الأربعاء 12 نوفمبر 2025
وصلت كريستينا وولنر، الأنثروبولوجية الاجتماعية، إلى صوماليلاند، وهي تعتزم دراسة مسارات بناء السلام. لكن مقطعًا تلفزيونيًا لجنديٍّ يغنّي عن الحب في أطراف هرجيسا غيّر مسار خطتها. ما بدأ فضولًا عابرًا تحوّل سريعًا إلى نافذةٍ على الحياة الصومالية، فَتَحَت على "جغرافيات" خفيّة للعواطف والاجتماع كثيرًا ما تغفلها الدراسات الرسمية.
ترصد في كتابها «أغاني الحبّ في الحركة: صوتنةُ الحميمية في صوماليلاند» كيف تحيا أغاني الحبّ الصومالية في المجالين الخاص والعام معًا، وكيف تتوسّط الحدّ الدقيق بين الحميمية والجماعة في مجتمع يتعامل مع تبعات الحرب. واستلهامًا لفينا داس، ترى وولنر أن هذه الأغاني تجعل اليومي قابلاً للمعايشة، إذ تفتح مساحات من تقاسم الشعور (dareen‑wadaag) تمكّن المستمعين من معالجة الفقد، وترميم الثقة، ومواجهة الهشاشة.
لا تقف عند الأثر العاطفي للكلمات؛ فبتتبّع طرائق التأليف والأداء والجدل حول الأغاني، تُظهر أنها كائنات حيّة لا نصوصًا جامدة –"كرات ثلج دلالية" تكبر كلما دارت، فتجمع قصصًا وذكرياتٍ ومعانيَ وتياراتٍ سياسية. كما تطرح أسئلة ملحّة حول الجندر والتأليف في الموسيقى الصومالية: فمع أنّ أصوات النساء شكّلت المشهد الغنائي بوصفهنّ مُغنّيات مُحتفى بهنّ، تبقى معظم الكلمات -حتى حين تُروى بضمير امرأة- من كتابة الرجال. وتفحص وولنر أثر هذه البنية الجندرية في «صوتنة» الحميمية، وكيف تضخّ أصوات النساء المادية وقوّتهنّ الوجدانية في الأغاني معاني تتجاوز حدود اللفظ وحده.
في هذا الحوار مع جيسكا، تسلّط وولنر ضوءًا جديدًا على عالم أغاني الحبّ الصومالية، داعيةً القرّاء إلى النظر إليها لا بوصفها مستودعات للعاطفة فحسب، بل ساحاتٍ يُعاد فيها على الدوام التفاوض حول الجندر والسياسة والإبداع.
كريستينا وولنر:أهلًا إبراهيم، شكرًا على القراءة والأسئلة الثرية. باختصار: وصلتُ إلى هذا الموضوع بالصدفة. خلفيتي في دراسات السلام، وكنتُ أعتزم تخصيص الدكتوراه لمسار بناء السلام في صوماليلاند. أنجزتُ مشروعًا أصغر في هذا الإطار وكان ممتعًا، لكن تركيزي على العمل الرسمي -غالبًا لرجال السياسة- جعلني أغفل عن خبرات الناس اليومية، وهم يبنون نمطًا مختلفًا من الجماعية بعد الحرب.
ثم جاءت مصادفة حاسمة: كنتُ أقيم في دار ضيافة جامعة هرجيسا، وأراد رفاق السكن مشاهدة الدوري الإنجليزي الممتاز، فركّبوا جهاز التلفاز. بعد انتهاء المباراة مررتُ على قناة الموسيقى في "Horn Cable TV"، فرأيتُ رجلًا بزيٍّ عسكري يغنّي بحماس وهو يتجوّل في أطراف هرجيسا. سألتُ جارتي الصومالية عمّا يغنّي، فأجابت ببساطة: "عن الحبّ طبعًا! لم نعد نغنّي للحرب".
