو يُذكّر بأزمة 2013؛ فأقال حاكم غرب الاستوائية ألفريد فوتويو المحسوب على «الجيش الشعبي/المعارضة»، وعيّن مكانه جيمس الطيب جاز بِراباي من «الجيش الشعبي/الحكومة».
تواصلت قرارات الإقالة في أغسطس/آب، وشملت وجوهًا من «الحركة الشعبية/المعارضة» في مجلس الولايات والسلطة التنفيذية، من بينهم: دينق دينق أكوون وماتاتا فرانك إليكانا؛ ووزير الموارد المائية بال ماي دينق؛ ونائب وزير المالية والتخطيط بيتش جورج أنياك؛ ونائب رئيس البرلمان السابق أويت ناثانيال بيرينو، إلى جانب فاروق قاتكوث كام وجاي ماين لوك وريجينا جوزيف كابا وريث موتش تانغ وجويل نهومنقك دانيال من «الجمعية التشريعية الوطنية الانتقالية». تقول «الحركة الشعبية/المعارضة» إن ما جرى خرقٌ صريح للاتفاق، وتحذّر من أن «هذه الإجراءات تهدّد السلم وقد تشعل الحرب مجددًا»، مطالبةً بالإفراج الفوري عن مشار والمحتجزين الآخرين. وتتهم الرئيس بالحكم بالمراسيم، مشيرةً إلى صدور 313 مرسومًا رئاسيًا هذا العام.
تتزايد بدورها الاتهامات بالمحسوبية. عيّن سلفا كير ابنته أدوت سلفا كير مبعوثة رئاسية أولى للبرامج الخاصة، وهو منصب كان يشغله بنجامين بول ميل، الذي صعد بسرعة لافتة إلى منصبي نائب الرئيس الثاني ونائب رئيس «الحركة الشعبية/الحكومة»، ويُنظر إليه على نطاق واسع كخليفة محتمل رغم عقوبات دولية. كما أبعد سلفا كير من قيادة الحزب بعض رموز حرب التحرير ومنافسين محتملين؛ فأقصى نائب الرئيس السابق جيمس واني إيقا من منصبي النائب الأول لرئيس الحزب والأمين العام، واستبدل دانيال أوت أكوت وكول مانيانغ جوك بماري أبّاي أييقا وسيمون كون بوش.
هذه التغييرات تعكس محاولة لالتقاط أنفاس الحكومة، لكنها تكشف أيضًا هشاشة الإدارة الاقتصادية في ظل شح الإيرادات
هذا النهج القائم على الزبائنية والإفلات من العقاب، والذي يقول منتقدون إنه مكّن عائلة الرئيس من التحكم بمفاصل الإيرادات، دفع جنوب السودان إلى ذيل «مؤشر مدركات الفساد» لعام 2024 باحتلاله المرتبة الأخيرة من أصل 180 دولة. وبحسب «ذا سنتري»، جرى الاستيلاء على أكثر من 20 مليار دولار خلال السنوات الماضية.
اقتصاديًا، الصورة قاتمة. يتوقع صندوق النقد الدولي تضخمًا يبلغ 54٪ في عام 2025، فيما خسر الجنيه الجنوب سوداني ثلث قيمته أمام الدولار. أقال سلفا كير وزير المالية ماريال دونغرِن آتر وعيّن أثيان دينق أثيان، الذي سبق أن شغل الحقيبة بين 2020 و2021، ليصبح ثامن وزير للمالية خلال خمسة أعوام. كما استبدل وزير الاستثمار ديو ماثوك دينق بوزير التجارة السابق جوزيف مؤوم ماجاك، وأقال أروب نويي أروب من منصب الوكيل الأول للمالية، وأعاد قرنق ماجاك بول. هذه التغييرات تعكس محاولة لالتقاط أنفاس الحكومة، لكنها تكشف أيضًا هشاشة الإدارة الاقتصادية في ظل شح الإيرادات.
على الضفة الأخرى، يزداد ضغط الدائنين: دعاوى لاسترداد شحنات نفط لم تُسلَّم، وتحكيمات حول رسوم العبور والتوقفات والتعويضات. ولا تزال هوية الجهة التي ستخلف «بتروناس» في حصتها البالغة 40٪ معلّقة منذ خروج الشركة الماليزية في أغسطس/آب 2024.
كل ذلك يجري بينما تتعمّق الأزمة الإنسانية. مع تقليص كبير في منح المانحين، خاصة من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، يلوح شبح المجاعة على مساحات واسعة. تفشّي الكوليرا أودى بحياة 1400 شخص. ووفق «اللجنة الدولية للإنقاذ»، يحتاج 9.3 ملايين إنسان – أي 69٪ من السكان – إلى مساعدات إنسانية، فيما لم يُمَوَّل من خطة الاستجابة لعام 2025 سوى 28٪. وتستمر الاعتداءات على عمال الإغاثة؛ فقد انسحبت «أطباء بلا حدود» من معظم مناطق الاستوائية الوسطى بعد سلسلة اختطافات. وتُصنّف الأمم المتحدة جنوب السودان ثاني أخطر بلد على العاملين الإنسانيين بعد غزة والضفة الغربية.
خلاصة المشهد أنّ جنوب السودان يعيش لحظة مفصلية: اتفاق سلام يتآكل، واقتصاد يترنّح، وشبكات نفوذ نفطية تحمي السلطة أكثر مما تحمي الاستقرار. الطريق إلى تفادي الانفجار ليس مستحيلًا لكنه ضيّق؛ يبدأ بوقف الحكم بالمراسيم، والإفراج عن الخصوم السياسيين، والتقدّم الفعلي في توحيد القوات وإصلاح المالية العامة، وكبح اقتصاد المحسوبية. دون ذلك، ستبقى الهدنة القائمة مجرد فاصل قصير قبل جولة جديدة من الحرب.