تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 16 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
تحليلات

جنوب أفريقيا.. أقوى اقتصاد قاري بين مطرقة الجريمة وفساد الشرطة

5 سبتمبر, 2025
الصورة
جنوب أفريقيا.. أقوى اقتصاد قاري بين مطرقة الجريمة وفساد الشرطة
Share

تتصدر جنوب أفريقيا قائمة أقوى الاقتصاديات الأفريقية بناتج محلي إجمالي بلغ 410 مليار دولار، فاقتصادها يتميز بكون الأكثر تطورا وتنوعا من الناحية التكنولوجيا في القارة، كما أنها من بين الدول ذات الدخل المتوسط الأعلى في القارة. لكن هذه الأرقام لا تعكس بالضرورة تطورا شاملا، فالبلاد في المقابل تسجل معدلات سيئة في العديد من المؤشرات.

يعد انتشار الجريمة إحدى المعضلات الكبرى التي تعاني منها الدولة الأكثر تقدما في أفريقيا منذ فترة طويلة، فقد تغلغل الفساد في الأجهزة والمؤسسات المكلفة بحفظ الأمن وصون النظام، حتى باتت جنوب أفريقيا في صدارة قائمة الدول في مؤشر الجريمة، باحتلالها المرتبة الخامسة عالميا بعد كل من فنزويلا وبابوا غينا الجديدة وأفغانستان وهايتي.

الصدارة في الجريمة قاريا

تعاني جنوب أفريقيا من أحد أعلى معدلات جرائم القتل في العالم، بمعدل يزيد عن 75 جريمة قتل يوميا، وكشف تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة أن البلاد سجلت 27 ألف جريمة قتل عام 2024، مرتفعا بنحو الثلث عن عام 2019، ما يعادل 45 جريمة لكل 100 ألف شخص، فيما لا يتعدى المعدل في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا 6 جرائم قتل لكل 100 ألف شخص.

يحظى العنف السياسي الذي لم يسلم منه أي حزب سياسي بنصيب مهم في هذه الجرائم، فخلال عقد من الزمن ارتفعت جرائم القتل المأجور بدوافع سياسية بنسبة 108٪، وفقا لتقرير صادر عن المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية. تشير الدراسات إلى أن تكلفة توظيف قاتل مأجور لا تتعدى 145 دولار في جنوب أفريقيا، ما جعل تشاد توماس، وهو رئيس شركة تحقيقات خاصة، يقول: "إسكات شخص برصاصة أسهل من مواجهة تحقيق".

باتت جنوب أفريقيا في صدارة قائمة الدول في مؤشر الجريمة، باحتلالها المرتبة الخامسة عالميا بعد كل من فنزويلا وبابوا غينا الجديدة وأفغانستان وهايتي

شهدت البلاد 31 حالة اغتيال سياسي من إجمالي 131 عملية قتل مستهدفة عام 2023، والتي ترتفع قبيل كل محطة انتخابية عامة كانت أو محلية، أو عند احتدام الصراع السياسي في المشهد بين الحكومة والمعارضة، أو في المقاطعات التي يتحدم التنافس فيها، لدرجة أن مراقبين يعتبرون هذه الاغتيالات بمثابة متنفس للاحتقان السياسي، فخلال عام 2011 مثلا في عز الاحتجاجات الشعبية لقي 150 سياسيا حتفهم.

تكلفة النشاط الاجرامي على البلاد ثقيلة، فبحسب تقديرات البنك الدولي يتقلص الناتج المحلي بنسبة تصل إلى 10٪، أي ما يعادل 40 مليار دولار سنويا. وفقا لذلك، تصنف جنوب أفريقيا في المرتبة السابعة من بين 193 دولة في تغلغل الجريمة المنظمة في الاقتصاد عام 2023، بارتفاع من المرتبة 19 قبل عامين (2021).