لازمتني تلك اللحظة -خصوصًا أنني لم أكن أسمع موسيقى في الشوارع -فبدأتُ أسأل الناس عن أغاني الحبّ، فانفتح لي عالمٌ جديد. صار كثيرون يروون لي قصص حبّهم- وهو موضوع لم أكن لأطرحه ابتداءً -وكأن الأغاني تفتح مجالًا لأحاديث أكثر حميمية. ودُعيتُ إلى فضاءات لم أعرفها من قبل، مثل المجالس حيث يُستمع إلى الموسيقى، ويصنعها الناس معًا، وتتشكّل تفاعلات مختلفة عمّا رأيتُه في أماكن أخرى.
ثم افتُتح مركز "Hiddo Dhawr" أول مسرح موسيقي يعمل بعد انقطاعٍ دام 25 عامًا، فاشتعل نقاشٌ واسع حول موقع الموسيقى والفنانين في المشهد الحضري لهرجيسا. كان ذلك توقيتًا مثاليًا للتفكير في مكانة الفنون في إعادة بناء المدينة، وفي الدور الذي تؤديه أغاني الحبّ في الحياة الشخصية للناس.
وولنر: أمورٌ كثيرة! بتُّ أرى أغاني الحبّ كائنات تعيش حياةً خاصةً وحياةً عامةً معًا؛ ولهذا فهي تكشف خيوط العلاقات الحميمية كما تكشف خريطة السياسة. هنا أستحضر ما تكتبه الأنثروبولوجية فينا داس عن أثر العنف في تفاصيل اليومي، وسبل "جعل اليوميّ قابلًا للمعايشة". برأيي، تعلّمنا هذه الأغاني كيف يواجه الناس المعاناة، ويعيدون بناء الثقة بين الأفراد، ويجرّبون أنماطًا من العيش المشترك، تتطلّب قدرًا من الهشاشة يصعب احتماله في سياقات ما بعد الحرب.
وفي حياتها العامة، تُرينا أغاني الحبّ كيف يُعاد التفاوض على معنى "الجماعة السياسية". تعافى المجال الفنّي في صوماليلاند ببطء مقارنةً بقطاعات أخرى، ولم يَسلَم هذا التعافي من الجدل. والطريقة التي فاوض بها الموسيقيون على مساحتهم في هرجيسا تكشف طيفًا واسعًا من القضايا: من الجندر وعلاقات الداخل بالشتات، إلى سياسات واقتصاديات بناء مؤسسات جديدة في فضاء ما بعد النزاع، وصولًا إلى الكيفية التي يعرّف بها الناس "السياسة" نفسها. ويذكّرنا الباحث الموسيقي تيد جيويا بأن أغاني الحبّ، في كل مكان، سياسيةٌ بطبيعتها، لكنها في الوقت ذاته تستلزم تنازلًا عن السلطة. وهذا ينطبق على صوماليلاند أيضًا؛ فأغاني الحبّ تساعدنا على فهم اشتغال القوّة في الخاص والعام معًا، على نحوٍ قد يفلت من المقاربات التقليدية لبناء السلام وتحليلات ما بعد النزاع.
وولنر: اقترح لي أحد الشعراء هذا المصطلح لأنه أدقّ ما يعبّر عن نوع الحميمية التي تتيحها أغاني الحبّ. صحيح أنّ كثيرًا من هذه الأغاني يدور حول الرغبة بين الرجال والنساء، لكنها تفتح أيضًا حيزًا أوسع لتقاسم المشاعر يتجاوز هذا النوع من الرغبة. ببساطة: تمنح الناس يقينًا بأن تجاربهم الخاصة -وأحيانًا العصية على القول- من حبٍّ أو معاناةِ حبّ، ليست حكرًا عليهم. وفي بيئة يصعب فيها الحديث عن الحبّ علنًا، بل وأحيانًا في الخاص، يصبح هذا الأثر بالغ القوة.
