الاثنين 23 يونيو 2025
في ظل الأحداث الدامية التي شهدتها العاصمة السودانية الخرطوم، نتيجة الصراع العنيف بين الجيش السوداني ومليشيات الدعم السريع، زخرت منصات التواصل الاجتماعي في أفريقيا بمنشورات ونقاشات تعكس مدى اهتمام النشطاء الأفارقة بمصير جامعة أفريقيا العالمية، الواقعة في جنوب الخرطوم. كانت هذه الجامعة التي تمثل رمزًا معرفيًا وثقافيًا فريدًا على مستوى القارة، قد تحولت أثناء الحرب، إلى ساحة عسكرية بعد أن بسطت مليشيا الدعم السريع سيطرتها عليها، وجعلتها قاعدة لعملياتها القتالية، ما أثار صدمةً كبيرة في الأوساط الأكاديمية والفكرية.
يكشف هذا التفاعل اللافت عن عمق العلاقة التاريخية والوجدانية التي تربط الشعوب الأفريقية بهذه المؤسسة التعليمية العريقة، التي لعبت لسنوات طويلة دور الجسر الثقافي والمعرفي بين السودان ودول الجوار الأفريقي، من خلال برامجها التعليمية والثقافية المتميزة. فكيف تمكنت هذه الجامعة من أن ترسّخ مكانتها في قلوب الأفارقة، وأن تساهم في بناء دبلوماسية شعبية فعّالة، تعزز حضور السودان في محيطه الأفريقي؟
يكمن الجواب عن هذا التساؤل في الرؤية التأسيسية للجامعة التي تجسّدت في توظيف التعليم كأداة دبلوماسية فاعلة لتعزيز حضور السودان في القارة الأفريقية، وذلك عبر المنهجية الأكاديمية والثقافية المتميزة التي انتهجتها المؤسسة منذ إنشائها. فقد مثّلت استراتيجية الجامعة التعليمية والثقافية نموذجاً رائداً للتواصل الحضاري، حيث حوّلت المعرفة إلى جسر للتقارب بين السودان وشعوب القارة.
تأسست الجامعة عام 1966 انطلاقًا من رؤية استراتيجية استشرفت دور السودان باعتباره محوراً ثقافياً يربط بين العالمين العربي والأفريقي، ويتمتع بموقع جغرافي غنيّ بتنوع إثني وثقافي يختصر القارة حتى أنه يُوصف بـ "أفريقيا المصغّرة"، مما أدى إلى ترسيخ فكرة توظيف التعليم كأداة دبلوماسية ناعمة، تعزز من خلالها الدولة حضورها الثقافي والديني في القارة الأفريقية.
رأى المؤسسون السودانيون في التعليم العربي الإسلامي مدخلاً فاعلاً لبناء جسور من التواصل مع الشعوب الأفريقية، خاصة في ظل معاناة القارة من اختلالات بنيوية في قطاع التعليم، وتحديداً في التعليم الإسلامي الذي اتسم آنذاك بالضعف المؤسسي واعتماده على أساليب تقليدية ومصادر شحيحة
رأى المؤسسون السودانيون في التعليم العربي الإسلامي مدخلاً فاعلاً لبناء جسور من التواصل مع الشعوب الأفريقية، خاصة في ظل معاناة القارة من اختلالات بنيوية في قطاع التعليم، وتحديداً في التعليم الإسلامي الذي اتسم آنذاك بالضعف المؤسسي، واعتماده على أساليب تقليدية ومصادر شحيحة.
بدأت الجامعة مسيرتها مركزا إسلاميا صغيرا يُعنى بتدريس اللغة العربية والعلوم الإسلامية، واستندت إلى مقاربة تعليمية تجمع بين الأصالة والحداثة. وتميزت مناهجها بمرونة تراعي الخلفيات اللغوية والثقافية للطلاب القادمين من دول القارة، ممن درسوا بلغات أجنبية مثل: الفرنسية والإنجليزية والإسبانية، أو في بيئات تعليمية تقليدية تفتقر إلى التأسيس الأكاديمي.
مطلع سبعينات القرن الماضي، اعتمدت الدولة السودانية رسمياً مشروع الجامعة كاستثمار استراتيجي يخدم مصالح البلاد في أفريقيا. وسرعان ما لقي المشروع دعماً كبيراً من عدد من الدول العربية والإسلامية، مثل: السعودية والكويت وقطر والإمارات والمغرب ومصر، التي رأت فيه نموذجاً عملياً للقيام بالواجب الديني والتاريخي تجاه مسلمي القارة. وقد تمثل هذا الدعم في التمويل المباشر والمشاركة في إدارة برامج الجامعة عبر مجلس أمناء مشترك، قبل أن يتعرض المشروع لهزة مؤقتة عقب حرب الخليج نتيجة الموقف السوداني من الأزمة، ما أدى إلى تعليق بعض أشكال الدعم. لكن السودان واجه هذه التحديات بالاعتماد على موارده الذاتية، وعادت عدة دول لاحقاً لدعم المشروع بعد مراجعة مواقفها.
