الثلاثاء 11 نوفمبر 2025
حي "إيسلي" أو كما يُعرف محليًا بـ "Isilii" بالإنجليزية(Eastleigh) ، هو أحد أبرز الأحياء الحضرية في مدينة نيروبي، يقع شرق وسط المدينة، ضمن مقاطعة نيروبي، تأسس عام 1921، على مساحة اجمالية تقدر بحوالي 6.9 كلم مربع، وتعداد سكاني يصل إلى 200 ألف نسمة وفق تقديرات لعام 2025، وكان في الأصل مملوكًا للآسيويين والكينيين الأفارقة العاملين آنذاك، وقد حاولت الاستعمار البريطاني في البداية فصل السكان داخله على أساس العرق، حيث خصص في الأصل للأقلية الآسيوية والأفراد من النخبة الأفريقية.
بعد الاستقلال عام 1963، استوطنها عدد كبير من الصوماليين الذين هاجروا من سهول نغارا الكينية، بالإضافة المواطنين من مقاطعة شمال شرق كينيا، وهي المقاطعة الكينية التي يتركز فيها الصوماليون تاريخياً، وبعد انهيار الحكومة المركزية، واندلاع الحرب الأهلية عام 1991، حيث كانت كينيا وجهة رئيسية للاجئين الصوماليين الفارين من الصراع وتدهور الأوضاع الإنسانية في الصومال، مما جعلها تستضيف أكبر تجمع للاجئين الصوماليين في المنطقة. تشير تقديرات غير رسمية أن عدد اللاجئين يتراوح بين 50 ألفًا و100 ألف، بما في ذلك المغتربون الصوماليون العائدون من المهجر، واختاروا الاستقرار في كينيا، وتدريجيا تحول الحي ذو الأغلبية الصومالية إلى ما يعرف بـ"مقديشو الصغيرة"، باستثناء عدد قليل من السكان الأصليين.
قبل شهر، عدتُ إلى حي إيسلي في العاصمة الكينية نيروبي بعد غياب أكثر من عشرين فوجدت ملامحها قد تغيّرت كثيرًا، بينما كنتُ أواصل طريقي إلى مقر إقامتي، لاحظتُ حركة التوسع العمراني وإصلاح البنية التحتية اللذين غيرا وجه الحي، وباتت نفسي على قناعة أن الحي يشهد طفرة غير مسبوقة، وتحولًا أمنيًا وعمرانيًا نحو بيئة أكثر استقرارًا وحداثة، لم أستطع تمييز الشوارع التي كنت أعرفها، فقد تغيرت معالمها تمامً وحلَّت محلّ المنازل التقليدية أبراجٌ جديدة ومراكز تجارية عصرية.
لم تعد الأزقة كما كانت، فالمبانٍ الشاهقة غيّرت معالم الحي بالكامل، فالطابع القديم انمحى، واستبدلته بأفق جديد من الحداثة، تنبض الشوارع بالحركة، وتستمر الحياة والازدحامات المرورية دون توقف حتى ساعات الليل المتأخرة، في مشهد يعكس الحيوية الاقتصادية ومستوى الاستقرار الحي الصاعد.
تسببت المغادرة الجماعية لأفراد الجالية الصومالية في أضرار كبيرة على قطاع العقارات في إيسلي، حيث شهد السوق تراجعًا ملحوظًا في الطلب على الوحدات السكنية والتجارية، وواجه أصحاب العقارات صعوبات في إيجاد مستأجرين
يُعد حي إيِسلي شاهدًا على معاناة الصوماليين في كينيا حيث تعرض السكان المحليون في الحي لعمليات هدم واعتقال متكررة من قبل قوات الشرطة، مما شل الحياة فيه، وأصاب سكانه بالذعر والاستياء في صفوف السكان المحليين خلال الفترة من 2010 حتى 2013، فكلما وقع حدث أمني في نيروبي، حتى وإن كان مرتكبوه كينيين، صار سكان الحي هدفًا للانتقام والعقاب الجماعي. وقد بلغ الأمر حد تهديد وزير الدفاع يوسف حاجي بالاستقالة آنذاك، إذا لم توقف السلطات الأمنية الحملات التي تقوم بها ضد هذا الحي الذي تسكنه غالبية صومالية.
كانت ردّة الفعل على الانتهاكات التي طالت الصوماليين في كينيا سحبَ مئات رجال الأعمال الصوماليين أموالهم من البنوك الكينية، والتي تراوح ما بين 10 و40 مليار شلن كيني، بهدف إعادة استثمارها في الصومال، ومقاطعة شمال شرق كينيا بدلا من نيروبي، وعاد مئات من أفراد الجالية الصومالية إلى بلادهم بسبب ردّة الفعل على الانتهاكات التي تعرضوا لها في كينيا.
