الأحد 9 نوفمبر 2025
وسط استمرار دمار العمليات العسكرية لحرب أبريل/نيسان، برزت في الآونة الأخيرة، ملامح كارثة إنسانية متعاظمة، في إقليم دارفور غربي السودان. فقد صار الجوع أكثر ضراوة من الرصاص، وأشد فتكًا من القصف في لحظةٍ تتكشّف فيها هشاشة الدولة، وانهيار النظام الاجتماعي، وتوحش البعد النيوليبرالي للأزمة، وعنف اقتصاديات الحرب، وضعف الاستجابة الدولية في ظل أزمة تجاوزت حدود التصنيف التقليدي، وباتت تجسّد واقعاً للمجاعة المركّبة والممنهجة في أدواتها وآثارها.
تتجسد الأزمة في معاناةٍ يومية تمتد من الجوع إلى الأوبئة، ومن النزوح إلى النهب والصراع المستمر من أجل البقاء؛ المدن محاصرة والإغاثة ممنوعة، والموت يُدار بإجراءات منتظمة. بات الأطفال في المخيمات يُكدَّسون على بطون خاوية، تتناقص أوزانهم كما تتناقص فرص نجاتهم، فيما الأمهات يراقبن بعيون جامدة مشهد الفناء البطيء الذي صار الطعام فيه سلاحاً، والدواء صنوان الموت وسط تواتر كثيف لبيانات تباكٍ لا تُطعم جائعاً ولا تحمي حياة.
أكدت مصادر محلية ميدانية منها غرفة طوارئ مخيم أبوشوك ومنسقية النازحين واللاجئين في إقليم دارفور، عن تسجيل 4 حالات وفاة على الأقل أسبوعيًا في شمال دارفور بسبب الجوع وسوء التغذية الحادّ، مشيرةً إلى أن أكثر من 8 ملايين شخص على شفا الجوع الحادّ، فيما يعيش قرابة نصف سكان دارفور في عزلة كاملة عن سلاسل الإمداد الغذائي والصحي. وصرخت المنسقية معلنةً أن "أي تأخير إضافي في الاستجابة يعني إزهاق المزيد من الأرواح، وقد تتحول المجاعة إلى إبادة جماعية صامتة".
وقد صفت في بيان لها، بتاريخ 29 يوليو/تموز الماضي، الوضع في الفاشر وعموم دارفور قد "بلغ مرحلة الانهيار الكامل"، فالمدنيون في المخيمات يواجهون خطر المجاعة والأوبئة في ظل غياب أي شكل من أشكال الدعم الإنساني الفعال. وتؤكد، أن الأمباز هو الشيء الوحيد الذي "أصبح وجبةً رئيسة لكثير من الأسر، فيما لم يجد البعض حتى هذا القدر الضئيل من الغذاء. كثيرون لا ينتظرون المساعدات، بل ينتظرون الموت".
بات الأطفال في المخيمات يُكدَّسون على بطون خاوية، تتناقص أوزانهم كما تتناقص فرص نجاتهم، فيما الأمهات يراقبن بعيون جامدة مشهد الفناء البطيء الذي صار الطعام فيه سلاحاً
أطلق والي شمال دارفور، نداء استغاثة صارخة إلى مجلس السيادة وحاكم الإقليم مني أركو مناوي، مؤكداً أن الوضع الإنساني في الولاية، ولاسيما مدينة الفاشر، لا يُطاق. وأن فك الحصار ضرورة قصوى اليوم قبل الغد، فما يتكرر عن تناول الأهالي للأمباز؛ وهي بقايا السمسم والفول السوداني تُستخدم علفا للحيوانات، حقيقة واقعة، وحتى هذا النوع من المخلفات لم يعد موجوداً. وقد باتت الأسواق شبه خالية من المواد الغذائية، وأكد الوالي أن ربع جوال ذرة الدخن تجاوز 500 ألف جنيه سوداني (200 دولار)، والأدوية منعدمة، في ظل خطر حقيقي لمجاعة جماعية بالمنطقة.
تشهد مخيمات النزوح في ولايتي شمال وجنوب دارفور، منذ أواخر يوليو/تموز، تفشياً مروعاً لوباء الكوليرا وارتفاعاً مُقلقاً في عدد حالات الإصابة اليومية. فقد أعلنت منسقية النازحين واللاجئين في مطلع الشهر الجاري عن تجاوز إجمالي الحالات اليومية منذ تفشي المرض 3547 حالة، بما في ذلك 149 حالة وفاة. وأشارت المنسقية أن العدد التراكمي اليومي للحالات في مخيمات طويله وحدها الواقعة بشمال دارفور شمالاً، بلغ 2796 حالة، بما في ذلك 52 حالة وفاة وسط وجود 242 حالة في مركز العزل الصحي. فيما بلغ إجمالي الحالات اليومية في مخيمي كلمة وعطاش أكثر من 503 حالة، بما في ذلك 85 حالة وفاة. وسُجلت حالات إضافية في مخيمي دريج والسلام بالولاية ذاتها، والتي ما تزال الاستجابة للحالات فيهما ضعيفة للغاية.
