تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 16 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
رأي

حرب السودان: عن حميدتي الأمريكي

16 أكتوبر, 2025
الصورة
حرب السودان: عن حميدتي الأمريكي
Share

أحياناً لا يملك المرء إلا أن يتساءل: هل يمكن أن يكون خلف الإدانات الباردة، ووراء تلك العقوبات، التي لا يكاد يكون لها أثر على أرض المعركة، إعجاب غربي، وخاصة أمريكي، بالجنرال السوداني المنشق محمد حمدان دقلو "حميدتي"؟

كنت أفكر بذلك، وأنا أرى ردود الأفعال رداً على ما قامت به القوات المتمردة على الدولة من استهداف مسجد في الفاشر، ما أسفر عن مقتل العشرات. الولايات المتحدة ومن خلفها الدول الأوروبية لم تكن تستطيع تجاهل هذا الحدث، فأدانته دون إشارة لمرتكبه ودون تجريم لأحد. كانت صيغة البيان، الذي تكرر في بيانات غالب الدول، التي رأت أنه لا مفر من التفاعل مع ذلك الحدث الإجرامي، تنحصر في تجريم الحرب والطلب من الجميع احترام المبادئ الإنسانية وأخلاق المعارك.

حتى في الحالات، التي يجبر السياق فيها على إدانة عمل لا يمكن التسامح معه، وعلى ذكر "الدعم السريع" بالاسم، فإن البيان يُختم بإدانة جميع الانتهاكات، وبالتذكير بأنه لا يوجد أي حل عسكري للصراع، ما يعني ضرورة العودة للتفاوض، الذي قد يفضي لاستعادة حميدتي لمكانته.

الولايات المتحدة ومن خلفها الدول الأوروبية لم تكن تستطيع تجاهل هذا الحدث، فأدانته دون إشارة لمرتكبه ودون تجريم لأحد

ما يمكن استنتاجه هو أن نظرتنا لحميدتي يمكنها أن تختلف بشكل كبير عن نظرة الساسة الغربيين له، فنحن، وأعني هنا مجمل المتضررين من عمليته العسكرية، ومن هجوم مناصريه من الحواضن القبلية في دارفور على سكان الوسط العزّل، لا نرى فيه إلا صورة المجرم، الذي لا يتورع عن أي عمل، والذي لا حدود لما يمكن أن يقترفه. بالمقابل فإن الأمريكيين مثلاً قد ينظرون للرجل نظرة مختلفة، كنظرتهم لشاب استطاع أن يصنع لنفسه مجداً خلال سنوات قليلة، وأن يفرض نفسه على المعادلة السياسية والعسكرية في بلد كبير ومعقد كالسودان. أكثر من ذلك، فإن ذلك الرجل، ذو التعليم المحدود، والحاصل على أعلى الرتب العسكرية عن طريق المجاملة المحضة، تعدى طموحه ذلك، وكاد أن يصل حد ابتلاع الدولة وهو أمر مثير للاهتمام.

سوف ينتهي الإعجاب بالرجل، ويمكن للجميع أن ينفض يديه عنه، إذا ما فشل في أن يستمر كقطب رئيس، أو وحيد، لمعادلة القوة السودانية. لكن إذا ما نجح في مشروعه الشخصي، وتحول لرجل الخرطوم القوي، فإن بإمكان الأمريكيين، والأوروبيين أيضاً، أن ينسوا له كل ما فات، وأن يتعاملوا معه كواقع، بل حليفا يمكن تطويقه من خلال ابتزازه بجرائمه السابقة.

قد يبدو ذلك غريباً لمن يتابع المقالات والتقارير الغربية، التي تتحدث بتفصيل عن الانتهاكات، التي ترتكبها قوات حميدتي، والتي تتعدى استهداف العسكريين لعمليات سرقة ونهب واغتصاب وتعذيب ممنهجة ضد الأبرياء من المدنيين، إلا أن من المهم التذكير بأن ذلك التسامح حدث بالفعل في وقت سابق مع الرجل نفسه. حينها، وبعد أن كانت التقارير الغربية متفرغة لرصد جرائم "الجنجويد" في دارفور في العشرية الأولى من هذا القرن، ما لبث الأوروبيون أنفسهم أن دخلوا في شراكة مع حميدتي، القائد السابق للجنجويد، حينما صعد أكثر في سلم الدولة، متناسين كل ما كانوا يصفونه به من نعوت. كانت تلك الشراكة متعلقة بالدرجة الأولى آنذاك بالتنسيق في سبيل قطع الطريق على المهاجرين الراغبين في الوصول إلى أوروبا.

لفتني في لقاء وزير الدفاع الأمريكي بجنوده، وهو المتأثر بشكل واضح في أفكاره وهيئته بأجواء الحروب الصليبية، إشارته إلى أن الجندي لا يجب أن يكون مهموماً بالصوابية الأخلاقية لأنها تعطل عمله، بل إن عليه أن ينشغل بتحقيق النصر وبإنجاز أهداف المعركة. هذا يعني بشكل من الأشكال تشجيع الجنود على التوسع في استخدام العنف طالما كان ذلك في فائدة تحقيق هدف النصر الكبير.