تفعل الأغاني ذلك بعدة طرق. أولًا، لأنها تُنتج تعاونيًا -شاعرٌ وملحنٌ ومغنٍّ- فإن عملية صنعها نفسها تستدعي الجلوس للتفكير في خبرات حبٍّ (ومعاناةِ حبّ) يعيشها آخرون؛ ومجرّد وجودها يلمّح إلى إمكان "تقاسم المشاعر". لذلك ليس غريبًا أن يلجأ الناس إليها ليشاركوا مشاعر يصعب صياغتها، وكي يفكّكوا تحديات علاقاتهم، ولئلا يشعروا بالوحدة.
كما أنّ أغاني الحبّ ليست مقتصرةً على الشركاء الحميمين. حين تتداول وتُؤدّى علنًا تصبح "كاسرةً للحواجز": تُنزل الأقنعة، وتتيح قدْرًا من الهشاشة. إنها تذكّر المستمعين بأنهم يجتمعون على خبرات الانكسار و(معاناة الحبّ). وفي النهاية، تَخيط هذه الأغاني جماعةً ترغب في التأكد من أن هذا الشعور مشترك -جماعة هشاشةٍ مُتقاسَمةٍ تتجاوز الزمان والمكان.
وولنر: جزءٌ من سحر أغاني الحبّ -وقوتها- أن معناها لا يُحسَم مسبقًا. يتوقّف تأويل الأغنية على أشياء كثيرة: من بيئة الخطاب السياسيّ الأوسع، إلى تجارب المستمع العاطفية، إلى المزاج السائد في فضاء الأداء في ليلةٍ بعينها. لذا فالسؤال بالنسبة إليّ ليس عن "كشف" المعنى المضمر فحسب، بل بالسؤال: لماذا يمكن أن تُؤخَذ الأغنية بطرائق متعددة؟ ولأي أثر؟ خلال عملي الميداني في صوماليلاند كان الناس حاسمين: أغاني الحبّ… عن الحبّ. فبيئة التعبير المتاحة تمكّن الشعراء من نقد الرئيس علنًا، فلا حاجة لتمويه الخطاب السياسي داخل أغنية عاطفية. ومع ذلك قد تُسمَع أغنية ما سياسيةً في زمن، ثم تُستَعاد لاحقًا بوصفها سيرةً ذاتية لمستمع آخر. ويقول لي شعراء إن «حُسن الصناعة» يقتضي ترك فراغٍ للمستمع كي يسمع نفسه داخل الأغنية. يلخّص ذلك مثلٌ صومالي: "كلُّ امرئٍ يحكُّ موضعَ وجعه" (Qofba meeshi bugtaa isagay belbeshaa).
أستعير في الكتاب مفهوم "التدحرج الدلالي" (semantic snowballing) لتوم تورينو: ككرة ثلج تبدأ صغيرة ثم تكبر، وهي تلتقط طبقاتٍ من حكايات ومعانٍ وتواريخ كلما دارت وتداولها الناس. هذا لا ينفي جدوى القراءة الدقيقة أو محاورة الشاعر لفهم قصده -وهو مسعى ضروري إن تعاملنا مع الأغاني باعتبارها وثائقَ تاريخية- والناس فعلًا يخوضون نقاشات حيّة حول أصول الأعمال. لكن النقطة الحاسمة عندي أن أغاني الحبّ تُؤلَّف أصلًا كي تُفسَّر: كي تُؤخَذ في أمكنة وأزمنة متعددة. ومع حركتها تتحوّل إلى شبكة كثيفة من المعاني والذكريات والقصص والارتباطات.
وولنر: مع أن النساء يؤلفن الشعر ولديهن أجناس شعرية مخصّصة لهن، أربكني في بداية بحثي أن كلمات (وأحيانًا ألحان) أغاني الحبّ تكاد تكون حكرًا على الرجال. ثمة قراءات متعددة لهذا الواقع. تقترح المؤرِّخة ليدوين كابتينز أن هذه الأغاني أسهمت فعلًا في إدخال قضايا الجندر والرومانسية إلى التيار العام، لكنها ترى أن أثرها التحريري ظلّ محدودًا لأن الرجال هم من كتبوها. وقد قال لي شعراء رجال إنهم يحاولون "التكلّم من موقع امرأة"، لكنهم يظلون محكومين بحد منظور لا يستطيعون إدراكه كاملًا؛ لذا لا نحصل على الصورة الكاملة، ويظل الصوت العمومي للحميمية مُرشَّحًا -جزئيًا على الأقل- عبر الرجال.