منذ أبريل/نيسان 2025، اضطر ما يقارب 400 ألف شخص إلى النزوح قسراً من مخيم زمزم إلى منطقة طويلة، مشياً على الأقدام لمسافة 70 كلم، دون مأوى أو معونة غذائية أو مياه صالحة للشرب، ومئات الآلاف منهم وصولوا إلى مخيمات اللجوء الحدودية مع تشاد. بهذا لا يُعد النزوح واللجوء مجرد حركة سكانية، بل تهجيراً قسرياً ممنهجاً يعكس ما يمكن تسميته بالجغرافيا السياسية للاقتلاع. وسط هذا ما يناهز 250 ألف طفل محرومون من التعليم، بينما بلغ معدل سوء التغذية الحادّ أكثر من 38٪ في مختلف أرجاء الولاية، وبما بلغت نسبة الحالات الخطرة 11٪.
تظهر التجربة السودانية، مرة أخرى، حدود النظام الدولي وازدواجيته، خاصة حين يكون الضحايا شعوباً ضمن الجنوب العالمي خارج حسابات النفوذ أو المصالح المباشرة في مركزية الشمال العالمي
كشفت اليونيسف عن زيادة بنسبة 46٪ في عدد الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم في إقليم دارفور بأسره، خلال الفترة ما بين عامين 2024 و2025. وفي شمال دارفور وحدها، أدخل أكثر من 40 ألف طفل للعلاج من سوء التغذية الحادّ الوخيم هذا العام، وهو ضعف العدد مقارنة بالفترة نفسها من السنة الماضية.
يعتمد أكثر من 3 ملايين شخص على مصادر مياه ملوثة، ويفتقر أكثر من 7 ملايين إلى خدمات الصرف الصحي الأساسية، فيما يواجه 3 ملايين طفل خطر الإصابة بالأمراض. يجسّد هذا الاستهداف المتعمد لحياة المدنيين والإفقار البنيوي للأهالي، نظرية المفكر الهندي أمارتيا سن حول "الحرمان من القدرات"، حيث يُجرَد السُكان من الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، مما جعل الغذاء والدواء أداة للابتزاز السياسي والضغط العسكري.
حيال الأزمة الماثلة، أطلقت شبكات حقوقية ومنظمات تعمل في الحقل الإنساني محلياً ودولياً، سلسلة نداءات عاجلة، تحذّر فيها من أن الوضع بلغ مرحلة اللاعودة. وتشترك كل الصيحات، من بينها بيان شبكة مراقبة حقوق الإنسان – السوان، على أن المخيمات التي تأوي مئات الآلاف من النازحين تحوّلت إلى بُؤر للموت البطيء، إذ لم تعد تحتوي سوى على الخيام المهترئة، وأجساد الهاربين من أهوال الحرب، وهم يتضورون جوعًا. لم يعد الحديث عن أزمة إنسانية كافيًا؛ نحن أمام مجزرة بطيئة تُنفذ بصمت وتحت أعين العالم، حيث يُستخدم التجويع كأداة قمع وتطهير جماعي للمدنيين. وتطالب كل النداءات، مثل نداء مجلس غرف طوارئ شمال دارفور، بتدخل فوري وغير مشروط لفتح ممرات إنسانية آمنة، بعيدًا عن الحسابات السياسية والمساومات العسكرية.
يرفض الطرفان المتحاربان أي تسوية، فالجيش يشترط استسلام الدعم السريع مدخلا للحوار، في حين تلوح قوات الدعم السريع باستعدادها للتفاوض، لكنها تواصل التصعيد العسكري. هذا الجمود يُفسّر بمنطق "الاختيار العقلاني"، ما يعني أن كل طرف يرى أن كلفة استمرار الحرب أقل من كلفة التنازل، في ظل غياب ضغط حقيقي أو محفزات واضحة لإنهاء الصراع.
منذ أبريل/نيسان 2024 على الأقل، أصبحت سياسة التجويع الممنهج أداةً مركزية في النزاع العسكري والسياسي في شمال دارفور. تفرض قوات الدعم السريع حصاراً خانقاً يعزل الولاية ومحيطها عن أرجائها، ويمنع دخول الغذاء والدواء، ما أدى إلى اختفاء نحو 88٪ من السلع الأساسية من الأسواق المحلية مع استمرار ارتفاع بقية النسبة بشكل يفوق قدرة السكان، في ظل الانهيار شبه الكامل لمصادر الإنتاج المحلي.