إن الأمريكيين مثلاً قد ينظرون للرجل نظرة مختلفة، كنظرتهم لشاب استطاع أن يصنع لنفسه مجداً خلال سنوات قليلة

هذه الطريقة في منح الضوء الأخضر للعسكريين تبدو صادمة، لكن الأمر ليس جديداً، فكلنا نعلم أن الجيش الأمريكي يمارس بالفعل فظائع في أرض الواقع دون تردد، بل ويمنح جنوده حصانة من الملاحقة الدولية بغض النظر عما اقترفوه من انتهاكات. هذا هو ما يمكن وصفه بالطريقة الأمريكية في العمل، وهي طريقة تجد أحد أبرز تمثلاتها في شخص وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين اولبرايت، التي أجابت ببرود عن سؤال حول العقوبات الأمريكية على العراق (1996)، وكيف أنها تسببت في مقتل نصف مليون طفل قائلة: "إن الأمر يستحق".

نحن نجتهد في سبيل شرح الفظائع، التي ترتكبها قوات حميدتي في كل مكان تدخل إليه، لكننا ننسى أن كل ما تم ارتكابه لا يساوي إلا غيضاً من فيض جرائم الغربيين والأمريكيين، التي قاموا بها في مستعمراتهم وغزواتهم في سبيل توسيع النفوذ والحصول على الأراضي والموارد.

لا يحتاج الأمر هنا لاستعادة التاريخ القديم، والتذكير بما حدث إبان وصول أولئك الغربيين للقارة الأمريكية وكيف استوطنوها بعد أن نكلوا بأهلها وقتلوا غالبيتهم أو استعبدوهم، ولكن يكفي أن نتذكر الحروب الأمريكية في العراق وفي أفغانستان وما كان فيها من عبث بالأرواح، وصل لدرجة القضاء على قرى كاملة بذريعة الاشتباه بوجود مطلوبين فيها.

من جانب آخر، وإذا تتبعنا قصص الأبطال وقصص النجاح الأمريكية، فنجدها كلها لا تخلو من تمجيد لشعار "الغاية تبرر الوسيلة"، الذي يجعلك تصوب ناظريك صوب هدفك، ولا تبالي بطريقة الوصول.

إن الولايات المتحدة تهدف لتقسيم السودان، أو أن مصلحتها تكمن في فصل دارفور، فلو كان الأمر كذلك لتحقق لها هذا مع سيطرة حميدتي على أجزاء واسعة من غرب السودان

أذكر أنه كان مما أثار دهشتي قصة هنري مورغان، الذي سيؤسس أبناؤه بنكاً أمريكياً شهيراً، والذي لم يكن في الواقع سوى مجرد قرصان، لكنه قرصان تُحكى قصته بفخر، كما تحكي بعض المجتمعات، التي تتبنى النهب المسلح كأسلوب حياة، قصصها عن عملياتها وتصورها وكأنها أعمال بطولية.

كل ما سبق يجعلنا نرى الأمر بشكل مختلف ونتخيل أن السؤال الحقيقي، الذي يشغل الأمريكيين اليوم ليس السؤال الأخلاقي، حول ما إذا كان حميدتي وقواته قد ارتكبوا بالفعل فظائع ترقى لأن توصف بأنها تطهير عرقي أو جرائم ضد الإنسانية، وإنما سؤال آخر أكثر براغماتية وهو: هل سينجح حميدتي بالفعل في مسعاه، ويتمكن من أن يسيطر على الدولة، بما يجعله رجل السودان القوي، الذي يمكن الاعتماد عليه، أم لا؟

في حالة النجاح فإن الوضع سيختلف بالتأكيد، وقد يتم فتح صفحات جديدة معه، على غرار عشرات الزعماء، الذين ارتكبوا ما لا يمكن وصفه من جرائم، لكن الذين تم استيعابهم في المنظومة الدولية من خلال رافعة الرضا الأمريكي.

هذه سانحة مهمة للقول إننا لا نرى، على عكس ما تذهب إليه بعض الكتابات، أن الولايات المتحدة تهدف لتقسيم السودان، أو أن مصلحتها تكمن في فصل دارفور، فلو كان الأمر كذلك لتحقق لها هذا مع سيطرة حميدتي على أجزاء واسعة من غرب السودان. الفرصة كانت مواتية أكثر من أي وقت مضى، فعن طريق وضع اليد، أو الضغط في اتجاه استفتاء يمكن ببساطة التلاعب بنتائجه أو عبر أي حيلة أخرى، كان يمكن أن يتحقق لها هذا الهدف إن أرادت.

ما يظهر بشكل أوضح هو أنه يوجد رهان بشكل ما على حميدتي، الذي لا يراد له أن يكتفي بإقليم دارفور، الفقير في موارده والمغلق وسط حزام ملىء بالتعقيدات، وإنما أن يستطيع أن يحكم الخرطوم، إما منفرداً، أو عبر استعادة شراكة تجعله يعود مكرماً من جديد إلى المشهد.