الأربعاء 9 أكتوبر 2024
بعد الحرب العالمية الثانية، كانت لجنة القوى الأربع(FPC) ، المكونة من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وروسيا، مكلفة بالتحقيق في المستعمرات الإيطالية السابقة في إريتريا والصومال وليبيا، في نوفمبر/تشرين الثاني 1947، وذلك تفعيلا لبنود معاهدة السلام مع المنتصرين في الحرب، حيث التزمت إيطاليا بالتخلي عن "كل الحق والملكية للممتلكات الإيطالية في إفريقيا". لكن روما عادت لتجادل بأن المستعمرات يجب أن تُعاد إليها، مدعية أنها رغبات السكان، الذين تعتقد الحكومة الإيطالية أنهم يعاطفون مع استمرار وجودها، ما يجب أن يؤخذ في الاعتبار، وهذا ما جعل التحقيق ضروريًا.
زارت اللجنة إريتريا أولًا، تذكر الجنرال فرانك ستافورد، أحد أعضاء اللجنة، في خطاب له في "تشاتهام هاوس" (Chatham House) كيف تعامل مع المهمة. فقد ذكر أنه تم نصح كل قرية وقبيلة باختيار متحدثين باسمهم، مما أتاح مسحًا واسعًا لآراء الناس. تعزز هذا النهج بزيارات مفاجئة للقرى، خلال الفترة من 23 نوفمبر/ تشرين الثاني إلى 14 ديسمبر/ كانون الأول 1947، لضمان عدم تجاهل أو التلاعب بالحقائق من قبل أصحاب السلطة المحليين، وكذا اللجان المتخصصة لجمع البيانات الاجتماعية والاقتصادية.
لاحظ ستافورد أن الناس في المنطقة لديهم آراء متباينة، وغير قابلة للتوفيق. فالمجتمع الصغير من المستوطنين الإيطاليين في أسمرة فضل العودة إلى الحكم الإيطالي المباشر، وكذلك بعض من الدناكل (العفر) حول ميناء عصب، وهو ما وصفه بأنه "غريب". فيما رغب العديد من المسيحيين في الإقليم، لا سيما في الهضبة، الاتحاد مع إثيوبيا، أما سكان السهول المسلمة في الغرب ففضلوا دولة مستقلة.
أشار الرجل إلى أنه "لم يقترح أحد من الذين تم استجوابهم تقسيم إريتريا"، إلا أنه في الوقت ذاته شدد على أنه "كان هناك دليل ضئيل على نمو الروح الوطنية الإريترية". نحاول النبش في بدايات ظهور حركة الاستقلال الإريترية إلى ثورات الأقنان في السهول الغربية لإريتريا.
كانت إريتريا، مثل العديد من البلدان الأفريقية، خَلقًا استعماريًا. فقد بدأت حدود الدولة الإريترية تتشكل من خلال اتفاقيات مع السودان الأنجلو-مصري في الغرب، وممتلكات جيبوتي الفرنسية في الجنوب الشرقي، والحدود الواسعة مع إثيوبيا. كتب ريدئ يرختاب "في ذلك الوقت، من الناحية الموضوعية، تم وضع أسس الأمة الإريترية."
في عام 1890، دمجت إيطاليا العديد من السلطنات والممالك في كيان واحد، ما أفرز إريتريا اليوم المتنوعة عرقيًا وثقافيًا ودينيًا. حركة تحرير الأقنان كانت بشكل أساسي تشمل الناطقين بلغة التقرايت أو التقرى، كما عرفت في أوساط المؤرخين والأجانب. يشكلون الناطقون بالتقرايت حاليًا حوالي 35٪ من السكان، وهم ليسوا مجموعة عرقية بالمعنى الدقيق، بل جماعة لغوية كبيرة تتركز في السهول الغربية والمرتفعات والسهول الشمالية لإريتريا وشرق السودان.
تستخدم قبائل عديدة هذه اللغة، ولكنهم غالبًا ما يعرفون بالقبيلة بدلاً من كونهم مجموعة إثنية واحدة. يتحدث بعضهم بلغة التبداويت، لسان قبائل الهدندوة التي تقطن في غرب إريتريا وشرق السودان.كما أن هناك خلطا أخر بين التقرى ومنطقة تيقراي في شمال إثيوبيا، وهما مختلفتان.
لغة التيغرايت (الاسم الذي يطلقه المتحدثون بها)، قريبة من اللغة الجعزية القديمة، والجعزية قريبة من اللغة السبئية القديمة في اليمن، والمعروفة "بالمسند".
