تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 17 يوليو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
سياسة

جنوب السودان: أزمة متصاعدة وغياب الاحتواء

18 مارس, 2025
الصورة
geeska cover
Share
لطالما تميزت جنوب السودان طوال تاريخها القصير بالصراعات الداخلية، المدفوعة بالتوترات السياسية والاقتصادية والعرقية، وعلى مدى الأسابيع الأخيرة، شهدت الدولة حالة من الاضطرابات السياسية، والاشتباكات العسكرية، وتصاعدا للعنف المحلي في مناطق متفرقة في البلاد، أعادت إلى الأذهان صورة الحرب الأهلية التي خاضتها الدولة الوليدة حديثًا من رحم السودان، مما أثار توجسات بشأن انهيار اتفاق السلام الهش المُوقع عام 2018.
تطورات الأزمة

انتشرت مؤخرًا حالات من العنف والاشتباكات العسكرية والاعتقالات السياسية بين مكوني الصراع: الرئيس سيلفا كير المدعوم من قبيلة الدينكا، وهي أكبر قبيلة في جنوب السودان، ونائبه رياك مشار، المدعوم من قبيلة النوير ثاني أكبر قبيلة. كان من المفترض توقف الصراع بين الطرفين بعد وضع اتفاق السلام المُبرم عام 2018، والذي جاء بعد حرب أهلية دامية بدأت في 2013، واستمرت خمس سنوات. نتجت عن الاتفاقية المزعومة تقاسم للسلطة بين الرجلين، دشنت بموجبه البلاد مرحلة انتقالية، لتنفيذ بنود الاتفاقية. لكن في الأسابيع الأخيرة، دخلت جنوب السودان حلقة جديدة في سلسلة من الصراعات المزمنة بين طرفي الصراع.

تم الإبلاغ عن اشتباكات بين قوات الحكومة ومليشيات تابعة لنائب الرئيس لأول مرة في يناير/ كانون الثاني في ولاية غرب الاستوائية، لكن التوترات اشتدت منذ ذلك الحين. فقد اندلع قتال عنيف في 14 فبراير/ شباط بين قوات الدفاع الشعبي لجنوب السودان التابع لسيلفا كير، وفرع شبابي مسلح من الجيش الأبيض (ميليشيا تابعة لحركة تحرير شعب السودان المعارضة) في ولاية أعالي النيل. لاحقًا، نفّذتْ قوات الدفاع الشعبي غارات جوية، في 25 فبراير/ شباط، ردًا على ما زعمت أنه هجوم واسع النطاق، شنه الجيش الأبيض بدعم من نائب الرئيس رياك مشار.

تفاقمت الأزمة منذ ذلك الحين، ففي الرابع من مارس/آذار الجاري، سيطرت ميليشيا الجيش الأبيض على قاعدة عسكرية في مدينة ناصر، الواقعة في ولاية أعالي النيل. وفي اليوم التالي، أُلقي القبض على عدد من قادة المعارضة وحلفاء نائب الرئيس مشار، قبل أن تحاصر قوات الجيش منزل هذا الأخير، مما أدى إلى وضعه قيد الإقامة الجبرية. رغم إطلاق سراح عدد منهم، لا يزال التوتر في تفاقم، فقد قُتل جنرال بارز في قوات الدفاع الشعبي لجنوب السودان وعشرات الجنود في عملية إخلاء فاشلة نفذتها الأمم المتحدة من قاعدة ناصر.

أسباب تصاعد التوترات الداخلية في البلاد

تعود التوترات الداخلية الأخيرة، واحتدم الموقف السياسي الحالي في البلاد لعدة أسباب. في مقدمتها؛ تبادل الاتهامات بين مكوني السلطة بإشعال الاضطرابات الأمنية في البلاد، حيث اتهم المتحدث باسم الحكومة، ميخائيل ماكوي، القوات الموالية لمشار بانتهاك القانون والتعاون مع مليشيات "الجيش الأبيض"، لشن هجمات مختلفة على البلاد، مثل ما حدث في مدينة ناصر.

إنّ مستويات التصعيد التي تشهدها البلاد ما هي إلا نتيجة مباشرة لتباطؤ طرفي الصراع في تنفيذ اتفاقية السلام المُبرمة في عام 2018

كما مثلتّ الاعتقالات السياسية التي بدأها سيلفا كير محركًا أساسيًا لتصاعد التوترات، حيث اعتقلت قوات الأمن وزير النفط ومسؤولين كبار في الجيش متحالفين مع رياك مشار، فيما يقبع مسؤولون عسكريون كبار محسوبون على مشار، رهن الإقامة الجبرية. فضلا عن محاصرة قوات الأمن مقر إقامة نائب الرئيس. كل ذلك ساهم في تأزم الأوضاع وزيادة التوتر في البلاد.

