الاثنين 28 أبريل 2025
فيما خيم التوتر على العلاقات الجنوب أفريقية- الأمريكية بشكل متصاعد، منذ تقلد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مهام منصبه في يناير/ كانون الثاني الفائت، خطت بريتوريا، التي تترأس مجموعة العشرين في العام الجاري، خطوة مهمة لمواجهة الهجوم الترامبي عليها مع انعقاد قمة مهمة مع الاتحاد الأوروبي، في كيب تاون (13 مارس/ آذار الجاري) بحضور الرئيس سيريل رامافوسا ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لين ورئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا؛ والتي شهدت الإعلان عن تقديم الاتحاد حزمة استثمارات لجنوب أفريقيا بقيمة 4.7 بليون يورو (حوالي 5.12 بليون دولار أمريكي) ضمن مبادرة الاتحاد المعروفة بـ "Global Gateway".
على صعيد آخر، تسير خطوات توطيد العلاقات بين بريتوريا وبكين بشكل متسارع للغاية، ولمستويات جديدة منذ احتلال الصين مرتبة الشريك التجاري الأول مع جنوب أفريقيا عام 2008، بعدما وصل إجمالي التجارة بينهما إلى 34.2 بليون دولار عام 2023.
رغم مساعي بريتوريا خفض التوتر مع واشنطن لمستويات مقبولة، يمكن تجاوزها على المدى القريب، بادرت إدارة ترامب، على لسان وزير الخارجية ماركو روبيو، في 14 مارس/أذار إلى إعلان سفير جنوب أفريقيا في واشنطن "شخصًا غير مرحب به" في الولايات المتحدة، ما يبين تعقد خيارات جنوب أفريقيا في ترتيب أولويات دبلوماسيتها الخارجية، بين دوائر الحركة الأمريكية والأوروبية وفي دائرة مجموعة البريكس وفي القلب منها الصين وروسيا.
بدت قمة الاتحاد الأوروبي- جنوب أفريقيا الأخيرة دالة على توجه بروكسل تقوية علاقاتها مع جنوب أفريقيا في ملفات متنوعة. واتضح ذلك من حزمة الاستثمارات التي أقرتها القمة جدية هذا التوجه، ومردوده الإيجاب المرتقب لجنوب أفريقيا؛ إذ شملت أجندة التعاون الثنائي بين الجانبين دعم الاتحاد لقدرات جنوب أفريقيا على إنتاج مزيد من التطعيمات، وتعزيز سلاسل قيمة صناعة الدواء، ودعم "الانتقال الطاقي العادل" عبر تطوير المواد الخام الهامة، وتعزيز قدرات جنوب أفريقيا في ربط البنية الأساسية بما في ذلك النقل والرقمنة.
يعول الاتحاد الأوروبي بقوة على الاستفادة من مقدرات جنوب أفريقيا كدولة رائدة عالميًا في إنتاج الهيدروجين الأخضر، وثرواتها المعدنية المرتبطة بهذا القطاع، وموارد الطاقة المتجددة، إذ تمتلك جنوب أفريقيا نحو 91٪ من احتياطات معادن مجموعة البلاتينيوم في العالم، وهي حيوية في تصنيع المحلل الكهربائي (electrolyser)؛ وهو جهاز إنتاج الهيدروجين عبر عملية كيمائية قادرة على فصل جزيئات الهيدروجين والأكسجين اللذين يتكون منهما الماء باستخدام الكهرباء.
يمكن تصور نظر الاتحاد الأوروبي لبريتوريا باعتبارها نقطة ارتكاز، أو جسر لضخ الاستثمارات المصحوبة بترتيبات سياسية واقتصادية أوروبية، لانطلاق سياسات الاتحاد الأوروبي في القارة، بعد التراجع الملحوظ في تأثيره في قضايا وأقاليم أفريقيا
تضمنت مبادرة "البوابة العالمية" بخصوص جنوب أفريقيا إطلاق مرافق تمويلية لجذب الاستثمارات العامة والخاصة، وتقديم المساعدة الفنية لمشروعات الهيدروجين، وبدء المفاوضات بين الجانبين حول شراكة التجارة والاستثمار في الطاقة النظيفة، وتعظيم الاستفادة من الارتفاع المنتظم في حجم التبادل بين جنوب أفريقيا والاتحاد الأوروبي، الذي تجاوز 50 بليون دولار عام 2024.