تشير كلمة "تقرى" إلى قن أو عربي (تُستخدم للدلالة على الازدراء)، وفقًا لإنو ليتتمان، Enno Littmann الذي بحث كثيرا في اللغة، وكتب ثلاثة مجلدات عن أدب التيغرايت. في عام 1907، كان عدد الأشخاص الذين تعد لغتهم الأم داخل الأراضي المحتلة من قبل إيطاليا أكبر من أي جماعة لغوية أخرى.
أغلبية الناطقين بالتقرايت مسلمون، وكثير منهم، على غرار معظم المسلمين في إريتريا، عارضوا الاتحاد مع إثيوبيا. وكانت هذه الجماعة الأساس لتشكيل حزب الرابطة الإسلامية وحركة الاستقلال لاحقًا. لاحظ ستيفن لونغريغ، الحاكم العسكري لإريتريا ما بين 1942 و1944، أن "القبائل المسلمة خارج المدن، التي تشكل نصف سكان إريتريا، وتشغل تسعة أعشار أرضها، ستكون في معظمها، وبشكل قوي، ضد هذا الاتحاد [مع إثيوبيا]، على الرغم من أنه هذه الحقيقة لا يُعترف بها من قبل المطالبين للوحدة مع إثيوبيا."
كتب جيرالد كينيدي تريفاكيس، ضابط بريطاني خدم في إريتريا، ومؤلف كتاب "إريتريا: مستعمرة في انتقال"، أنه "لم يكن يمكن لأي حركة إسلامية ذات شأن أن تتطور دون قبائل التقرى، الذين يمثلون ثلاثة أخماس من المسلمين البالغ عددهم 520,000 في إريتريا."
تحدث ريدئ يرختأب في "إريتريا: تشكيل أمة" عن أن معاناة شعب التقرى تدور في السهول الغربية والمرتفعات والسهول الشمالية لإريتريا، المكان الذي "كانت فيه الهياكل الاجتماعية السياسية الإقطاعية موجودة فعليًا ". وكانت ذلك فعلا خلاصة الباحثين الذين زاروا أو درسوا المنطقة، ف"القنانة كانت منتشرة على نطاق واسع، لا سيما بين البني عامر والحباب والبلين"، وكان المفروض أن تكون العلاقة مبنية على اتفاق بين النبلاء الذين يوفرون الحماية للأقنان، الذين سيحافظون بدورهم على التزاماتهم تجاه هؤلاء.
دخلت العلاقة الإقطاعية بين النبلاء والأقنان منطقة الساحل، بواسطة وافديين من بيت أسقدى؛ المسيحيين الأرثوذكس الناطقين باللغة التقرينية من أكلي قزاي؛ إحدى محافظات الهضبة الإرترية، الذين أخضعوا قبائل الرعاة المسلمين، ممن كانوا هناك. لكنهم انتهوا بتبني اللغة والدين، ونمط الحياة الرعوي للمحتلين.
أبقت طبقة النبلاء، المعروفة محلياً "بالشماقلى"، رعاياها في حالة عمل قسري. ركَّز هذا المجتمع الطبقي الثروة والامتيازات والهيبة بين يدي أقلية واحدة، على حساب جميع الأقنان. فهؤلاء يتوقع منهم أن يحرثوا أرضهم لإطعام النبلاء، وجمع الحطب لهم، وتزويدهم بالحيوانات لنقل ممتلكاتهم. وحتى عند تزويج بناتهم للنبلاء، كان مفروضا عليهم تقديم الهدايا.شهدت المرتفعات الشمالية والسهول، حيث كان النبلاء من بيت أسقدى، بداية الثورة ضد الطبقة الأرستقراطية، حيث ظهر في هذا النظام أسوأ ما فيه.
طبقة النبلاء لم تكن حصرًا على المسيحيين، فقد كان لدى البني عامر، وهو اسم لتجمع قبائل مختلفة، يشكلون أكبر مجموعة ناطقة بلغة التقرايت في إرتيريا والسودان، طبقة النبلاء في أوساطهم. كانوا من قبيلة الجعليين الذين أتو من السودان، بالإضافة إلى قبيلة البلو، وكلاهما يجمعون الضرائب للإمبراطورية العثمانية.
تعرف طبقة النبلاء عند البني عامر بالنبتات، وعلى رأسها ناظر يسمى دقلل، وهي رتبة رمزها سيف الشرف، وله طاقية بقرون تُعرف بطاقية "أم قرين"، مصنوعة من المخمل الأحمر ومهذب بالذهب ومحشو بالقطن. ودقلل البني عامر هو الوحيد من النظار في غرب إريتريا وشرق السودان الذي حصل على هذا الرمز، من سلطنة الفونج في سنار بالسودان.
