الاثنين 28 أبريل 2025
في خضم الجدل المستمر حول علاقة الشريعة الإسلامية بالحداثة السياسية والقانونية، يبرز التساؤل حول ما إذا كانت الإشكاليات التي تواجهها الدول ذات الأغلبية المسلمة اليوم نتيجة لعوامل داخلية متأصلة في الشريعة ذاتها، أم أنها امتداد لإرث استعماري فرض أنماطًا قانونية لا تعكس الواقع الاجتماعي والثقافي لهذه المجتمعات. فمنذ استقلالها، وجدت هذه الدول نفسها أمام مفترق طرق: هل تتبنى نظامًا قانونيًا مستمدًا من القيم الإسلامية أم تستمر في العمل وفق القوانين الاستعمارية التي ورثتها؟ هذا الاختيار لم يكن مجرد قرار إداري، بل كان محكومًا بصراعات سياسية داخلية وضغوط خارجية، مما أدى إلى تغييب الشريعة بوصفها مفهوما قانونيا شاملا، وحصرها في نطاق الأحوال الشخصية؛ فالدول حديثة العهد بالاستقلال، مثل: السودان ونيجيريا وباكستان والصومال ودول أخرى، حصرت تطبيق الشريعة على النزاعات الزوجية والميراث بين العوائل المسلمة، فقط كما فعل قادة الاستعمار. واستمرت في تطبيق ما بقي من نظامها القانوني على أسس القانون الأوروبي.
مع مرور العقود، أسهم هذا الإقصاء في خلق فجوة بين النظم الحاكمة والمجتمعات، ما أدى إلى بروز تيارات متشددة تقترح الشريعة بديلا للنظم القائمة، وتدعو إلى إعادة تعريف العلاقة بين الدين والدولة بطرق أكثر جذرية. فهل يمكن القول إن الإقصاء السياسي والقانوني للشريعة كان سببًا في صعود الحركات المتطرفة؟ أم أن المشكلة تكمن في طريقة فهم وتطبيق الشريعة نفسها؟
إن الأطر القانونية في الصومال وصوماليلاند على سبيل المثال، تأثرت بشكل كبير بالإرث الاستعماري، لكن دون أن تلغي تمامًا القوانين العرفية المحلية، التي استمرت في لعب دور في تنظيم العلاقات الاجتماعية وحل النزاعات. هذه الأطر القانونية المحلية تتجسد أساسًا في نظام "الحير"(Xeer)، وهو قانون عرفي عشائري كان سائداً قبل الاستعمار، واستمر حتى بعده، حيث يعتمد على الأعراف والتقاليد القبلية لحل النزاعات وضبط العلاقات بين العشائر.
الشريعة، كما يعرضها مسعود، ليست مرادفًا للجمود، بل هي أداة مرنة قادرة على التكيف مع التحولات السياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي
على الرغم من أن الإسلام يشكل جزءًا أساسيًا من هوية المجتمع الصومالي، فإن النظام القانوني الذي تشكّل بعد الاستقلال بقي إلى حد كبير متأثرًا بالقوانين الاستعمارية البريطانية والإيطالية، مع تركيز تطبيق الشريعة الإسلامية على مسائل الأحوال الشخصية، مثل الزواج والميراث.
في سياق انفصال صوماليلاند، يبدو أن الهوية العشائرية لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل النظام السياسي والقانوني أكثر من الشريعة الإسلامية نفسها، حيث اعتمدت الدولة الناشئة على التقاليد المحلية في بناء مؤسساتها. ومع ذلك، فإن العلاقة بين الإسلام والقانون لم تكن غائبة تمامًا، إذ كانت الأحزاب القومية الصومالية في فترة ما بعد الاستقلال توظف الخطاب الإسلامي إلى جانب الخطاب القومي لتبرير الوحدة الصومالية. لكن مع تصاعد التوترات العشائرية والصراعات السياسية، تراجعت أهمية هذا الخطاب لصالح الاعتبارات البراغماتية المتعلقة ببناء الدولة وإدارتها، ما جعل النظام القانوني في صوماليلاند اليوم مزيجًا من القانون العشائري التقليدي، والشريعة الإسلامية في مسائل الأحوال الشخصية، والقوانين المستمدة من الإرث الاستعماري البريطاني.
في هذا السياق، يقدم مارك فتحي مسعود الأستاذ لمادة السياسة والدراسات القانونية في جامعة كاليفورنيا الأمريكية في كتابه "الشريعة إن شاء الله: الله في السياسة القانونية الصومالية" دراسة رائدة حول التفاعل بين الشريعة الإسلامية وسيادة القانون في الصومال وصوماليلاند، معتمدا في هذا العمل البحثي على تحدي السردية الغربية السائدة التي ترى أن الدول الإسلامية معادية بطبيعتها لسيادة القانون. بدلاً من ذلك، يقدم مسعود سردية مغايرة، تُظهر كيف كانت الشريعة قوة مركزية في الحياة القانونية والسياسية للصوماليين على مدار ما يقارب 150 عامًا، حيث أدت دورًا مهما في تشكيل النضال من أجل الهوية الوطنية وحقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين.
