السبت 8 نوفمبر 2025
في منتصف الشهر الماضي (أغسطس/ آب) احتفى الداعمون لعملية الجيش السوداني العسكرية، التي تستهدف استعادة الأراضي والنظام من بين يدي الجنرال المنشق محمد حمدان دقلو "حميدتي" ببيان مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي، الذي كان يرفض الاعتراف بحكومة حميدتي الموازية.
ظاهر البيان لا يشير فقط لعدم الاعتراف بحكومة نيالا، المدينة الواقعة في إقليم دارفور غربي السودان، التي تم اختيارها لتكون عاصمة للدولة الجديدة، وإنما أيضاً للترحيب بكامل إدريس رئيسا للوزراء وقائدا لحكومة الخرطوم المدنية.
سبب الاحتفاء هو أن الاتحاد الأفريقي، وهو أهم منظمة سياسية في أفريقيا، كان قد علّق عضوية السودان منذ ما يعرف بقرارات 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، التي أعلنها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، والتي اعتبرت بأنها انقلاب بعدما عمدت إلى تنحية الحكومة، التي كانت تقف وراءها مجموعة "قوى الحرية والتغيير"، التي كانت تستأثر بتمثيل المدنيين في النظام، الذي تشكل بعد إسقاط الرئيس عمر البشير.
فُهم البيان كإشارة إيجابية وخطوة في سبيل استعادة العضوية، التي تحتاجها البلاد، وهي تخوض معركة لا تقتصر على الجانب العسكري، وإنما تمتد للجانب الدبلوماسي والسياسي، الذي بات التنازع حول الشرعية هو أحد أهم ملامحه.
إلا أن ذلك البيان لم تتلوه خطوات تقارب أكثر، بل سرعان ما استعاد الاتحاد الأفريقي موقفه، الذي ينظر فيه إلى الحدث السوداني بعين المسافة الواحدة من كل الأطراف، وهي نظرة، وإن كانت تبدو في ظاهرها محايدة، إلا أنها تستبطن رسالة واضحة، وإن لم تقال بشكل واضح: لا أحد يمتلك الشرعية الكاملة، ولا أحد يمكنه أن يحتكر تمثيل السودانيين.
نظرة تستبطن رسالة واضحة، وإن لم تقال بشكل واضح: لا أحد يمتلك الشرعية الكاملة، ولا أحد يمكنه أن يحتكر تمثيل السودانيين
هذا هو الموقف، الذي كان واضحاً، حتى والاتحاد يوزع بيانه، الذي قرأه البعض انحيازا أفريقيا للسلطة في الخرطوم أو دعما مفتوحا ضد المتمردين والمنشقين، الذين كانوا، وما يزالون، يحاولون فرض واقع مغاير وقراءة مختلفة للأحداث يتم فيها عكس القصة، بما يجعل الجلاد يلعب دور الضحية.
ذلك البيان لم يتجاوز في جوهره الحديث على بعض المرتكزات الأساسية، التي يصعب على الاتحاد أن يتجاوزها، وهي التمسك بوحدة البلاد الأفريقية ورفض تقسيمها، بالإضافة إلى رفض سياسة فرض الأمر الواقع، التي لو تم التساهل معها لكان فيها تشجيع لآخرين على التمرد.
تلا ذلك البيان لقاءات جمعت مسؤولين في الاتحاد بالأطراف ذات الصلة من داخل السودان ومن الدول المهتمة أو المنخرطة في المسألة السودانية. بدا الاتحاد ومسؤوليه منفتحين على لقاء الجميع، وعلى رأسهم الشخصيات المحسوبة على من تعتبرهم الخرطوم خارجين ومتمردين، وكأنهم أرادوا بذلك تصحيح ما فهم بشأن انحيازهم لأحد أطراف الصراع، بالتدليل على الحياد التام.
تمثلت آخر تحركات الاتحاد في دعوته القوى السياسية لما أطلق عليه اسم "الحوار السوداني السوداني" في 6 من شهر أكتوبر/ تشرين الأول القادم. هذا الاجتماع الذي ستكون مجموعة "صمود"، المتفرعة عما كان يعرف ب"قوى الحرية والتغيير"، جزءاً أصيلاً منه. صمود، وإن كان متحدثون باسمها يرفضون أن يوصفوا بأنهم منحازون لحميدتي، إلا أن الأكيد هو أن لديهم موقفاً معارضاً للسلطة القائمة وللجيش.