تقوم الشراكة الأوروبية- الجنوب أفريقية على تفاهم أكبر، وأسس أكثر واقعية وعملية؛ بالنسبة لبريتوريا بشكل أكبر، مقارنة بالرؤية الأمريكية التي ينتهجها ترامب وفريقه. فقد قدّم الاتحاد رؤية واضحة للاستثمار في معالجة المواد الخام في جنوب أفريقيا، مدعومة بخط مد طرق ربط إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية والمصادر الرئيسة الأخرى للموارد المعدنية الضرورية للانتقالين الطاقي والرقمي داخل عدد من الدول الأفريقية.
استناذا على هذه النقطة يمكن تصور نظر الاتحاد الأوروبي لبريتوريا باعتبارها نقطة ارتكاز، أو جسر لضخ الاستثمارات المصحوبة بترتيبات سياسية واقتصادية أوروبية، لانطلاق سياسات الاتحاد الأوروبي في القارة، بعد التراجع الملحوظ في تأثيره في قضايا وأقاليم أفريقيا. يعزز ذلك من مقبولية أكبر داخل جنوب أفريقيا لهذا الدور الأوروبي، كونه يتسق بشكل تام مع تطلعات الأولى في القارة الأفريقية بشكل عام وفي جمهورية الكونغو الديمقراطية ودول حزام المعادن في أفريقيا الجنوبية على وجه الخصوص.
في المقابل، يعول الاتحاد الأوروبي على تنشيط بريتوريا دبلوماسيتها وسط التغيرات الجيوسياسية الراهنة، والتي تمثل تحديا متعاظمة للأمن العالمي؛ بالنسبة لبروكسل كما بريتوريا في واقع الأمر. واتضح ذلك في بيان قادة الاتحاد الأوروبي (13 مارس/ آذار الجاري) الذي عبر عن تطلعه لتحرك جنوب أفريقيا في ملفي الحرب الروسية- الأوكرانية، حيث وجه رامافوسا دعوة لنظيره الأوكراني فولودمير زيلينسكي لزيارة جنوب أفريقيا في 10 أبريل/ نيسان المقبل، وفي الأزمة الراهنة في الشرق الأوسط (الحرب على قطاع غزة)؛ مما يعد -حسب مراقبين كثر- إقرارًا أوروبيًا بكون بريتوريا صوت مقبول للتعبير عن "الجنوب العالمي"، ومن ثم توظيفه حسب الأجندة الأوروبية في المقام الحالي.
أعادت جنوب أفريقيا مرارًا، وفي محطات متنوعة، تأكيد مكانتها قوة بارزة من قوى الجنوب العالمي داخل التجمع الأبرز الذي يجسد هذا المفهوم، نظريًا على الأقل، وهو تجمع البريكس. وكان من هذه المحطات قمة رامافوسا مع وزير الخارجية الصيني وانج يي في 20 فبراير/ شباط الفائت، في بريتوريا، حيث أكد البلدان التزامهما بتعميق التعاون الاقتصادي في مجالات تطوير البنية الأساسية، وتيسير التجارة ونقل التكنولوجيا، وهي مجالات تضع جنوب أفريقيا على مسار تطوير بنية قوية لتحقيق طفرة اقتصادية في السنوات المقبلة.
يلاحظ أن حجر زاوية العلاقات بين بكين وبريتوريا، في السنوات الأخيرة، تمثل في تجمع البريكس الذي يسّر التعاون بين دوله بشكل عام، ولعب جنوب أفريقيا الدور الأبرز في تعزيز مبادرات الصين (أهمها الحزام والطريق BRI) في القارة الأفريقية، وتحولها لبوابة رئيسة للاستثمار الصين في الأخيرة.