تبدأ المقدمة بقصة شخصية عن فقيه صومالي، شاب يدعى طيب، والذي على الرغم من مسيرته القانونية الواعدة، يعبر عن رغبته في أن يصبح شيخًا (زعيمًا دينيًا). تعكس طموحات طيب موضوعًا أوسع في المجتمع الصومالي: التداخل العميق بين القانون والدين، والاعتقاد بأن الشريعة أساسية لبناء مجتمع عادل ومستقر. تُعد هذه القصة نموذجا مصغرا لأطروحة الكتاب؛ والتي يمكن إيجازها في العبارة الآتية: الشريعة ليست مجرد مجموعة صارمة من القوانين الدينية، بل إطارا ديناميكيا ومرنا استخدمه الصوماليون للتعامل مع الاستعمار، والأنظمة الاستبدادية، والحرب الأهلية، وإعادة الإعمار.
يؤكد مسعود أن الشريعة كانت مصدرًا للأمل والمقاومة للصوماليين، حيث وجهتهم خلال بعض أكثر اللحظات الدراماتيكية من التغيير القانوني والسياسي في تاريخهم. من مقاومة الاستعمار إلى بناء الدولة في فترة ما بعد الاستعمار، ومن صعود اتحاد المحاكم الإسلامية إلى نشاط النساء المطالبات بالمساواة بين الجنسين، كانت الشريعة قوة مركزية في السياسة القانونية الصومالية.
الشريعة في الصومال وصوماليلاند لم تكن مجرد موروث ديني، بل كانت عنصرًا محوريًا في تشكيل النظام السياسي والاجتماعي بعد الحروب والصراعات
يشكل الكتاب إضافة مهمة وضرورية إلى مجالات الدراسات القانونية والعلوم السياسية والدراسات الإسلامية. كما أنه تذكير قوي بأن الشريعة الإسلامية ليست نظامًا جامدًا أو أحادي البُعد، بل هي إطار دينامي يمكن تكييفه لخدمة أهداف اجتماعية وسياسية متنوعة. لذا يدعو إلى إعادة النظر في الفرضيات الغربية حول الشريعة والتعرف على إمكاناتها، بوصفها مصدرا للعدالة والاستقرار والأمل في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة.
يتكون كتاب "الشريعة، إن شاء الله" من قسمين، يعكس كل منهما حقبة مميزة في تاريخ الصومال. القسم الأول، "الاستعمار وتبعاته، 1884-1991"، يتناول دور الشريعة خلال الفترة الاستعمارية والسنوات الأولى من حقبة ما بعد الاستعمار. أما القسم الثاني، "نضالات أمة مكسورة، 1991-2021"، فيركز على الفترة التي تلت انهيار الدولة الصومالية في عام 1991، مستعرضًا كيف تم استخدام الشريعة في جهود إعادة بناء النظام القانوني والسياسي في كل من الصومال وصوماليلاند.
يبدأ الكتاب بمقدمة تضع الأساس لأطروحة مسعود المركزية وهي: أن الشريعة ليست نظامًا جامدًا أو قمعيًا بطبيعته، بل إطارا مرنا وديناميكيا استخدمه مختلف الفاعلين - من إداريين استعماريين وحكومات ما بعد الاستعمار إلى ناشطين وقادة دينيين - لتحقيق أهداف سياسية واجتماعية متنوعة.
يقدم مسعود كتابه بوصفه قوة دينامية في التاريخ الصومالي، مسلطًا الضوء على دور الشريعة باعتبارها أداة للمقاومة والأمل. وذلك بإظهار كيف استخدم الصوماليون الشريعة لمعارضة الاستعمار والأنظمة الاستبدادية، مشيرًا إلى شخصيات مثل الشيخ محمد عبد الله حسن الذي حشد المجتمعات ضد الاستعمار البريطاني. كما يبرز كيف استخدمت الناشطات الشريعة للدفاع عن المساواة بين الجنسين، مما يظهر إمكاناتها بوصفها وسيلة للتغيير التقدمي.
يتحدى بذلك الصورة النمطية للشريعة باعتبارها جامدة أو قمعية، ويقدمها كمصدر للتمكين والصمود في مواجهة المحن. كما يتحدى أيضا الافتراض الغربي بأن الدين وسيادة القانون متعارضان بطبيعتهما. ويبين أن الشريعة في الصومال وصوماليلاند كانت غالبًا بمثابة أساس لسيادة القانون، حيث توفر إطارًا أخلاقيًا وإرشاديًا يوجه الناس نحو العدالة والاستقرار.