تقديرات تعززها شهادة أبناء البلد، فهذا مايك براون، الرئيس التنفيذي لرابع أكبر مصرف في جنوب أفريقيا من حيث الإيرادات "Nedbank Group" يؤكد أن "العوائق الثلاثة الكبرى أمام النمو في جنوب أفريقيا هي الطاقة والخدمات اللوجستية ومشكلتا الجريمة والفساد".

الفساد ينخر بنية جهاز الأمن

ما كان للجريمة أن تنتشر في البلاد لولا الفساد الذي اخترق جهاز الشرطة، فأحدث التقارير - بناء على إحصائيات الشرطة لعام 2024- تتحدث عن أن أجهزة الأمن لم تحل سوى 11 ٪ من جرائم القتل في البلاد، وذلك عائد إلى توغل هذه الشبكات في مختلف أجهزة الدولة، من الأمن إلى الصحافة إلى المسؤولين الحكوميين وأعضاء البرلمان.

بلغ الاختراق قمة السلطة التنفيذية بعد اتهام وزير الشرطة سينزو متشونو بالتواطؤ مع شبكات إجرامية ما حد بالرئيس سيريل رامافوزا إلى تعليق مهامه شهر يوليو/ تموز الماضي، بعدما فجّر الفريق نهلانهلا مخوانازي، مفوض مقاطعة كوازولو ناتال، قنبلة في وجه الحكومة، وفق تقرير لصحفة التايمز، حين اتهم الوزير بعرقلة وإخفاء تحقيقيات تستهدف في جرائم اغتيال سياسية، وجمّد قضايا تمس بشخصيات ذات نفوذ.

"إسكات شخص برصاصة أسهل من مواجهة تحقيق"

كانت جرأة المفوض ملفتة حين زعم، وفق ذات التقرير، في مؤتمر صحفي يوم 6 يوليو/ تموز الماضي، أن التحقيقات كشفت عن "سياسيين وضباط شرطة وموظفين في خدمات السجون والنيابة والقضاء أصحبوا خاضعين لسيطرة عصابات المخدرات وشبكات الجريمة ورجال الأعمال"، مضيفا، أن الفساد المنهجي يمتد ليشمل وزير الشرطة نفسه، بعد إقدامه على تفكيك فريق تحقيق خاص في جرائم قتل لحماية مشبوهين، مضيفا بأنه يمتلك أدلة على ذلك لم يكشف عنها بعد.

تحول الرجل إلى بطل شعبي محلي، فالتحقيقات التي فتحت ضده بدعوى سوء السلوك حولته إلى رمز في مجتمع أرهقته الجريمة، فقد أطلقت حملة واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي بشعار "لا تمسوا مخوانازي"، والتي اتسع نطاقها بعد المؤتمر الصحفي الذي قال فيه: "أنا جاهز للقتال، وسأموت من أجل هذا الشعار، ولن أتراجع".

حماية ذاتية بعيدا عن الدولة

لا ينفصل إقدام مخوانازي عن تحرك الأهالي في بلدات ضواحي جوهانسبرغ لحماية أنفسهم، كما رصد تقرير لموقع بي بي سي في بلدة ديبسلوت، حيث تنتشر جماعات من المتطوعين في دوريات ليلية بشوارع البلدة من أجل محاربة الجريمة. ينقل التقرير عن أحد المتطوعين قوله: "إن الطريقة الوحيدة للحفاظ على سلامة عائلاتهم هي أن يقوم المتطوعون بأنفسهم بتسيير دوريات في المجتمعات المحلية حتى لو كان ذلك يعني المخاطرة بحياتهم، لأن ديبسلوت أصحب في أيدي المجرمين".

تتعاون فرق المتطوعين مع شرطة البلدية، لكن بشكل غير رسمي، فبعض مما تقوم به مجموعات الأهالي غير مصرح به قانونيا، ناهيك عن أنهم لا يتقاضون أجرا عن ذلك. كما أن هذه الجماعات بلا أسلحة تقريبا، فهؤلاء المتطوعون لا يحملون سلاحا عدا "السجامبوك"، وهو سوط تقليدي مصنوع من الجلد.