عدم دخول بكين في صراعات مباشرة مع واشنطن. في المقابل تصدت جنوب أفريقيا لإعلاء صوت الجنوب العالمي في هذه الملفات وغيرها؛ الأمر الذي يفسر وثاقة الصلة بين بكين وبريتوريا تحت مظلة البريكس
يتصاعد دور جنوب أفريقيا في المجموعة على الصعيدين السياسي/ التنظيمي والاقتصادي، بشكل ملموس. لكن ارتباطات بريتوريا ببكين تبدو الملمح الأهم في دور الأولى في البريكس بشكل واضح للغاية، مع تزايد اعتماد الصين على جنوب أفريقيا في ملفات تهم مجمل "الجنوب العالمي"، الذي يبدي ساخطًا من الهيمنة الأمريكية- الغربية على النظام الدولي في العقود الأخيرة.
يتجسد ذلك في دور بريتوريا في ملف الحرب في غزة، ورفع دعوى لإدانة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، والوساطة في الحرب الروسية- الأوكرانية. وكذلك لعب دور أكبر في أزمات أفريقية مزمنة، مثل الحرب في شرقي الكونغو حيث تشارك جنوب أفريقيا بقوات كبيرة لدعم القوات المسلحة الكونغولية، وغيرها.
يلاحظ أن مواقف الصين بدت خافتة في تلك الملفات تفاديًا للتصعيد المباشر، والتزامًا بسياسة صينية ظاهرها عدم التدخل في شؤون الدول، وباطنها إلتزام بكين منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي بسياسة تعرف "بالأسيجة الآمنة" (وفق مقررات إعلان شنغهاي الذي توصل لها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر مع القيادة الصيني، ووقعها معها الرئيس ريتشارد نيكسون خلال زيارته التاريخية لبكين في فبراير/ شباط 1972)، وعدم الدخول في صراعات مباشرة مع واشنطن. في المقابل تصدت جنوب أفريقيا لإعلاء صوت الجنوب العالمي في هذه الملفات وغيرها؛ الأمر الذي يفسر وثاقة الصلة بين بكين وبريتوريا تحت مظلة البريكس.
لكن رغم هذه الصلة السياسية والاقتصادية الخاصة بين بكين وبريتوريا، فإنه ثمة تهديد مرحلي يهدد هذه الصلة، وهو تهديد بات سمة في علاقات الصين بأغلب الدول الأفريقية في واقع الأمر، ويتمثل في وصول العجز في الميزان التجاري بين البلدين لصالح الصين إلى مستويات خطيرة؛ فقد بلغ هذا العجز عام 2023 نحو 10 بليون دولار، رغم نهم الصين على طلب المواد المعدنية الخام في جنوب أفريقيا.
تحاول جنوب أفريقيا معالجة هذا التشوه الواضح عبر جهود توسع الصادرات الزراعية والاستثمار في صناعات القيمة المضافة، من أجل خفض الاعتماد على صادرات المواد الخام، وبناء قدرة أكبر للمشروعات الصغيرة والمتوسطة (في جنوب أفريقيا) على مواجهة خطر الواردات الصينية ومنافستها، لاسيما في قطاعي المنسوجات والإلكترونيات، وصولًا ربما لتنفيذ بعض دعوات المعنيين بهذه المشروعات، لفرض رسوم حماية جمركية على الواردات الصينية على المدى البعيد لتحقيق قدر من التوازن في الميزان التجاري.
ويضع هذا "التناقض" مسار العلاقات الصينية الجنوب أفريقيا أمام تحديات حقيقية ربما ستتضح بعض ملامحها في الفترة المقبلة.
استكمالًا للسجال الدبلوماسي الأمريكي- الجنوب أفريقي بادر وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في 14 مارس/ آذار إلى الإعلان عن أن سفير جنوب أفريقيا في واشنطن، إبراهيم رسول، شخ غير مرحب به في البلاد، ثم طرده على خلفية اتهام روبيو له "بكراهية الولايات المتحدة والرئيس دونالد ترامب".
يؤكد ذلك طبيعة السياسة الأمريكية الوصائية تجاه جنوب أفريقيا، لأن قرار روبيو لم يستند لإجراءات مدروسة، بقدر ما جاء استجابة سريعة لتعليقات رسول في إحدى الحلقات الحوارية في اليوم نفسه (الجمعة 14 مارس/آذار) والتي أدان فيها دور إيلون ماسك، رجل الأعمال ووزير وزارة الكفاءة الحكومية في إدارة ترامب، في دعم شخصيات اليمين المتشدد في أوروبا، قبل وصفه "بصفارة الكلب" (dog whistle) في حركة عالمية تحاول حشد الناس لرؤية أنفسهم جزءًا من "مجتمع أبيض يعاني".