تحت هذا النظام الإقطاعي، كان الأقنان في وضع أفضل نسبيًا من العبيد؛ فلا يتم شراؤهم أو بيعهم كملكية، لكن كان عليهم العمل للنبلاء بدون أجر. كانت هناك درجة من التعاون، قوامها ما أسماه ريدئ يرختاب "السيطرة القسرية". كانوا يدفعون الضرائب لحرث الأرض، ويمتلكون الماشية، وبالموازاة كانت على عاتقهم التزامات تجاه النبلاء. كانوا يتمتعون بدرجة من الاستقلال، مع احترام الانقسامات في المجتمع، وبشكل صارم، حيث كانت الزواج المختلط ميلا ممنوعًا.
استخدم الإيطاليون النبلاء لمساعدتهم على إدارة البلد، وجمع الضرائب، وخفضوا الضرائب المدفوعة من الأقنان، لكن ذلك لم يكن كافيًا لتخفيف الأعباء عنهم. كشفت تقارير المقاومة ضد النبلاء تعود إلى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، عن تقديم مجموعة كبيرة من الأقنان عريضة إلى المفوض فيتوريو فوكاردي، يعبرون فيه عن ارتياح نسبي، فقد ذكرو أن وجود الإدارة الإيطالية خفف قليلا من مطالب النبلاء، وتوقفوا عن ممارسة الجنس مع زوجاتهم، وهي ممارسة كانت شائعة سابقًا.
تواصلت حركة تحرير الأقنان عبر خمسين عامَا من الحكم الإيطالي، على الرغم من أنها كانت غير منظمة ومتناثرة، لكنها حققت بعض الحريات للأقنان. كان مفتاح هذا الجهد ظهور المدارس الحكومية التي أضعفت الارتباط بين الأقنان وأسيادهم، وظهور أشكال جديدة من العمل في اقتصاد حديث، يسمح للأقنان بإيجاد طرق جديدة لكسب العيش. بدأ الأقنان من التقرى، خلال الانتقال من الحكم الاستعماري الإيطالي إلى البريطاني، بشكل متزايد في تحدي وضعهم الأدنى ضد ملاك الأراضي المحليين.
رغم نجاح الإدارة العسكرية البريطانية (BMA) الأولى في عقد اجتماع عام لممثلي الشماقلى والتقرى، في مدينة كرن، في يونيو/ حزيران 1943، فقد ظهرت مخاوف حول الموقف الصارم للنشطاء المؤثرين من التقرى، خاصة محمد حامد تقى؛ زعيم التقرى في عشيرة عادل تكليس، الذي رفض دفع أي قمح لنبلاء بيت أسقدي، قائلًا إنه "يفضل الموت على أن يسمح بدفع ربعية واحدة من الذرة [القمح] لبيت أسقدي"، مما أحدث سابقة في حركة التقرى.
في عام 1943، وقع حدث مهم آخر عندما حرث حامد شنطوب، أحد الأقنان من قبيلة رقبات الصغيرة، أرضه دون دفع ضريبة الحرث. وعندما حاول سيده النبيل منعه، أصابه حامد، مما أدى إلى وفاة النبيل. رفض حامد دفع دية مضاعفة (لأنه قتل نبيلًا)، بدعم من إبراهيم سلطان، وأشعل مقاومة واسعة بين الأقنان، الذين توقفوا عن دفع مختلف الضرائب، مما أثار تحديًا للإدارة البريطانية.
عارضت حركة الأقنان أيضًا ما أسمته بعصابات النبتاب في إريتريا، بقيادة على بنطاز أو علي شاويش، إدريس علي بكيت وعلي بكيت عمر، متهمة إياهم بإثارة الحرب بين البني عامر والهدندوة، في شرق السودان ما بين 1942 حتى 1945.
تعود أصول هذا الصراع إلى ادعاء الهدندوة أحقيتهم بمناطق الرعي داخل إرتريا، بحكم أن إريتريا والسودان كانا يديرهما الإنجليز. وقد لا يكون الكثير من الهدندوة على دراية بوقوف الأقنان إلى جانبهم، حيث إن إرث هذه الصراعات أثر على الاشتباكات العرقية التي استهدفت البني عامر بعد سقوط عمر البشير في عام 2019.