تتولى هذه الفرق مهام شرطة حفظ النظام العام في الليل، وتقوم بتوقيف الأشخاص وتفتيشهم بحثا عن المجرمين. وتعمد إلى ضرب من لم يمتثل لها بالسجامبوك، فهو القانون والأداة الوحيدة التي بين أيديهم، في بلد يشهد انتشارا كبير للأسلحة، فحسب منظمة "Gun Free South Africa" هناك أكثر من 500 ألف قطعة سلاح ناري محظور تنتشر، وعلى نطاق واسع- في جنوب أفريقيا.

إن الطريقة الوحيدة للحفاظ على سلامة عائلاتهم هي أن يقوم المتطوعون بأنفسهم بتسيير دوريات في المجتمعات المحلية حتى لو كان ذلك يعني المخاطرة بحياتهم

تحاول الشركات بدورها حماية نفسها بمختلف السبل، فالشركات العاملة في مجال التعدين مثلا تستعين بالطائرات المسيرة للمراقبة، أما المصاريف والأبناك فتعتمد على فرق حراسة خاصة لتأمين شاحنات نقل الأموال على الطرق السريعة، لدرجة أن العاملين بالأمن الخاص في جنوب أفريقيا بلغ 2,7 مليون شخص مقابل نحو 150 ألف شرطي فقط. واهتدت المتاجر الكبرى إلى إنشاء مركز قيادة يرصد عمليات السرقة في أنحاء شبكاتها، ويشارك المعلومات مع الشرطة والمدعيين العاميين. تعاون أثمر خلال خمس سنوات أحكاما بالسجن وصلت إلى 1448 عاما، بما في ذلك 24 حكما بالسجن مدى الحياة.

مستقبل حزب بيد وزير الشرطة

وجد الرئيس رامافوزا نفسه مجبرا على التحرك، فالمجتمع يسعى وراء الأمن بشق الأنفس والفساد ينخر المؤسسة الأمنية، لا سيما بعد الفضيحة التي اعتبرها "تهديدا خطيرا للأمن القومي"، ناهيك عن تكلفته مرتفعة اقتصاديا، فقد سبق لإسماعيل مومونيات، القائم بأعمال المدير العام للخزانة الوطنية، عن اعتبر أن "التكلفة في جميع قطاعات المجتمع هائلة، وأظن أن النسبة أعلى بكثير من 10٪ (فاقد الناتج المجلي الإجمالي بسبب الجريمة) ... النتيجة الرهيبة في جنوب أفريقيا هي أن الجريمة تؤتي ثمارها. الأمر يستحق أن تكون مجرما لأنك لن يقبض عليك أبدا".

في خطوة غير متوقعة، أسند الرئيس مهمة إصلاح جهاز الأمن مطلع شهر أغسطس/ آب الماضي إلى أستاذ القانون فيروز كاشاليا، المناضل المخضرم المعروف بنزاهته، والذي شارك في مفاوضات كوديسا لإرساء الدستور الجديد عام 1994. وسبق له أن تولى مهام تنفيذية وتشريعية في حكومة المقاطعة، قبل تعيين عام 2022 رئيسا للمجلس الاستشاري الوطني لمكافحة الفساد.

تولى كاشاليا المهام وسط شكوك شعبية من قدرته على تطويع مؤسسة يعشش فيها الفساد، خصوصا أنه من المعارضين لشعارات الشعبوية التي يرددها الجنوب أفريقيين من قبيل تبني سياسة "أطلق النار للقتل"، إذ أكد أن المهنية لا تبنى بالشعارات بل بالقانون.

مؤكد أن مصير الحزب الحاكم في انتخابات 2026 بين يدي فيروز كاشاليا، فالنجاح في تطويق الجريمة أو على الأقل الحد من انتشارها، وتطهير جهاز الشرطة من شبكات الفاسدين ستكون أقوى ورقة يمكن لحزب رامافوزا أن يستعيد بها شعبيته التي تراجعت في آخر استحقاق انتخابي، فالمعارضة لا تتوانى في اتهامه برعاية الانهيار المؤسسي.