ورغم رد الرئاسة الجنوب أفريقية على خطوة طرد السفير بالإعلان عن الأسف والدعوة للحفاظ على الكياسة الدبلوماسية الراسخة، ربما في إشارة لرفض بريتوريا تعليقات رسول، فإن التوجه الأمريكي للصدام مع جنوب أفريقيا سيواصل منحاه التصعيدي دون أفق محدد راهنًا
القصد هنا التدخل الأمريكي في قضايا تخص البيض في جنوب أفريقيا، وقانون مصادرة الأراضي الذي تبنته حكومة بريتوريا بقيادة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي؛ رغم أن إشارة رسول كانت تعبيرًا عن رأي سائد منذ فترة في دوائر النخب الأمريكية وغيرها، عن مساعي ترامب لإعلام "البيض في أرجاء العالم" بأنه سيستخدم قوته لحمايتهم، وتعزيز مصالحهم بغض النظر عن أي واقع قائم، فإن روبيو ربما شعر بخطورة توجيه إهانة شخصية لإيلون ماسك، المعروف بنفوذه وتأثيره غير المحدود على ترامب.
يُتوقع أن تلي هذه الخطوة التصعيدية الأمريكية، بعد إقرار ترامب فرض عقوبات تصاعدية على بريتوريا في الأسابيع الماضية، توترًا دبلوماسيًا هو الأخطر بين البلدين منذ تحقيق الانتقال الديمقراطي في جنوب أفريقيا 1993-1994. ورغم رد الرئاسة الجنوب أفريقية على خطوة طرد السفير بالإعلان عن الأسف والدعوة للحفاظ على الكياسة الدبلوماسية الراسخة، ربما في إشارة لرفض بريتوريا تعليقات رسول، فإن التوجه الأمريكي للصدام مع جنوب أفريقيا سيواصل منحاه التصعيدي دون أفق محدد راهنًا.
يتوقع أن يؤثر هذا التوتر على مجمل العلاقات بين البلدين؛ مع ملاحظة جنوح بريتوريا الأولي لاحتواء الأزمة، لأن الولايات المتحدة تأتي ثانية في ترتيب أكبر الشركاء التجاريين بعد الصين، وبفارق كبير في واقع الأمر إذ وصل التبادل التجاري مع الصين إلى 34.18 بليون دولار في العام 2023 مقارنة بـ 21 بليون دولار مع الولايات المتحدة، وتراجعه إلى 20 بليون دولار في العام 2024. ناهيك عن عدم قدرة الولايات المتحدة عن الاستغناء عن صادرات جنوب أفريقيا الهامة مثل: البلاتينيوم والمنجنيز والكروم ومعادن هامة للتحول الأخضر والرقمي، وهي صادرات ترتبط بشركات أمريكية كبرى.
يلاحظ أيضا أن التبادل التجاري مع الولايات المتحدة في يناير/ كانون الثاني 2025، قد سجل رقمًا قياسيًا في تاريخ العلاقات التجارية بين البلدين منذ بدايتها؛ إذ تجاوز حاجز 2.6 بليون دولار (منها 2.253 بليون دولار صادرات جنوب أفريقية، و380 مليون دولار صادرات أمريكية، وهو رقم يتجاوز نظيره في يناير 2024 بنحو بليون دولار)؛ وقد بات توقع استمرار المنحى التصاعدي لهذا التبادل في الشهور المقبلة برغم قرارات ترامب وإدارته على المحك بعد قرار روبيو.
يبرز هذا التوتر الدبلوماسي، في واقع الأمر، أهمية حركة الدبلوماسية الجنوب أفريقية في دوائر الجنوب العالمي (من بوابة مجموعة البريكس)، ودائرة العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي، تحسبًا لمزيد من الجهود الأمريكية بتوجيه ضربات اقتصادية ودبلوماسية لجنوب أفريقيا.