اعتمدت الجامعة سياسة تعليمية منفتحة على العالم، وقدمت منحاً دراسية كاملة للطلاب من 75 دولة، كان نصيب القارة الأفريقية منها نحو 50٪ فيما توزع بقية المقاعد على دول آسيوية مثل: إندونيسيا وماليزيا، وأبناء الأقليات المسلمة في الصين وتايلاند والشيشان، إلى جانب مجتمعات مسلمة في أوروبا الشرقية، مثل: ألبانيا وكوسوفو وبلغاريا، فضلًا عن نسبة 25٪ من الطلاب السودانيين.
ولتسيير التجربة التعليمية، أنشأت الدولة "مؤسسة الوافدين" لتتولى شؤون الطلاب الأجانب، بدءاً من إجراءات الإقامة، ووصولاً إلى توفير السكن الجامعي والخدمات الأساسية.
اتسم النظام الأكاديمي في جامعة أفريقيا العالمية بالشمول والتنوع، حيث تضم 32 كلية تغطي مختلف التخصصات العلمية والإنسانية، من الطب والهندسة والصيدلة إلى العلوم الإدارية والاجتماعية. وقد حرصت الجامعة على الجمع بين التأهيل المهني والبناء الدعوي
اتسم النظام الأكاديمي في جامعة أفريقيا العالمية بالشمول والتنوع، حيث تضم 32 كلية تغطي مختلف التخصصات العلمية والإنسانية، من الطب والهندسة والصيدلة إلى العلوم الإدارية والاجتماعية. وقد حرصت الجامعة على الجمع بين التأهيل المهني والبناء الدعوي، إذ تفرض على جميع الطلاب، بمختلف تخصصاتهم، دراسة مقررات إسلامية تعزز الجانب القيمي والدعوي، وذلك ضمن منهج وسطي، يعكس الاعتدال السوداني المعروف بالتسامح والانفتاح.
اعتمدت الجامعة في سبيل ترسيخ رسالتها التعليمية والثقافية، على منظومة مراكز علمية متخصصة، من أبرزها معهد اللغة العربية الذي أُسس لتأهيل الطلاب غير الناطقين بالعربية، خاصة القادمين من دول تعتمد اللغات الفرنسية والإنجليزية في التدريس، أو من أنظمة تعليمية تقليدية تفتقر إلى التأسيس الأكاديمي. يوفر المعهد برنامجاً تأهيلياً من عامين دراسين، يدرّس خلاله الطلاب مناهج لغوية حديثة، بالتعاون مع معهد الخرطوم الدولي التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، والذي نشأ بدوره في فلك الجامعة واستفاد من كوادرها وخبراتها.
كما أنشأت الجامعة مركز البحوث والدراسات الأفريقية، ليكون منصة علمية تُعنى بتاريخ القارة وسياساتها وثقافاتها، وموئلاً للباحثين المهتمين بالشأن الأفريقي. يحتوي المركز على مكتبة فريدة، تُعد من أغنى المكتبات المتخصصة في الدراسات الأفريقية، التي أسهمت في إنتاج عشرات الدراسات التي خدمت مراكز الفكر وصانعي القرار.
من بين المراكز ذات التميز النوعي، برز مركز يوسف الخليفة لكتابة لغات الشعوب الإسلامية بالحرف العربي، والذي يُعد الأول من نوعه في العالم العربي. وقد وُلد من رحم فكرة إحياء التراث اللغوي الإسلامي الأفريقي الذي تعرّض للتهميش بعد الاستعمار الأوروبي، الذي فرض الحرف اللاتيني بديلاً للحرف العربي في كتابة لغات القارة. وساهم المركز في ترجمة القرآن الكريم إلى عشر لغات أفريقية بالحرف العربي، منها الهوسا والفولاني والسواحلية واليوروبا. كما عمل على جمع وتحقيق تراث العلماء الأفارقة المكتوب بلغاتهم الأصلية بالحرف العربي. وقد تكاملت جهود هذا المركز مع كلية الألسن في الجامعة، التي تُعنى بدراسة اللغات الأفريقية والترجمة وتأهيل الكوادر العلمية في هذا المجال الحيوي.
نجحت جامعة أفريقيا العالمية، من خلال استراتيجيتها التعليمية المتقدمة، في النهوض بالتعليم الإسلامي في القارة الأفريقية، وإحداث نقلة نوعية بعيدة المدى في بنيته ومقوماته. فقد كان التعليم الإسلامي في كثير من بلدان القارة يعاني ضعفاً بنيوياً واضحاً، سواء من حيث المناهج أو الأساليب أو الأدوات، إذ ظل لسنوات طويلة يدار بوسائل تقليدية على يد الأهالي والمحسنين، في ظل غياب الدعم الرسمي من غالبية الحكومات الأفريقية التي لم تكن تعترف به وبمخرجاته. أمام هذا الواقع، فتحت الجامعة أبوابها أمام آلاف الطلاب الأفارقة، ممن تخرجوا من المدارس الأهلية في بلدانهم، ومكّنتهم من مواصلة دراستهم الجامعية ضمن بيئة أكاديمية حديثة، تراعي خصوصيتهم الثقافية والدينية، وتؤهلهم ليكونوا كوادر فاعلة في مجتمعاتهم.
