الثلاثاء 11 نوفمبر 2025
في هذا العام، وفي غمرة التكهنات بمن سينال شرفَ نوبل في الآداب (الفرع الذي يُحظى بالقدر الأكبر من الاهتمام لشعبية الأدب بعكس الفروع الأخرى)، تذكرت فيلم The Wife (2017) للمخرج بيورن رونج وسيناريو جين أندرسون استنادا إلى رواية ميغ ووليتزر وبطولة جلين كلوز وجوناثان برايس.
الفيلم دراما نفسية عميقة، تتكشف أحداثها عن خلفية أرفع الجوائز الأدبية في العالم، حيث تدور حبكة الفيلم حول الزوجين جو كاسلمان وجوان كاسلمان اللذين يعيشان علاقة معقدة استمرت لما يقارب الأربعين عاما، تبدأ القصة بإعلان فوز جو الأديب الأمريكي الشهير والمتغطرس بجائزة نوبل، وعليه أن يسافر إلى ستوكهولم هو وابنه وزوجته التي لطالما وقفت معه في مسيرته، ويسافر الزوجان لحضور مراسم تسليم الجائزة، ومع اقتراب اللحظة الحاسمة يبدأ التوتر المخفي بين الزوجين، وبدخول ناثانيال بون- كاتب السيرة الذاتية الذي يستجدي جو لكتابة سيرته- يزداد التوتر، ويبدأ ناثانيال في التلميح إلى تأثير جوان- الطالبة الموهوبة التي كانت تكتب القصص- على أستاذها في جامعة سميث البروفسور جو كاسلمان، والذي صار زوجها فيما بعد، ومع تصاعد الأحداث نكتشف أن جو الفائز بنوبل قد استغل موهبة زوجته التي كانت غير واثقة بقدرتها على النجاح في عالم يهيمن عليه الرجال، خصوصا بعد أن رأت كيف تتعرض الكاتبات للتهميش، وينكشف لنا السر الأكبر وهو أن الزوجة جوان هي الكاتبة الحقيقية لمعظم أعمال جو الشهيرة، لقد اتفقا على نشر أعمالها باسمه، لأنها كانت تعتقد بأن إبداعها لن يُؤخذ على محمل الجد إلا إذا قُدم من خلال "كاتب رجل".
مع اقتراب موعد تسليم الجائزة تتعرض أسرة جو لامتحان عصيب بتدخل ناثنيال الباحث عن الأسرار، والذي يلمح بالسر لابنهما، ويواجه الابن أبويه بالحقيقة، وفي خطاب نوبل يمجد جو زوجته، لكنه لا يستطيع أن يعترف بأنها كاتبة أعماله، وبعد مشادة في الفندق، تصرح جوان بأنها ستتركه، وخلال الجدال يصاب جو بنوبة قلبية ويموت، وكأن في موته في بلد الجائزة دلالة رمزية إلى أن حياته لم يعد لها معنى بعد حصوله على أرفع مجد دنيوي يرجوه الإنسان، وفي المشهد الأخير، وأثناء العودة إلى الوطن، في الطائرة، تواجه جوان ناثانيال مرة أخرى وتهدده باللجوء للقضاء إذا حاول نشر أي شيء يسيء لسمعة جو كعبقري، الأمر ليس حماية للسر كما يبدو، بل لحماية تغير نظرة الناس لأعمالها التي أوصلت جو إلى نوبل.
في سياق نوبل للآداب، نجد أن امرأة واحدة فقط من أفريقيا فازت بها، وهي الجنوب أفريقية نادين جورديمر، هل هذا يتعلق بوضع المرأة في أفريقيا؟ أم يتعلق بشبكة من الإشكالات أدت في النهاية إلى هذا الواقع؟
الفيلم جدير بالتأمل، جعلني أتساءل: من يستحق نوبل حقاً؟، هل كل من فاز بها يستحقها؟ وماذا لو لم يفز من نرى أنه جدير بها؟ وكم موهبة مثل جوان قد عاشت في الظل دون أن يُسلط عليها ذرة ضوء؟ قصة الفيلم إنسانية، وهي سؤال مفتوح حول الخلود والاحتفاء الأدبي، وإن كان أبطالها أمريكيون، إلا أن المكان ليس سوى فضاءً محايدا، يمكن أن يكون رمزا لكل مكان، والشخصيات ببعدها الإنساني العالمي، يمكن أن تكون رمزا لكل ذات مبدعة في هذه الأرض، وأفريقيا ليست استثناءً.