يُعد التلويح بالانسحاب من اتفاقية السلام الهشة من قبل مشار، تزامنًا مع الاعتقالات السياسية التي بدأها سيلفا كير، دافعًا أساسيًا لتصاعد التوترات، حيث اتهمت المعارضة المسلحة الحكومة بانتهاك اتفاق السلام، فيما تؤكد الحكومة أن عملياتها تهدف إلى القضاء على التمردات غير الشرعية، وفرض الأمن في المناطق المضطربة.

إنّ مستويات التصعيد التي تشهدها البلاد ما هي إلا نتيجة طبيعية لتباطؤ طرفي الصراع في تنفيذ اتفاقية السلام، حيث انتهت الفترة الانتقالية الأصلية المتفق عليها في اتفاق السلام لعام 2018، في 22 فبراير/شباط 2023، لكن الحكومة مددت الفترة الانتقالية إلى عام 2025. من جانب آخر، ساهمت هشاشة الاتفاقية المذكورة في تأزم الأوضاع الداخلية، فعلى الرغم من تمكُن الاتفاقية من منع القتال بين سيلفا كير ومشار من وقت إبرامها، إلا أن جنوب السودان يشهد بشكل روتيني عمليات عنف على المستوى المحلي لم يتم وضع حد لها.

وعلى مستوى أعمق، يمكن إلحاق تلك التطورات المتصاعدة، بشكل مباشر، بأسباب ودوافع مرتبطة بإقبال البلاد على انتخابات رئاسية قادمة، ورغبة الرئيس سيلفا كير في بسط قبضته على البلاد؛ لمواجهة خصومه السياسيين من أجل تثبيت أركان حكمه، تزامنًا مع قدوم الانتخابات. وقد أعلن كير ترشحه مرة أخرى، لانتخابات كان من المفترض إجراؤها في سبتمبر/ أيلول 2024، قبل أن يتم تأجيلها حتى عام 6202. لذلك اعتقلت قوات الأمن العديد من الشخصيات المعارضة؛ في محاولة منها لإفراغ الساحة السياسية من المنافسين، وتهيئة الأوضاع للانتخابات التي من المؤكد أن يخوضها سيلفا كير.

أدّت تلك المشاكل الاقتصادية المرتبطة بالحرب الأهلية في السودان إلى انزلاق حكومة كير في أزمة مالية ضخمة، وحرمت الرئيس من الأموال التي كانت تُغذي شبكة محسوبيته

يسعى الرئيس سيلفا كير إلى حشد جماعته العرقية الدينكا حول حكمه مرة أخرى، ولا سيما بعد موجة الإقالة التي بدأها برئيس استخباراته المخضرم، أكول كور، في أواخر عام 2024، وانتهت بإقالة اثنين من نوابه. لقد خسر كير العديد من الشخصيات الموالية له في خضم قراراته الأخيرة، مما يضعه في موقف ضعيف في مواجهة خصومه، لذلك يحاول استغلال تصاعد التوترات في ولاية أعالي النيل لتعبئة قبيلته، وكسب الدعم اللازم ضد الحادثة في مدينة ناصر، والتي تضم غالبيتها من الدينكا، ضد قوات المعارضة، التي تنتمي لقبيلة النوير، مما يدعم موقفه في الأحداث، وكسب موالين له تزامنًا مع التوجه نحو الانتخابات.

حرب السودان والتصعيد في جوبا

لا يمكن فصل الأزمة في جنوب السودان عن الحرب الأهلية المشتعلة في السودان المجاور، حيث فقدَ الرئيس سيلفا كير سيطرته الجزئية على زمام الأمور بعد حرب السودان، والتي ألقت بظلالها على اقتصاد جنوب السودان بشكل صريح، من خلال تدمير خط أنابيب النفط الرئيسي بالقرب من العاصمة السودانية الخرطوم وسط القتال في عام 2024.

يعتمد اقتصاد جوبا بشكل شبه كلي على صادرات النفط، وعليه يواجه سيلفا كير ضغوطًا متزايدة، تجعل موقفه الانتخابي في أضعف الصور، حيث يعيش جنوب السودان انهيارًا اقتصاديًا، وتفاقمًا في انعدام الأمن الغذائي، وصدمات مناخية، كل ذلك دون إجراءات عاجلة من جانب الحكومة. وأدّت تلك المشاكل الاقتصادية المرتبطة بالحرب الأهلية في السودان إلى انزلاق حكومة كير في أزمة مالية ضخمة، وحرمت الرئيس من الأموال التي كانت تُغذي شبكة محسوبيته، مما أضعف قدرته على الحفاظ على نظامه.