تسببت المغادرة الجماعية لأفراد الجالية الصومالية في أضرار كبيرة على قطاع العقارات في إيسلي، حيث شهد السوق تراجعًا ملحوظًا في الطلب على الوحدات السكنية والتجارية، وواجه أصحاب العقارات صعوبات في إيجاد مستأجرين كينيين بمقدروهم تحمّل الإيجارات المرتفعة التي كانت يدفعها الصومالية قبل مغادرتها، ما أدى إلى ركود ملحوظ في سوق العقارات.
منذ اعتماد كينيا للدستور الجديد عام 2010، طرأت تحوّلات ملموسة في النظام السياسي والإداري والمؤسساتي مهدّت الطريق لانتخابات عامة عام 2013، وأن الدستور الجديد كفل حقوق الأقليات والمجموعات المهمّشة، وشجّع مشاركتها في السياسة، كما كرس احترام التنوع العرقي في البلاد. وظهر تأثير ذلك بقوة في المناطق الشمالية الكينية التي شهدت حضورًا بارز في تمثيل الصوماليين على مختلف المستويات، مما يعكس تزايد تأثيرهم السياسي في البلاد، حيث شكلت فرصة للتعبير عن حضورهم السياسي والاجتماعي.
يُعد حي إيِسلي شاهدًا على معاناة الصوماليين في كينيا حيث تعرض السكان المحليون في الحي لعمليات هدم واعتقال متكررة من قبل قوات الشرطة، مما شل الحياة فيه، وأصاب سكانه بالذعر والاستياء في صفوف السكان المحليين
برزت هذه الانتخابات بالنسبة للصوماليين عدة نقاط جوهرية، أهمها أن الصوماليون في كينيا ليسوا رقما يستهان به كما كان الأمر من قبل، وذلك بإظهار رغبتهم في المشاركة الفاعلة في صنع القرار الوطني، والتمثيل العادل والسعي لتحقيق التنمية الشاملة التي تخدم مناطقهم وتحفظ حقوقهم، واستعادة دورها في رسم الخارطة السياسية للبلاد.
شهد حي آيسلي انتعاشًا اقتصاديًا واجتماعيًا ملحوظًا عقب الانتخابات العامة لعام 2013، نتيجة عدة عوامل مترابطة، أبرزها زيادة المشاركة السياسية للمجتمع الصومالي، وبروز كتلة برلمانية صومالية قوية، وتحسن الخدمات الأساسية، وتنامي الاستثمارات في البنية التحتية، زيادة ملحوظة في الوعي السياسي، ما شجع الصوماليين على الاستقرار بأعداد كبيرة، وجلبوا معهم رأسمالًا وخبرة تجارية وثقافة تجارية قوية، ما رفع مساهمة الحي إلى 30٪ من إيرادات مقاطعة نيروبي اليومية، ما يعادل حوالي 9 إلى 18 مليون شلن يوميًا في الإيرادات.
هكذا تحول حي إيسلي إلى مركز مزدهر للتجارة والأعمال، وذلك بفضل موقعه الاستراتيجي القريب من وسط المدينة، والقرب من طرق التجارة الإقليمية، حيث استفاد بشكل كبير من ميناء مومباسا، وتحوّل إلى حلقة وصل تجارية مهمة تنقل من خلالها البضائع القادمة من الميناء إلى لعدة دول غير ساحلية، مثل: أوغندا ورواندا وبوروندي وجنوب السودان وبعض مناطق من إثيوبيا والصومال، مما جعله نقطة جذب للتجار المحليين والدوليين.
الصوماليون في كينيا ليسوا رقما يستهان به كما كان الأمر من قبل، وذلك بإظهار رغبتهم في المشاركة الفاعلة في صنع القرار الوطني، والتمثيل العادل والسعي لتحقيق التنمية الشاملة التي تخدم مناطقهم وتحفظ حقوقهم
تتوزع القطاعات التجارية الرئيسية في حي إيسلي على محالات متنوعة، مثل: التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجستية واستيراد البضائع والخدمات المالية والتجارة بالجملة والأقمشة والضيافة والمطاعم والاستيراد والتصدير، كما تلعب قطاعات البناء والإنشاءات دوراً حيوياً في الاقتصاد المحلي.