وجه ممثلو التقرى في إريتريا رسالة مكونة من 17 صفحة، وموثقة بمراجع إلى لجنة القوى الأربع، بسطوا فيها مظالمهم بشأن الوضع في إريتريا، وقدموا مقترحات حول كيفية معالجة أوضاعهم. "نحن نمثل تقريبًا كامل السكان المسلمين في المقاطعات الغربية من إريتريا؛ أي حوالي 95٪ من السكان"، تقول الرسالة، مضيفة: "على الرغم من ذلك، ليس لدينا الحق في شغل المناصب السياسية، ولا نتمتع بالمساواة مع الطبقة النبيلة المعروفة باسم «ثانييت»".
أثرت حركة الأقنان بشكل كبير في إريتريا وإثيوبيا والسودان، فقد انحاز النبلاء إلى حزب الاتحاد الذي وعد بإعادة امتيازاتهم ودمج إريتريا مع إثيوبيا. وفي المقابل، نشأت الرابطة الإسلامية الإريترية، أول حزب سياسي وطني لإريتريا، نتيجة لهذا الصراع في 3 ديسمبر/ كانون الأول 1946، بموافق حادة حيث رفضت الاتحاد مع إثيوبيا أو التقسيم، ودعت إلى استقلال إريتريا.
كان إبراهيم سلطان، الأمين العام للحزب، شخصية رئيسية في نضال الأقنان، فقد وصفه جوردان قبرمدهن بأنه "أبرز قائد فكري وسياسي في الأربعينيات" عرفته إريتريا، حيث عارض الغزو الإيطالي لإثيوبيا، وسجن بسبب ذلك.
رغم تسميتها بالرابطة الإسلامية، فإن الحزب كان وطنيًا، واستخدمه التسمية الدينية بقصد مواجهة جهود ضم إثيوبيا من خلال الكنيسة الأرثوذكسية. رغم ذلك، حافظ سلطان على تحالفه مع أحزاب المرتفعات المسيحية التي دعمت استقلال إريتريا، مثل حزب التقدم الليبرالي الذي كان يرأسه أسبروم تسما.
أنشأ سلطان والنشطاء الآخرون شبكات بين التجار والسلطات الدينية، ووسعوا من نطاق المنظمات الخيرية، كما أسسوا مدارس ومساجد إسلامية جديدة في أوائل الأربعينيات. وكان هذا الأساس لطبقة مثقفة مسلمة سياسية في إريتريا، رأت التحرر ضرورة من أجل مجتمع مسلم موحد، ومتعدد الأعراق وسياسي نشط. لم ينضم سلطان أبدًا إلى جبهة التحرير الإريترية (ELF)أو الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا (EPLF).
وضعت حركة تحرير الأقنان الأساس للحركات السياسية والاجتماعية المستقبلية في إريتريا، مما ساهم في ارتفاع الوعي بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والدينية. في النهاية، استجابت الإدارة البريطانية لمطالب الأقنان، فبعد بعد ثلاثة أشهر من مغادرة لجنة القوى الأربع، بدأت الإدارة العسكرية البريطانية في إعادة هيكلة التنظيمات القبلية في غرب وشمال إريتريا.
بحلول يونيو/ حزيران 1948، أنشأوا 20 قبيلة جديدة تمامًا، وأعادوا تشكيل 8 قبائل غير أرستقراطية سابقة، وأعادوا تشكيل 5 قبائل أرستقراطية سابقة، وانتخبوا 20 رئيسًا جديدًا و591 رئيسًا فرعيًا، مما غير بشكل دائم التنظيم الاجتماعي. كما أدت التغييرات في هيكل التعليم والاقتصاد إلى ظهور نخب جديدة، غالبًا من مجتمعات الأقنان، الذين تحدوا سلطة الطبقة النبيلة، وطرحوا مطالبهم السياسية بمصطلحات جديدة.
كتب تريفاكيس في وقت مبكر بأن "تعلم القادة المسلمون في إريتريا القيمة السياسية لاتصالاتهم الإسلامية خلال الجزء الأخير من الاحتلال. إذا كانت لديهم أسباب للامتعاض في المستقبل، فإنهم بلا شك سيستغلونها. إذا فعلوا ذلك، فإن نداءاتهم من المرجح أن تجذب تعاطف المسلمين، مما يشكل تهديدًا وتشجيعا للثورة."
بدأ الكفاح المسلح من أجل الاستقلال بالفعل في السهول الغربية، وكانت حركة تحرير الأقنان في إريتريا خلال الأربعينيات لحظة محورية في تاريخ المنطقة. لم تتحد فقط النظام الاجتماعي القائم، بل وضعت الأساس للحركات السياسية والاجتماعية المستقبلية، بما في ذلك جبهة التحرير الإريترية والجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، مما ساهم في النضال الأوسع من أجل استقلال إريتريا.