في منتصف الليل، يرن هاتف عائلة كاسلمان، وكانت هوية المتصل آخر ما تتوقعه العائلة، إنه السيد آرفيد إينغدال من مؤسسة نوبل في ستوكهولم، ليُبلغ جو بفوزه بالجائزة عن أعماله التي ألفها بألفة فائقة وظَرَف وتحديه للنموذج الروائي بطرق ستؤثر على الأجيال القادمة من المؤلفين. إنها المفاجأة التي لم يتوقعها جو ولا زوجته، وهذا يذكرني بأحد الفائزين هذا العام حيث وجدت الأكاديمية صعوبة في الاتصال به لأنه كان في رحلة برية، فالجائزة لا تفاجئ الفائزين بها وحسب، بل وتفاجئنا نحن أيضا، فبعد كل إعلان للفائز بجائزة نوبل للآداب، يصاب الكثيرون بالإحباط؛ لأن لجنة الجائزة قد خيبت توقعاتهم، واختارت اسما لم يتوقعونه، كأنها تسير على خُطى القصصي الأمريكي أو. هنري الذي اعتاد أن يفاجئنا بنهاياته التي لا تخطر على بال، ومع ذلك لم يتخلَّ النقاد ولا القراء عن لعبة التكهن.
في هذا العام، كنا نحلم أو نتوقع - رغم العلاقة غير المتكافئة بين عظمة الأدب الأفريقي ونظام الاعتراف الغربي الذي تمثله نوبل- أن تفوز بها كاتبة من أفريقيا، البعض توقع آسيا جبار، والبعض الآخر توقع تشيماندا، أما الرجل الذي توقعه الكثيرون فهو نور الدين فرح، الروائي الصومالي المقيم في أوروبا، فهو يمتلك مشروعًا سردياً متماسكًا عن انهيار الدولة، والعلاقة المعقدة بين الفرد والمنفى، بلغة تنزاح عن الخطابة السياسية نحو رؤيةٍ إنسانية تتجاوز الهويات الضيقة، فنور الدين فرح من الأسماء التي تتردد كثيرا في موائد التوقعات كل عام، هو والراحل وا ثيونغي أنغوغي رمز الأدب المناهض للاستعمار، والذي كتب بلغته الأم الكيكويو، وظل يدعو لعقود إلى "تحرير المخيلة الأفريقية" من التبعية اللغوية، ومات قبل أن ينالها، وقد سبقه إلى هذا المصير الطيب صالح وشنوا أشيبي. كان ذلك مخيبا للآمال، لأن الجائزة ليست تتويجا للأديب وحده بل لميراث ثقافي حافظت عليه أمته، ويحفز الآخرين للتعارف والتأثر والتبادل الثقافي.
يطمح أبناء القارة بالمزيد من الفائزين يضافوا إلى: وول سوينكا (نيجيريا/ 1986)، نجيب محفوظ (مصر/ 1988)، نادين غورديمر (جنوب أفريقيا/ 1991)، جون كويتزي (جنوب أفريقيا/ 2003)، وأخيرًا عبد الرزاق قرنح (تنزانيا/ 2021)، ورغم هذا الحضور الخافت في جائزة تعدى عمرها المائة عام، إلا أن كل فوز قد شكّل لحظة اختبار لعلاقة أفريقيا بالعالم: من نغمة المقاومة الثقافية لدى سوينكا، إلى واقعية محفوظ المغموسة في الروح الشعبية، وصولًا إلى سرديات قرنح التي فتحت جروح ما بعد الاستعمار أمام ضميرٍ عالميٍ خجول، وكان كل فوز لهؤلاء مفاجأة سارة يتمنون لو تكررت مرارا .
يشكّل كل فوز لحظة اختبار لعلاقة أفريقيا بالعالم: من نغمة المقاومة الثقافية لدى سوينكا، إلى واقعية محفوظ المغموسة في الروح الشعبية، وصولًا إلى سرديات قرنح التي فتحت جروح ما بعد الاستعمار أمام ضميرٍ عالميٍ خجول، وكان كل فوز لهؤلاء مفاجأة سارة يتمنون لو تكررت مرارا
وإذا فاجأتنا الجائزة هذا العام باختيار اسم لم نتوقعه، فيكفي أنها فتحت الباب أمام الترويج لأعمال بعض أدباء أفريقيا المميزين، فهذه فرصة لتحفيز القراء إلى مزيد من الأعمال التي تعبر عنهم، ويكون هذا الاهتمام بمثابة جائزة نمنحها لكتابنا وكاتباتنا، فليس هنالك أقسى من حسرة مبدعينا على نيل الاعتراف العالمي، سوى شعورهم بأنهم لا يمثلون الكثير لدى أبناء جلدتهم.