تشير هذه الرؤية إلى أن فهم سيادة القانون في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة يتطلب تقديرًا للدور الذي يلعبه الدين في تشكيل الأنظمة القانونية والسياسية. لذلك يدعو القراء إلى إعادة التفكير في العلاقة بين الدين والقانون، متجاوزًا الثنائيات المبسطة.
يبين الكتاب التلاعب بالشريعة في الحقبتين الاستعمارية وما بعد الاستعمار، موضحا كيف استخدمت القوى الاستعمارية الشريعة لإضفاء الشرعية على حكمها، مع محاولاتها في الوقت نفسه التحكم في تأثيرها وتقييده. وفي حقبة ما بعد الاستعمار، استمرت الأنظمة مثل نظام محمد سياد بري في التعامل مع الشريعة، غالبًا باستغلالها لتبرير سلطتها مع قمع التفسيرات المعارضة، ليكشف بهذا التحليل التاريخي الطرق المعقدة والمتناقضة التي تم بها استخدام الشريعة كأداة للسلطة.
يتناول مسعود صعود وسقوط اتحاد المحاكم الإسلامية في مقديشو، خلال أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، الذي جلب فترة قصيرة من الاستقرار، قبل أن يتم الإطاحة به من قبل القوات الإثيوبية. ويقارن ذلك بنجاح صوماليلاند في دمج الشريعة في نظامها القانوني والسياسي، وهو ما ساهم في استقرارها النسبي وحكمها الديمقراطي، منذ إعلان استقلالها عام 1991.
إحدى نقاط القوة في الكتاب تكمن في منهجه متعدد التخصصات، حيث يجمع بين الدراسات الفقهية والعلوم السياسية والأنثروبولوجيا والدراسات الإسلامية لتقديم تحليل غني ومتعمق لدور الشريعة في المجتمع الصومالي. ويستند إلى عمل ميداني مكثف، بما في ذلك مقابلات مع محامين وقضاة وناشطين وقادة دينيين صوماليين، بالإضافة إلى أبحاث أرشيفية في المملكة المتحدة وشرق أفريقيا. صرامة منهجية تمنح الكتاب أساسًا تجريبيًا قويًا، مما يضمن أن تكون الحجج المطروحة أصيلة وعميقة المعرفة.
يتحدى بذلك الصورة النمطية للشريعة باعتبارها جامدة أو قمعية، ويقدمها كمصدر للتمكين والصمود في مواجهة المحن. كما يتحدى أيضا الافتراض الغربي بأن الدين وسيادة القانون متعارضان بطبيعتهما. ويبين أن الشريعة في الصومال وصوماليلاند كانت غالبًا بمثابة أساس لسيادة القانون
أخيرًا، يُعتبر عمل مسعود نقدًا قويًا للسرديات الغربية التي تصور الشريعة على أنها قمعية بطبيعتها أو غير متوافقة مع سيادة القانون، من خلال توضيح كيف تم استخدام الشريعة لتعزيز العدالة والمساواة والاستقرار في الصومال وصوماليلاند، ويتحدى القراء لإعادة التفكير في افتراضاتهم حول الإسلام والشريعة الإسلامية. يمثل الكتاب دعوة للاعتراف بإمكانات الدين في المساهمة في سيادة القانون، وللتعامل مع دراسة المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة بقدر أكبر من الفهم والتعاطف.
على الرغم من نقاط القوة العديدة في كتاب "الشريعة، إن شاء الله"، فإنه لا يخلو من نقاط الضعف. واحدة من تلك التحديات البارزة هي تعقيد النص وصعوبة الوصول إليه. صحيح أن النهج متعدد التخصصات يُثري التحليل، إلا أنه يجعل النص كثيفًا، وأحيانًا صعب المتابعة، خاصة بالنسبة للقراء الذين ليس لديهم خلفية عن التاريخ القانوني والسياسي والديني للصومال. كما أن استخدام مسعود للمصطلحات العربية والصومالية، على الرغم من ضرورته للدقة، قد يُنفر بعض القراء، مما يخلق عوائق أمام الفهم لأولئك الذين ليس لديهم معرفة مسبقة بالمنطقة أو لغاتها.