إنّ الاعتقالات في جوبا، والاشتباكات الدامية حول بلدة الناصر في شمال البلاد، تمثل تهديدا صريحا لاتفاق السلام، وضربة قاتلة لجهود المصالحة. وقد تدفع البلاد نحو صراع جديد، يهدد أمن واستقرار المنطقة بالكامل

من ناحية أُخرى، يحاول الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان إعادة إحياء علاقاته مع ميليشيات قبيلة النوير التي ينتمي إليها نائب الرئيس مشار، حيث ذكرت تقارير صادرة عن مجموعة الأزمات الدولية، في 7 مارس/ آذار الجاري، أن الجيش السوداني بقيادة البرهان، أرسل دعما عسكريا إلى ميليشيات في قبيلة النوير التي تقبع في ولاية أعالي النيل، الواقعة على حدود الدولتين. تأتي هذه التحركات في ظل رغبة القوات المسلحة السودانية في تقويض النفوذ المتزايد لقوات الدعم السريع، التي تسيطر حاليًا على معظم المناطق الحدودية بين السودان وجنوب السودان.

اتفاق السلام على حافة الهاوية

تتجه اتفاقية السلام إلى المنحدر وسط هذه التوترات التي تشهدها البلاد، بالرغم من أنها جاءت لإنهاء الحرب الأهلية في جنوب السودان التي بدأت عام 2013، بعد انفصال جنوب السودان عن السودان في يوليو/ تموز 2011، واستمرت الحرب لخمس سنوات، وذهب ضحيتها أكثر من 400 ألف مواطن.

تضمنت الاتفاقية عدة بنود رئيسية، أهمها تشكيل حكومة وحدة وطنية، وتقاسم السلطة بين الأطراف المتنازعة، بالإضافة إلى ترتيبات أمنية تضمن دمج الفصائل المسلحة في جيش وطني موحد، لضمان الاستقرار السياسي والعسكري في البلاد.

لكن الاعتقالات المتلاحقة في جوبا، والاشتباكات الدامية حول بلدة الناصر في شمال البلاد، تمثل تهديدا صريحا لاتفاق السلام، وتعد ضربة قاتلة لجهود المصالحة. وقد تدفع البلاد نحو صراع جديد، يهدد أمن واستقرار المنطقة بالكامل. علاوة على ذلك، قد يدفع تصاعد الأحداث إلى عرقلة العملية الانتخابية التي من المقرر إجراؤها في أواخر 2026، يذكر أن هذه العملية الانتخابية ستكون الأولى منذ انفصال البلاد في 2011.

حظيت التوترات الأخيرة باهتمام دولي، حيث حذرت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنوب السودان من "تراجع مُقلق"في عملية السلام، وأمرت الولايات المتحدة بمغادرة جميع الموظفين الحكوميين غير الأساسيين البلاد. فضلاً عن نشر قوات أوغندية في جوبا لحماية الرئيس سيلفا كير وحلفائه.

من جهتها، دعت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيجاد) إلى الإفراج عن حلفاء رياك مشار المعتقلين، محذرة من أن احتجازهم يهدد اتفاق السلام في جنوب السودان. وأكدت في بيان لها، عقب قمة طارئة افتراضية، عقد يوم 12 مارس/ آذار الجاري، ضرورة تقديم أدلة قانونية إذا ما استمرت الاعتقالات، كما أدان البيان أعمال العنف الأخيرة.

يبدو من الأحداث المتوالية وعدم ظهور مؤشرات للتهدئة بين الطرفين أن التوترات قد تتفاقم، ومن المرجح أن تشهد البلاد مزيدا من التصعيد السياسي والعنف المحلي، وقد تحاول قوات الجيش التابعة للرئيس سيلفا كير شن عملية جديدة كبرى؛ لاستعادة القاعدة العسكرية في مدينة ناصر التي استولت عليها قوات مشار، مما يضاعف من حالة عدم الاستقرار.

على المدى البعيد، ومع استمرار غياب الثقة بين الثنائي سيلفا كير ورياك مشار، ومحاولة كل طرف تحقيق مصالحه على حساب استقرار الدولة، قد ينجرف جنوب السودان إلى حرب بالوكالة تغذيها أطراف إقليمية، مثل أوغندا التي نشرت قواتها الخاصة في جوبا لحماية حليفها كير. وأيضًا السودان بقيادة البرهان، التي عملت على تدعيم ميليشيات النوير في جنوب السودان لبسط نفوذها على المناطق الحدودية، مما يعطيها ميزة في حربها ضد قوات الدعم السريع.

ختامًا؛ يظهر بشكل جلل أن جنوب السودان يمر بمرحلة حرجة، ويظل التوتر في أعلى درجاته سيد الموقف في جوبا، كما يبدو من الأحداث المشتعلة احتمال تقويض ما تحقق من استقرار هش، منذ عقد اتفاقية السلام عام 2018، وتتشابك العوامل الداخلية والخارجية في سياق الأزمة، مما يعقد الأوضاع أكثر، مع غياب لدور دولي فعّال قادر على فرض آليات السلام.