يعد فيلم الزوجة نقدا للهيمنة الذكورية على الجائزة، وعلى المشهد الأدبي عموما، والمتمثل في دور النشر ومراكز الصناعة الثقافية، فإذا نظرنا إلى تاريخ الفوز بجائزة الآداب سنجد أن نسبة فوز النساء بها لا تتجاوز 15٪، وإذا كان الفيلم يتحدث من منظور النسوية الغربية التي تبحث عن استقلال المرأة كفرد، في المقابل، تنظر النسوية الأفريقية إلى التحرر كإعادة توازن داخل الجماعة، لا كصراع بين الجنسين.
في سياق نوبل للآداب، نجد أن امرأة واحدة فقط من أفريقيا فازت بها، وهي الجنوب أفريقية نادين جورديمر، هل هذا يتعلق بوضع المرأة في أفريقيا؟ أم يتعلق بشبكة من الإشكالات أدت في النهاية إلى هذا الواقع؟ هنالك الكثير من المبدعات ولا شك، ومثل جوان رأين في عالم النشر وحشا من الصعب التغلب عليه، فاكتفين بإبداعهن لأنفسهن، وهذا ما دفع نساء من القارة لدخول عالم صناعة الكتاب لكسر هيمنة الرجال عليها، وإتاحة فرصة لظهور أصوات نسائية، وإذا كانت الأصوات النسائية الأفريقية التي وصلت للعالم قليلة حتى لعهد قريب، فذلك لأن نشر الأدب الأفريقي بالإنجليزية كان في بداياته مركزا على الرجال، مثل: "African Writers Series" التي أسست في العام 1962، ففي أول عقدين من وجودها نشرت السلسلة لأكثر من 200 كاتبا منحتهم منصة عالمية، لكن من بينهم فقط أربع نساء.
لكن الوضع صار أفضل الآن، فهنالك تغيرات جذرية في صناعة الكتاب في بلدان مثل: نيجيريا وكينيا وجنوب أفريقيا وغانا، عبر دور نشر مستقلة، مثل: "Cassava Republic" في نيجيريا، و "Modjaji Books" في جنوب أفريقيا، و"Huza Press" في رواندا، بفضل نساء اقتحمن عالم النشر، هذه المساحات الجديدة تدفع بصوت المرأة بعيدا، وتؤكد أن غيابها الطويل عن المشهد الثقافي لا يعني ضعف قدراتها بقدر ما يعكس خللاً في توزيع السلطة الرمزية، من هذا المنظور، تبدو "جوان" شبيهة بنساء أفريقيات نراهن في روايات تعالج قضايا المرأة، مثل: رواية "إيريم" لستيلا قايتانو أو رواية "Nervous Conditions" لتسيتسي دانغارمبغا أو مقالات وروايات تشيماماندا أديتشي، حين تكتب عن المرأة التي تعيش بين وعيين: وعي الجماعة ووعي الذات.
الرجل الذي توقعه الكثيرون فهو نورالدين فرح، الروائي الصومالي المقيم في أوروبا، فهو يمتلك مشروعًا سردياً متماسكًا عن انهيار الدولة، والعلاقة المعقدة بين الفرد والمنفى، بلغة تنزاح عن الخطابة السياسية نحو رؤيةٍ إنسانية تتجاوز الهويات الضيقة
وإذا نظرنا إلى الهيمنة في سياقات أخرى تتعلق بالجائزة، فمن الواضح أن نرى هيمنة أخرى غير الهيمنة الذكورية وهي الهيمنة الغربية، حيث يستأثر الغرب بكل المجد الثقافي والعلمي، ويُشرك معه الآخرين من باب تجميل صورة الجائزة وعالميتها، فمنذ تأسيسها عام 1901، ظلت جائزة نوبل في الأدب معيارًا رمزيًا للقيمة الثقافية كما تُعرّفها أوروبا. فهي ليست فقط اعترافًا بالجمال الأدبي، بل أيضًا أداة تصنيفٍ ثقافي تُعيد عبرها المؤسسة الغربية إنتاج صورتها عن «الآخر» - سواء كان شرقًا أو جنوبًا.