تستغل الأطراف المتحاربة الجوع أداة للهيمنة الإثنية والسياسية والعسكرية. فهي تُجَوَّع مناطق بعينها لا لشيء إلا لأنها تُحسب على "العدو"، أو لأنها تمثل حواضن اجتماعية غير موالية، وأداةً مقصودة لإعادة تشكيل الخريطة السكانية والسيطرة على الأرض. فتحوّل الجوع إلى تقنية من تقنيات الحرب، تُوظّف ضد المدنيين في سياق الإبادة البطيئة. فحين يُتركون بلا غذاء أو دواء، ولا يُسمح لهم بالخروج إلى مناطق أكثر أمناً، تتحوّل الجوع إلى حصار مميت يطعن في صميم الكرامة الإنسانية. ويزداد الأمر فظاعةً حين تُستخدم المساعدات الإنسانية أداة تفاوض سياسي أو ورقة ضغط، إذ تُمنح لمناطق الولاء وتُمنع عن المناطق المعادية.
قبل اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023، كانت بنية الدولة السودانية تعاني أصلاً من اختلالات حادة في توزيع الموارد والفرص وتقاسم السلطة. ومع تفجر النزاع، تفاقم هذا العنف البنيوي ليأخذ طابعًا أكثر قسوة وشمولاً، حيث باتت المليشيات تسيطر على طرق الإمداد والأسواق والمخازن، وتتحكم في حركة السلع والغذاء. فقوافل الإغاثة تُمنع من المرور أو تُنهب ويُقتل طواقمها، وتُفرض الإتاوات على كل ما يتحرك: غذاءً كان أو بشراً. في هذه البيئة، أصبحت السيادة سطواً، وتُختزل السلطة في القدرة على خلق الجوع واستثماره.
في ظل سيطرة الفصائل المسلحة، خصوصا الدعم السريع في إقليم دارفور، على مصادر وسُبل العيش والموارد الغذائية، تنمو أنظمة بديلة للسُلطة، مما يُهدد فرص إعادة بناء الدولة أو خلق سلام مستدام. كما تظهر في "حكومة تأسيس" التي أعلن عنها في مدنية نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، وباتت تتغذى على استمرار الاقتصاد الأسود، وتجويع المدنيين كأداة لاستعطاف الولاء، مما يؤدي إلى إعادة هندسة الاقتصاد السياسي في البلاد، ليقوم على معادلة الخوف والجوع، بدلاً من العدالة والتنمية، ما يهدد مستقبل البلاد برمّته.
في ظل الانهيار شبه التام لمصادر الإنتاج وسبل العيش، أصبحت الأزمة تُدار بمنطق اقتصاد الحرب، حيث تزدهر الأسواق السوداء، وتنتعش شبكات التهريب، وتُعاد هندسة حركة الموارد بعيدًا عن أي اعتبارات إنسانية أو مصلحة عامة، لتُوضع بالكامل تحت سطوة عقلية الجشع والربح السريع، مهما كانت التكلفة البشرية. لم تعد المعاناة مأساة تستدعي الرحمة، بل صارت سلعة تُتاجر بها القوى المسيطرة، يُعاد إنتاج الجوع والتشريد بوصفهما فرصًا استثمارية في بورصة الحرب، يستفيد منها من يملك السلاح أو القدرة على النهب والاستحواذ.
لم يعد الحديث عن أزمة إنسانية كافيًا؛ نحن أمام مجزرة بطيئة تُنفذ بصمت وتحت أعين العالم، حيث يُستخدم التجويع كأداة قمع وتطهير جماعي للمدنيين
الغذاء لم يعُد حقًا إنسانيًا، بل سلعة تُعرض في مزاد لمن يدفع أكثر، أو لمن يحمل السلاح. أما من لا يملك هذا أو ذاك، فيُترَك لتسوّل أو الموت البطيء تحت وطأة الجوع والحرمان. لقد دخل الاقتصاد السوداني مرحلة ما يمكن تسميته بالرأسمالية المدمّرة، حيث يتهاوى الجنيه السوداني أمام العملات الأجنبية بشكل متكرر، وتفوق أسعار السلع الأساسية قدرة الغالبية الساحقة من السكان. في الوقت ذاته، تحتكر المليشيات المسلحة تجارة الذهب والمعابر غير الرسمية، ما يُغذّي آلة الحرب ويوفّر لها وقوداً مادياً دائماً، ويجعل من استمرار النزاع ضرورة اقتصادية للبعض.