بعد الاستقلال، غرقت العديد من الدول الأفريقية في صراعات دامية ونزاعات على السلطة، ترافقت مع تفاقم مشكلات الفقر وتراجع مؤشرات التنمية، ما انعكس سلباً على قطاع التعليم وفاقم التحديات أمام الأجيال الصاعدة. وفي هذا السياق، برزت جامعة أفريقيا العالمية ملاذا تعليميا آمنا وفاعلا، اضطلعت بدور مهم في تخريج آلاف الكوادر الأفريقية المؤهلة في مختلف التخصصات، ممن عادوا إلى بلدانهم وأسهموا في حركة الإصلاح والتنمية.
تمثل جامعة أفريقيا العالمية نموذجاً فريداً لدبلوماسية التعليم التي استطاعت أن ترسّخ حضور السودان في عمق القارة الأفريقية عبر المعرفة والثقافة. فقد تحوّلت المؤسسة إلى منصة لصناعة النخب الأفريقية، وتعزيز الصداقة الشعبية مع السودان
يتجلى هذا الدور بوضوح في الصومال، التي انهار فيها النظام التعليمي بعد سقوط الدولة المركزية عام 1990، حيث فتحت الجامعة أبوابها للطلاب الصوماليين المنقطعين عن التعليم، بالتعاون مع الجمعيات الإسلامية، ووفرت لهم السكن والمعيشة والتعليم الجامعي المجاني. وتمكن الآلاف منهم من التخرج في تخصصات متنوعة، ليعودوا لاحقاً إلى وطنهم حاملين مشاعل العلم، مشاركين في جهود إعادة البناء وانتشال الدولة من براثن الفوضى.
يمثّل خريجو جامعة أفريقيا العالمية اليوم طلائع النخبة العلمية والفكرية في العديد من الدول الأفريقية، لا سيما في غرب القارة، مثل: نيجيريا والنيجر والسنغال وساحل العاج، إلى جانب دول أخرى من ضمنها الصومال وجزر القمر. وقد تبوأ كثير منهم مواقع قيادية في مجتمعاتهم، إذ يترأس بعضهم جامعات ومعاهد علمية مرموقة، بينما انخرط آخرون في الحياة السياسية كوزراء ونواب برلمانيين. ويجسّد هؤلاء الخريجون سفراء صداقة حقيقيين للسودان في بلدانهم.
ترجم التقدير الشعبي الذي حظيت به الجامعة في أفريقيا إلى إشادة رسمية، من قبل قادة أفارقة بارزين، أبرزهم الرئيس الجنوب أفريقي الأسبق "ثابو مبيكي" الذي زارها عام 2006، وأعجب بمشروعها النهضوي، إلى درجة أنه أوفد سفير بلاده في الأمم المتحدة لتمثيل جنوب أفريقيا في مجلس أمناء الجامعة.
غير أن هذا الدور الريادي لم يَسلم من تداعيات التحولات السياسية في السودان بعد ثورة ديسمبر/ كانون الأول 2019، حيث طُرحت بعض الدعوات السياسية الراديكالية لتفكيك الجامعة، ومصادرة ممتلكاتها باعتبارها، في نظر البعض، امتداداً ناعماً للنظام السابق. قوبلت هذه الدعوات برفض واسع من النخب الفكرية والدبلوماسية، التي نبهت إلى الأهمية الاستراتيجية للجامعة ودورها الحيوي في تعزيز النفوذ الثقافي السوداني في أفريقيا. ومن بين أبرز الأصوات التي دافعت عنها المفكر السوداني الدكتور عبد الله علي إبراهيم الذي كتب مقالته الشهيرة بعنوان "جامعة أفريقيا سفارة"، إضافة إلى السفير الخضر هارون، سفير السودان الأسبق لدى الولايات المتحدة، والذي تحدث بإسهاب عن تجربته داخل الجامعة حينما كان عميداً لإحدى كلياتها، وقدم شهادة صادقة عن رسالتها التعليمية والدعوية ودورها في خدمة السودان والقارة الأفريقية على حد سواء.
تمثل جامعة أفريقيا العالمية نموذجاً فريداً لدبلوماسية التعليم التي استطاعت أن ترسّخ حضور السودان في عمق القارة الأفريقية عبر المعرفة والثقافة. فقد تحوّلت المؤسسة إلى منصة لصناعة النخب الأفريقية وتعزيز الصداقة الشعبية مع السودان. واليوم، تبرز الجامعة كقوة ناعمة ذات تأثير استراتيجي في محيط مضطرب. ومن المهم دعم هذه التجربة وصونها بعيداً عن التجاذبات السياسية لضمان استمرار رسالتها.