الأحد 9 فبراير 2025
يبدو أن الشرق والغرب الأفريقيين في تناغم وانسجام، لا يكاد يدركه سوى المتابع الحذق لشؤون جناحي أفريقيا، فكما تحضُر التجارب الديمقراطية الناشئة في المنطقتين (السنغال وغانا وكينيا وصوماليلاند...) تشتركان أيضا في القلاقل والتوترات والصراعات الحدودية والتنظيمات المتطرفة... لدرجة يبدو معها الإقليمين متناظرين؛ فما يحدث هنا حتما تجد له نظيرا هناك، رغم بعد المسافات وتباين السياقات، وغير ذلك من التفاوتات والفوارق بين المنطقتين.
في الشرق الأفريقي صراعات حدودية بين دول المنطقة، وأخرى داخلية ضد القوميات أو الأقليات، وأحيانا ضد تنظيمات إيديولوجية مسلحة، فالصراع في إقليم أمهرة الإثيوبية يشتد بين القوات الحكومية وميليشيا فانو، وفتيل المعارك بين الحكومة الفيدرالية وحركة الشباب في الصومال على وشك الاشتعال مجددا، متى تخلصت مقديشو من عجزها باستعادة المبادرة لإطلاق المرحلة الثانية من الحرب ضد الشباب، وهكذا دواليك في صراعات لا تهدأ إلا لتنطلق من جديد، بشرارة وقوة كبيرتين، ما يعيد إلى الواجهة في كل مرة، بأكثر من صيغة، سؤال الدولة في الشرق الأفريقي.
تنطبق الأسئلة عينها على الغرب الأفريقي رغم بعد المسافة؛ فأوسع امتداد للقارة في قسمها الشمالي يبلغ حوالي 7400 كلم، فالصراعات البينية والداخلية هناك في تزايد، خصوصا بعد تحول المنطقة لإحدى بؤر التنافس الدولي بين الكبار (أمريكيا وروسيا والصين وفرنسا...)، ما يفتح شهية كل طرف لاستغلال الوضع لصالحه أحسن استغلال، بالسعي نحو الحصول على الدعم الخارجي أو فقط استثمار فرص التدهور الداخلي.
شهدت مالي أواخر عام 2024 تحركا ملفتا لا يخرج عن هذا السياق، تمثَّل في إقدام أربع حركات سياسية وعسكرية، وهي: "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" و"مجموعة إمغاد وحلفاؤها للدفاع عن النفس" و"المجلس الأعلى لوحدة أزواد" و"الحركة العربية الأزوادية"، عن حل نفسها، من أجل تشكيل جبهة موحدة من مختلف الفعاليات الناشطة في منطقة الساحل الصحراوي، تحت مسمى "جبهة تحرير أزواد" التي تستهدف تحرير المنطقة، ما يزيد الأوضاع تأزما في منطقة مأزومة أصلا.
يخلِط ميلاد "جبهة تحرير أزواد" الكثير من الأوراق في منطقة الساحل، ويُحتم على مختلف الفاعلين؛ محليين وإقليمين ودوليين، مراجعة حساباتهم على ضوء هذا المتغير المحلي، فالجبهة الوليدة لا تتوانى عن التأكيد بأنها تشكلت بهدف الدفاع عن المكون الأزوادي في منطقة الساحل، وذلك بإعادة إحياء المساعي لاستقلال إقليم أزواد والشمال المالي عن الحكومة المركزية، وكان لافتا دخول مفردة "تقرير المصير" في الأدبيات السياسية للتنظيم الجديد، كما جاء على لسان الناطق الرسمي باسم الجبهة، بلال آغ شريف "الممثل الشرعي الوحيد لشعب أزواد، وهي تخوض كفاحها من أجل تقرير المصير".