قيد آخر يتمثل في تركيز الكتاب على الشخصيات النخبوية، فمسعود يركز بشكل أساسي على أدوار الإداريين الاستعماريين، وحكومات ما بعد الاستعمار، والقادة الدينيين، والناشطين في تشكيل المشهد القانوني والسياسي للصومال وصوماليلاند. بينما توفر هذه المقاربة رؤى قيمة حول كيفية تفسير الشريعة واستخدامها من قبل أصحاب السلطة، إلا أنها تترك مجالًا أقل لأصوات وتجارب الصوماليين العاديين. كما تفتقر الكتابة إلى استعراض وجهات نظر المواطنين العاديين الذين قد تكون لديهم تفسيرات مختلفة للشريعة ودورها في حياتهم.
مع ذلك، فإن هذه النقاط الضعف لا تقلل بشكل كبير من مساهمات الكتاب العامة، فبالرغم من أن التعقيد قد يحد من وصوله إلى جمهور أوسع، إلا أنه يعكس عمق أبحاث وتحليلات الرجل. وبالمثل، فإن التركيز على الشخصيات النخبوية يوفر عدسة ضرورية لفهم الديناميات السياسية والقانونية للشريعة، حتى لو ترك المجال للأعمال المستقبلية لاستكشاف وجهات نظر الصوماليين العاديين.
أخيرا، يمثل كتاب "الشريعة، إن شاء الله" لمارك فتحي مسعود مساهمة بارزة في النقاش حول دور الشريعة الإسلامية في السياقات السياسية والقانونية المعاصرة، من خلال تحليله العميق والمتعدد التخصصات، يكشف مسعود عن دينامية الشريعة في الصومال وصوماليلاند، متجاوزًا الصور النمطية التي تحصرها في القمع والجمود.
يسلط الكتاب الضوء على إمكانات الشريعة في تعزيز سيادة القانون والعدالة في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة
إن من أبرز نقاط قوة الكتاب استخدامه لدراسات حالة مفصلة مكتوبة بأسلوب جيد، تعتمد على شهادات مباشرة لرجال القانون وشيوخ طامحين في السياق الصومالي، وذلك لتقديم فهم أعمق للتدخلات الدولية باعتبارها مشاريع إمبريالية تُنفذ باسم التنمية وسيادة القانون. لكن في بعض الأحيان، يبدو أن التركيز المفرط على مقاومة الصوماليين للتدخلات الدولية، بالإضافة إلى بعض الصياغات الأسلوبية، يُغفل الطبيعة المجردة للشريعة. ففي بعض المواضيع، يتم تصوير الشريعة وكأنها شيء يمكن تدميره أو استعادته، ويُستخدم في ذلك تعبيرات رومانسية مثل: "تدمير الشريعة"، و"إدخال الشريعة في المعركة"، و"تسليح مشيئة الله"، وغيرها. ومع ذلك، فإن التحليل الشامل لمجموعة واسعة من الفاعلين الذين يوظفون تفسيرات إسلامية معينة لتبرير مشروع سياسي معين – من مسؤولين استعماريين إلى سياسيين وزعماء دينيين وناشطين – يلفت الانتباه إلى طبيعة التفسيرات الإسلامية التي تم دمجها أو إقصاؤها من الإدارات الحكومية في مراحل مختلفة، والدور الحاسم الذي تلعبه التدخلات الدولية في تنظيم عمليات الإقصاء والدمج هذه.
لا شك أن الكتاب يقدم إسهاما قيما لفهم العلاقة المتغيرة بين القانون والدين، وترتيبات المؤسسات السياسية والقانونية في الصومال، والتعددية القانونية في الدول ذات الأغلبية المسلمة، ودور التدخلات الدولية في مشاريع القانون والتنمية.
في الختام، يبدو أن الجمهور الأساسي المستهدف بالكتاب هو ذلك الذي يسعى إلى ترسيخ سيادة القانون عبر مشاريع بناء الدولة والتنمية، خصوصًا في الجنوب العالمي، وبالأخص في أفريقيا. فإذا كان يتناول كيفية توظيف القانون والدين بشكل استراتيجي لخدمة أجندات سياسية متباينة، بل ومتعارضة أحيانًا – وهو ما يسميه مسعود السياسات القانونية والدينية – فإن الكتاب ذاته يُعد نموذجًا دقيقًا لهذه السياسات.
إن كتاب " الشريعة، إن شاء الله " ليس مجرد تحليل نظري، بل هو تدخل فكري يسعى إلى إعادة صياغة المفاهيم الليبرالية الديمقراطية حول سيادة القانون، بحيث لا تكون فقط متوافقة مع سيادة الدين، بل تكاد تصبح غير قابلة للتمييز عنها. أعيد تصوير الإسلام فقط، دون غيره من الأديان؛ لكونه المعني أكثر من غيره بالنسبة المخيال الأنجلوساكسوني-الأوروبي بوصفه التهديد الأكبر للدولة الليبرالية الديمقراطية المتحضرة القائمة على سيادة القانون.