يشهد حي إيسلى تطوراً عمرانياً وتوسعاً غير مسبوق في السنوات الأخيرة، ما يعكس الديناميكية الاقتصادية والنمو المتسارع في الحي، وجذب المزيد من السكان والاستثمارات. وقد تجلت هذه النهضة العمرانية في مشروعات ضخمة ومتنوعة، شملت إنشاء مجمعات سكنية وتجارية حديثة، مما جعل الحي مركزًا حيويًا للاقتصاد والتجارة في المدينة. وخير شاهد على ذلك هو مركز مول سكوير التجاري ( BBS Mall)، الذي يُعد من أبرز المراكز التجارية الحديثة، وجهة تسوق حديثة ومتكاملة، تجمع بين الحداثة والتنوع لتلبية احتياجات الزوار.
زار رئيس اتحاد النقابات العمالية الكينية، فرانسيس أتولي، حي إيسلي شهر أبريل/نيسان من العام الجاري، وخلال الجولة، اجتمع مع لفيف من رجال الأعمال الصوماليين الكبار، واستمع منهم تقارير حول فرص الاستثمار والانتعاش الأمني والتقدم الذي يشهده الحي. وقد أعرب عن اندهاشه الشديد من مستوى التطوير الذي شهده الحي الصاعد من حيث التوسع العمراني والانتعاش التجاري، "أود أن أشكر الصوماليين في إيستلي، فقد زرتها لأول مرة، عندما تكون في إيستلي، وخاصةً في السوق، وأنت تتجول على أطرافه، تشعر وكأنك في قلب القاهرة، مصر"، مضيفًا أن التغيير ضروري، وجّه دعوة إلى أبناء الجالية الصومالية للمشاركة الفاعلة في تطوير العاصمة نيروبي، مشيرًا إلى أن الطريق مفتوح أمامهم، وقد يأتي يوم يكون فيه أحدهم رئيسًا للبلاد.
شغل الصوماليون في كينيا مناصب مهمة في البلاد، مثل وزير الخارجية، ووزير الدفاع، ونائب رئيس البرلمان، وقائد الجيش، ورئيس الشرطة والمخابرات، والسفراء، وحكام الأقاليم، ورؤساء الشركات. كما شغل الصوماليون مناصب مهمة أخرى، مثل إدارة التحقيقات الجنائية.
مركز مول سكوير التجاري هو مشروع تجاري يقع شارع جنرال وارويينجي، حي أيسلي، هو أحد أكبر المراكز التجارية والتجزئة في منطقة شرق ووسط أفريقيا، يمتد المركز التجاري على مساحة تقديرية تصل إلى حوالي 130 ألف متر مربع، وتصميمه العصري الذي يجمع بين التسوق والترفيه في مكان واحد؛ المطاعم والخدمات المتنوعة تحت سقف واحد، مما يجعله وجهة مفضلة للسكان والزوار.
تم الانتهاء من تشييده في أكتوبر/تشرين الأول 2023، بعد أربع سنوات من العمل المتواصل بتكلفة تقديرية بلغت حوالي 25 مليار شلن كيني؛ أي ما يعادل 180 مليون دولار أمريكي، للمرحلة الأولى من المشروع، تستضيف هذه المرحلة أكثر من 2,000 متجر تجزئة، بالإضافة إلى مطاعم وبنوك ومرافق أخرى. فيما تشمل المرحلة الثانية من المشروع بناء فندق فاخر وشقق ومكاتب حديثة.
يستفيد مركز مول سكوير التجاري (BBS Mall) في حي إيستلي بنيروبي من موقعه المختار بعناية، مما يضمن سهولة الوصول إلى الطرق السريعة الرئيسية، فهو يستقطب حوالي 150 ألف زائر يوميًا، مما يجعله واحدًا من أكثر المراكز التجارية ازدحامًا في كينيا وشرق أفريقيا، حيث يضم أكثر من 3500 متجرًا، بالإضافة إلى 32 مطعمًا و12 بنكًا. كما يحتوي على ثلاثة مستشفيات لتقديم خدمات الرعاية الصحية للزوار، ويوفر ما بين 12 ألف و15 ألف فرصة عمل، مما يجعله واحدًا من أكبر أرباب العمل في القطاع التجاري في كينيا.
تثمل قصة حي إيسلي نموذجا حيا لقدرة المهاجرين على الاندماج في المجتمع، لا بل والمساهمة في تنشيط الدورة الاقتصادية بأموالهم وتجاربهم وخبراتهم، خلافا للسردية السائدة لدى الأكثرية، حيث تربط بشكل استلزامي كل مشاكل البلاد بالمهاجرين.