كانت هذه الخطوة متوقعة بالنظر لتطورات المتلاحقة في السياق الداخلي والإقليمي لمالي، فالظاهر أن المجلس العسكري بقيادة أسيمي غويتا الذي تولى الحكم في مالي، عقب الانقلاب على الرئيس المدني إبراهيم أبو بكر كيتا في 18 أغسطس/ آب 2020، يبحث بشق الأنفس عن بصيص من الشرعية يحفظ بها ماء الوجه أمام الماليين، بعد نكوله عن وعود سابقة، كان آخرها انقضاء عام 2024 دون عودة الحياة الدستورية بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية. لذلك، تُمعن القيادة الحالية في استخدام ورقة محاربة الإرهاب دفاعا عن وحدة البلاد، ما جعلها تُعلن وقف العمل باتفاق "السلم والمصالحة" الموقعة بين الحكومة المركزية والجماعات السياسية والعسكرية، في الجزائر في مارس/ آذار عام 2015.
دفَع الحضور المتزايد لقوات فاغنر على الأراضي المالية بدوره نحو الإقدام على هذه الخطوة، فتقدَّم الجيش المالي نحو العمق الأزوادي مدعوما بمقاتلي فاغنر، أو ما يطلق عليه حاليا "فليق أفريقيا"، ما أسفر عن خسائر بشرية ثقيلة في قيادة الحركة (معركة تنزواتين)، منذ بداية الصراع عام 2012. كل ذلك فرض على الأزواديين مراجعة خططتهم، بالتكتل دفاعا عن أنفسهم. كما شكَّل فرصة مثالية لهؤلاء لكشف زيف شعارات رجال الجيش، فالخطب النارية عن السيادة والاستقلال والتحرر الموجه ضد الاستعمار الفرنسي، لا تنطبق مطلقا على الوجود الروسي المتنامي في البلد، بمباركة وقبول من الحكام الجدد في باماكو.
شكلت الأزمة الداخلية التي يتخبط فيها المجلس العسكري من جهتها نقطة قوة، استثمرها بذكاء قادة الحركات في شمال البلاد لصالحهم، خصوصا قيام الجنرال أسيمي غويتا بإنهاء مهام رئيس الوزراء، شوغيل كوكالا مايغا وأعضاء حكومته، في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بعد أربعة أيام من توجيه الرجل، وبشكل علني، انتقادات للمجلس العسكري الذي أبعده عن اتخاذ القرارات، معربا عن تشاؤمه من الضبابية التي تُخيم على الفترة الانتقالية الحالية. ما يثير من جديد أسئلة كثيرة حول الديمقراطية والتنمية والتحرر... وما إلى ذلك من الأحلام الوردية التي زيّن بها قادة الجيش للشعب انقلابهم العسكري.
دون استغراق في الأسباب والدواعي والخلفيات وراء تأسيس "جبهة تحرير أزواد"، تبقى الخطوة في حد ذاتها نقلة نوعية في طريقة وأسلوب تدبير الأزواديين لصراعهم مع السلطة المركزية، فالتحرك في هذا السياق والتوقيت تحديدا يحتم مراجعة معادلات كانت سارية المفعول حتى وقت قريب، ضمن القواعد المؤطرة لموازين القوى في المنطقة.
أولا؛ يفتح التحالف الجديد الباب على مصراعيه للتصعيد العسكري في شمال مالي، خصوصا وأن الجيش المالي ينحو نحو خيار تكثيف هجماته لاحتواء مخاطر التهديد، وبدا ذلك واضحا في قرار استخدام الطائرات الميسرة، بعد يوم واحد فقط على تشكيل التنظيم الجديد. بطش الجيش بارتفاع ضحاياه من المدنيين سوف يقابل حتما بدعم شعبي للجبهة، لا سميا من زعماء قبائل، ظلوا حتى وقت قريب، يفضلون الحياد في المعركة، قبل أن تصلهم شظايا نيران الحرب المشتعلة.