في الأثناء، تُمارس الأطراف المتصارعة دور الوكيل الاقتصادي للصراع، حيث تُديره ليس فقط بالسلاح، بل بمنظومات مالية موازية تُراكم الثروة من الألم الإنساني. إن النهب الممنهج للموارد، وتسليع المساعدات الإنسانية، والتحكم في سلاسل الإمداد، كلها آليات تُستخدم لضمان إعادة توزيع الاقتصاد لصالح أمراء الحرب وشركائهم، في تواطؤ غير معلن مع شبكات خارجية.
إن هذه الأزمة لحظةً تُختبر فيها أخلاقيات العالم وطبيعة سياساته: هل يُسمح بتحويل المجاعة إلى سوق؟ وهل تُترك الشعوب تموت جوعًا بينما تُبنى الإمبراطوريات من رمادها؟ في ظل هذا الواقع، يصبح الصراع على الغذاء والدواء شكلاً جديداً من أشكال الاستعمار الداخلي، يمارسه أبناء البلد ضد بعضهم، في سباق دموي على الربح والسلطة والنفوذ.
منذ أن علّقت غالبية وكالات الإغاثة الدولية عملياتها في السودان، وعلى رأسها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، تُرك ملايين المدنيين في مخيمات النزوح واللجوء، في مواجهة الموت البطيء. لم يكن تعليق المساعدات قراراً تقنياً بقدر ما كان فعلاً سياسياً، يعكس منطقاً انتقائياً في التعامل مع الكوارث الإنسانية، حيث تُوزَن الأرواح بمقاييس المصالح الجيوسياسية، لا بمبادئ العدالة أو الكرامة الإنسانية.
خطة الاستجابة الإنسانية الأممية في السودان لعام 2025، والبالغة 4.2 مليار دولار، لم تُموَّل سوى بنسبة 23٪ فقط من المبلغ المطلوب. هذه الفجوة تعكس تناقضاً بنيوياً في النظام الإنساني العالمي، حيث تبقى الالتزامات الأخلاقية دون آليات إلزامية للتنفيذ. فرغم ما يُرفع من شعارات حقوق الإنسان والحماية الإنسانية، يكتفي المجتمع الدولي بإصدار بيانات "القلق العميق"، بينما يُزهق الآلاف جوعًا وعطشًا وسط صمتٍ قاتل. هكذا تظهر التجربة السودانية، مرة أخرى، حدود النظام الدولي وازدواجيته، خاصة حين يكون الضحايا شعوباً ضمن الجنوب العالمي خارج حسابات النفوذ أو المصالح المباشرة في مركزية الشمال العالمي.
لم يعد الحديث عن أزمة إنسانية كافيًا؛ نحن أمام مجزرة بطيئة تُنفذ بصمت وتحت أعين العالم، حيث يُستخدم التجويع كأداة قمع وتطهير جماعي للمدنيين
لا يمكن فهم سلوك النظام العالمي أثناء الأزمات من خلال التفاعلات المؤسسية أو الاتفاقات القانونية فحسب، بل من عدسة بنية الهيمنة التي تُعيد إنتاج اللامساواة والعدالة بين الشمال والجنوب العالميين. خلال هذه الحرب تحوّل السودان إلى ساحة لتقاطعات النفوذ الإقليمي والدولي، وبات لا يشكل أولوية حقيقية في أجندات القوى الكبرى. فبين انشغال واشنطن بمنافسة الصين وروسيا والحرب الأخيرة وأوكرانيا، وتقاطع المصالح الخليجية والتركية والمصرية وأجندة بعض دول الافريقية ولا سيما في شرقها وغربها الاقليميين، يغيب الإنسان السُوداني عن خريطة الاستحقاقات الدولية والإقليمية.
ورغم انعقاد عدة منصات دولية وإقليمية مثل: منبر جدة ومبادرة الإيغاد ومؤتمر القاهرة واجتماعات سويسرا، فإنها لم تترجم إلى أثر ميداني ملموس. فالانقسامات داخل مجلس الأمن الأممي والأفريقي، وانعدام الإرادة السياسية، أدّيا إلى تحييد أدوات الضغط الفاعلة، بينما يتفاقم النزوح، وتنهار القطاعات الحيوية، ويُترك المدنيون ليدفعوا ثمن حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. وهذا الضعف الهائل في الاستجابة لا يعكس سوى اختلالاً عميقاً في منظومة التعامل على مستوى المجتمع الدولي مع الأزمات، ويعيد طرح الأسئلة الملحاحة حول من يُحسب إنساناً مستحقاً للنجاة، ومن يُترك ليموت بصمت؟