حين ننظر إلى حضور القارة الأفريقية في تاريخ الجائزة، ندرك أن المسألة لم تكن غيابًا فنيًا بقدر ما هي تهميشٌ مؤسسيّ لما لا ينسجم مع ذائقة المركز الذي جعل من نفسه قمة الهرم المعرفي؛ وعبر سلطته الثقافية يكرس فكرة أن الاعتراف يمر عبر الغرب أولا، وهذا ما نراه في نقد كتّاب أفارقة كثيرين، من وول سوينكا إلى أتشيبي، إذ يرون أن الجوائز لا تقيّم الإبداع بقدر ما تؤطره في معايير غربية.
الفيلم يضعنا أمام ازدواجية أخلاقية: هل الاعتراف الذي تمنحه مؤسسة كنوبل يعتمد فقط على جودة النص، أم أن عوامل كثيرة مثل: الشبكات والتسويق والصورة العامة والسياسات الثقافية -تلعب دورًا؟ الإجابة التي يقترحها الفيلم لا تقع في قطبية بسيطة (صحيح/خاطئ) بل تكشف عن تداخلات: موافقة شخصية وتسوية بين رغبة البقاء الاجتماعي وقيمة العمل، وخيارات أخلاقية موجعة.
يُسائِل الفيلم، وإن كان حالة فردية، الآليات التي تجعل صاحب "الاسم" أكثر استحقاقًا من غيره، حتى لو كان الأخير صاحب الأصل الإبداعي الأهم. لقد جاءت رسالة فيلم الزوجة على لسان جو كاسلمان في شبابه، عندما كان أستاذا للأدب في جامعة سميث، حيث ألقى خطبة لطلابه-كانت جوان من ضمنهم- وكان لهذه الخطبة تأثيرها على جوان وعلى سير القصة، قال: "الكاتب الحقيقي لا يكتب من أجل نشر أعماله، بل يكتب لأن لديه أمرا عاجلا وشخصيا يود الإفصاح عنه، إن حاجة الكاتب إلى الكتابة توازي حاجته إلى التنفس، ويستمر في ذلك رغم الشعور بالوحدة، ورغم الفقر، ورغم أكوام رسائل الرفض من دور النشر، إن الكاتب يكتب لأنه في حال لم يفعل ذلك فإن روحه ستتضور جوعاً".
إن الإبداع في حد ذاته جائزة، وهي أن تُفصح عما بداخلك، لا يهم إن كان لنفسك، لمئة شخص، أو للعالم أجمع، لقد أوصلت جوان صوتها إلى العالم، وهذا ما يهمها في النهاية، رغم أن العالم ينظر إليها كزوجة مخلصة لرجل مبدع. إن الأديب الحقيقي يهمه أن يصل صوته، حتى لو لم يعرف أحد مصدر هذا الصوت، هنالك العشرات كتبوا بأسماء مستعارة، ليعيشوا بعيدا عن إزعاج الشهرة، وسواء فاز أحدهم أم لم يفز، لن يهتم لذلك، العالم به المئات ممن يستحقون الفوز، ولأن الجائزة تُمنح لشخص واحد في كل عام، سيموت المئات دون أن يحين دورهم، وإذا أردنا استعراض قائمة «العباقرة الذين لم يحصلوا على نوبل» قد يطول بنا الوقت: تشيخوف، تولستوي، مارسيل بروست، بورخيس، كافكا، جيمس جويس، هنري جيمس، فرجينيا وولف، نابوكوف - وأسماء مثل تشينوا أتشيبي تذكّرنا بأن نوبل ليست مقياسًا قاطعًا للعبقرية.
الجوائز مؤشرات، لكنها ليست محكمًا على الخلود الأدبي، لأن الأثر الحقيقي للكتّاب يقاس بما تتركه نصوصهم من مساحات تفكير جديدة، ووعي مُجدّد في القارئ والمجتمع. وهنا تكمن خيبة الأمل وأيضا الرجاء: أن يظلّ الأدب حيًا، سواء أُقِرّ به رسميًا أم لم يُقِرّ، وعلينا أن نستكشف أدبنا ونقرأ لبعضنا باختيارنا نحن لا بتأثير الجوائز، على نقادنا أن يُبرزوا عظمة آدابنا للأجيال حتى لا تندثر أعمال خالدة بسبب الاهمال، فالاختبار الحقيقي للعبقرية هو محبة الناس للعمل الإبداعي وصموده في وجه الزمان، وليس الجوائز.