ثانيا؛ ينذر التصعيد بين الحكومة والجبهة بدخول قوى أخرى فاعلة في المنطقة على الخط، والقصد هناك تحديدا التنظيمات المتطرفة النشيطة بالمنطقة (القاعدة وبوكو حرام...)، بالتكثيف من عملياتها في الميدان، مستغلة السياق الأمني المضطرب في البلد، ولما لا حتى التعاون مع جبهة تحرير أزواد، وفق القاعدة المعروفة "عدو عدوي صديقي"، فعدو الطرفين واحد ألا وهو قوات الجيش المالي النظامية.
ثالثا؛ تُمثل الحرب ضد الأزواد في شمال البلاد ورطة كبرى بالنسبة لكونفدرالية الساحل التي تضم كلا من مالي وبوركينافاسو والنيجر، المعلن عن تأسيسها في 6 يوليو/ تموز 2024، بعد تطوير معاهدة الدفاع المشتركة ل 16 سبتمبر/ أيلول 2023. في حال اشتداد المعارك في شمال البلاد، هل تدخل واگادوگو ونيامي على الخط لدعم حليفهما؛ ليس لمواجهة عدوان أجنبي (قوات الإيكواس مثلا) بل ضد مكون من مكونات الشعب المالي؟ ما قد يتحول إلى بداية نهاية الكونفدرالية لدى شعوب هذه الدول، فالحلم كان بتحالف يقود نحو النمو والرقي والازدهار، لا بكيان يقضي على أحد المكونات الأساسية التي شكَّلت تاريخ وحاضر المنطقة.
رابعا؛ تُربك الجبهة، عمدا أو صدفة، حسابات روسيا في المنطقة، خصوصا عقب تورط قوات فاغنر في مواجهات بالشمال المالي، في منطقة تنزواتين على الحدود مع الجزائر، واتهام باماكو الجزائر في بيان شديد اللهجة ب"دعم الجماعات الإرهابية، والتدخل في الشؤون الداخلية"، في إشارة إلى دعم حركة أزواد. بذلك تكون موسكو والجزائر على طرفي نقيض حيال باماكو؛ فالأولى تساند بشكل مباشر المجلس العسكري، فيما تسعى الثانية لدعم الأزواد، لكونها من ناحية راعية اتفاقية المصالحة عام 2015، وضدا من ناحية أخرى على انخراط المجلس العسكري في مبادرة "الطريق إلى الأطلسي" التي طرحها المغرب على تحالف الساحل.
خامسا؛ من شأن ظهور الجبهة ككيان موحد بقيادة سياسية وعسكرية، يدافع، وبشكل حصري، على حقوق ومصالح شعب الأزواد، أن يكون بوابة نحو البحث عن الاعتراف الدولي، من قبل قوى دولية مناوئة للعسكريين الماسكين بزمام الأمور في باماكو، أو على الأقل ورقة ضغط للمساومة من أجل مزيد من الامتيازات والتفضيلات، لوجود مخاوف لدى الكبار من احتمال تفكك دول الساحل لدويلات صغيرة بسبب إظهار التأييد. وقد يكون أيضا بوابة للتدخل الغربي (فرنسا وأوكرانيا...) لتطويق التمدد الروسي في منطقة الساحل أو على الأقل استنزافها قدراتها هناك.
بمنطق السياسة، تبقى المصلحة المثلى لحكام باماكو في العودة إحياء اتفاق 2015، أو حتى فتح قنوات التواصل مع الجبهة بغية الجلوس إلى طاولة المفاوضات لتوافق على اتفاق جديد يخفف من حدة التصعيد بالمنطقة. وبمنطق العسكر، فلا تراجع ولا توقف دون القضاء على من يهدد وحدة البلد، وتقديمهم عبرة لأي حركة أو تنظيم قد يفكر مستقبلا في التمرد ضد سلطة الدولة. ويبقى البون شاسعا بين المنطقين في منطقة لا تزال فكرة الدولة غير صافية في الأذهان، وفكرة المواطنة محل التباس لدى الأكثرية ما يعدد الولاءات لدى الأفراد والجماعات.