لكن اختزال المسألة في "رجال يتكلمون باسم النساء" يُفوّت بُعدًا مهمًا: فهذه الأغاني لا تكتمل إلا بأصوات النساء. وصوت الغناء لا ينقل الكلمات فحسب، بل يحمل قوة وجدانية خاصة تتجاوز اللفظ واللحن. تاريخيًا وحتى اليوم، تظل أغاني الحبّ من المساحات العامة النادرة التي تُسمَع فيها أصوات النساء بوضوح ويُحتفى بهنّ كمغنيات -لا يقلّ احتفاءً عن الرجال، وربما يزيد، مع إدراك أن للشهرة أثمانها. وإذا نظرنا إلى أغاني الحبّ كجنسٍ شعريّ، فهي تميّزت دائمًا بأنها "للرجال والنساء… ومنهم وإليهم".
والأجناس بطبيعة الحال، ليست ثابتة؛ إذ تتقدّم نساء أكثر فأكثر للكتابة في أجناسٍ كانت تاريخيًا «للرجال» مثل الغباي (شكلٌ شعري)،والمشاركة في السلاسل الشعرية. ويهمّني النظر إن كان هذا التحوّل سيقود أيضًا إلى تغيّر في كيفية تركيب أغاني الحبّ ذاتها.
وولنر: نعم، كنتُ أتلقّى تصحيح افتراضاتي بصورةٍ منتظمة -وأكتب عن ذلك في التمهيد. سأشارك لحظةً لا تُنسى ساعدني فيها صديقٌ على وضوح المنظور. بعد أشهر قليلة من بدء البحث كنتُ أعدّد لصديقٍ ما أفعل: أعمل في أرشيف أشرطة الكاسيت بالمركز الثقافي في هرجيسا، أرتاد «هيدّو ضوْر»، أزور «راديو هرجيسا»، أستمع للأغاني على يوتيوب، أحاور فنانين، وأتحدّث مع الأصدقاء محاوِلةً فهم «مشهد الأصوات» في المدينة. كانت الأيام متباينةً إلى حدٍّ أربكني. ابتسم وقال ببساطة: "الخيط الذي يجمع كلّ هذا، كريستينا، هو… أغاني الحبّ".
بدا الأمر بديهيًا لاحقًا: لقد كنتُ «أتّبع» أغاني الحبّ، لذلك هي ما وحّد تلك الخبرات. كانت تلك لحظة «آها» ساعدتني على إدراك سرّ قوّتها: إنها تتنقّل بلا انقطاع بين الحيّز الخاص والمجال العام، ومع دورانها تصل الناسَ والمشاعرَ عبر الأمكنة والأجيال. تحوّل هذا الاكتشاف إلى أطروحةٍ مركزية في الكتاب، وأنا ممتنّة جدًا لذلك التنبيه البسيط الذي أعاد ترتيب المشهد كله.
وولنر: الخيارات كثيرة فعلًا، لكن إن اضطررتُ للاختيار فسأقول (Xaafuun) هذه الأغنية تفتح أمامي عوالم متعدّدة: عزفُ عُمَر دوولّي على الكَبّان (العود) في تسجيلاتها القديمة آسرٌ بحق. وهي أيضًا من أوائل القطع التي علّمني إيّاها أستاذي في العود، عبد الناصر معلم عيديد، وقد اختارها لأنه كان يعلم أنني أمضي وقتًا مع خَضْرة داهر، التي سجّلت بدورها نسخةً بديعة من الأغنية. حين أستمع إلى «حافون» أتذكّر الساعات التي حظيتُ فيها بصحبة عبد الناصر وخَضْرة، كما يأخذني صوت خَضْرة الدافئ الهشّ -الكاشف عن قلبٍ رحبٍ حقًّا، إلى تلك اللحظات الحميمة التي تجعل الموسيقى أكثر من لحنٍ وكلمات.