كانت الاستراتيجية الوطنية المتبعة بعد تجميد العضوية، هي محاولة الشرح أن ما حدث في أكتوبر/ تشرين الأول لم يكن انقلاباً، حيث كان الشركاء المدنيون قد استمدوا شرعيتهم، لا من خلال استفتاء أو انتخابات، وإنما من قيادة الجيش، التي اختارتهم ومنحتهم الحكومة في بداية التغيير السياسي، قبل أن تقرر إقصاءهم وتفكيك حكومتهم بعد اتهامات بالفشل وباحتكار السلطة.
بدا الاتحاد ومسؤوليه منفتحين على لقاء الجميع، وعلى رأسهم الشخصيات المحسوبة على من تعتبرهم الخرطوم خارجين ومتمردين، وكأنهم أرادوا بذلك تصحيح ما فهم بشأن انحيازهم لأحد أطراف الصراع
لكن شيئاً كان يغيب عن ذلك المنطق، وهو أن قيادة الاتحاد لم يكن يخفى عليها كل ذلك، وهي التي ظلت شريكاً أساسياً في صياغة ذلك الانتقال منذ بدايته. لكنها كانت تعلم، في الوقت ذاته، أن "قوى الحرية والتغيير"، التي انقسمت اليوم بين مصطفين إلى جانب حميدتي ومحايدين معارضين للجيش، مدعومة بشكل كبير من القوى الغربية، ما يجعل محاولة كسبها مجدية.
القيادات الأفريقية لا ينظر أغلبها إلى المسألة السودانية بمنطق الحق العاطفي وإنما بمنطق الفوائد والعوائد، التي تجعلهم يتساءلون: هل ستكمن المصلحة في دعم الجيش السوداني، الذي يتعامل "المجتمع الدولي" مع قيادته بتشكك، أم في دعم رؤية المجموعة الممثلة للمصالح الغربية، والتي ترى أن لا أحد يستحق الدعم أو يمتلك الشرعية في السودان؟
الإجابة، التي نستطيع تخمينها يمكن أن تكون واضحة إذا تأملنا الاهتمام والاحترام، الذي تجده قيادات تلك المجموعة، وعلى رأسها رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، الذي تجد تحركاته اهتماماً كبيراً، وتسعى جهات كثيرة لاستقطابه وللاستماع لرؤيته. يحدث هذا على الرغم من الاتهامات التي يواجهها هو ورفاقه في السودان بشأن تواطؤه مع المتمردين، وهي اتهامات لا يبدو أن أحدا في الإقليم يتعامل معها بجدية.
المصلحة والتأثير الغربي هما المحرك الأهم خلف قرارات الاتحاد، وهو ما يظهر ليس فقط في مسألة السودان، وإنما في الازدواجية التي تعاملت بها المنظمة إزاء انقلابات وتغييرات دستورية عديدة شهدتها القارة خلال الأعوام الماضية. الرضا الغربي والقدرة على التماهي مع المصلحة الغربية هي العامل الرئيس، الذي كان يحدد ما إذا كان نظام ما يستحق أن يمنح شرعية أم لا.
هذا يشبه أن تجبر على الاختيار بين شيطان أكبر وأصغر. الجنرالان ارتكبا فظائع، ونحن نحتاج لكليهما من أجل وقف القتال
هناك نقطتان يجب وضعهما في الاعتبار عند الحديث حول هذا الموضوع، أولهما أنه لا وجود لجسم مستقل باسم "الاتحاد الأفريقي"، فيجب أن نتذكر أن هذه المؤسسة ليست سوى تجمع لزعماء القارة، ما يعني أنه إذا كانت الدول الأهم والأكثر تأثيراً تقف في خانة العداء الصريح، الذي يشكك في شرعية النظام في الخرطوم، أو على الأقل تتخذ موقف الحياد البارد، الذي لا يخلو من تواطؤ، فإنه سوف يكون من الساذج انتظار خروج الاتحاد بموقف مغاير، أو الذهاب نحو اتخاذ قرارات قوية وداعمة بشكل واضح لعملية الخرطوم العسكرية ولسلطتها القائمة. أما النقطة الثانية، فهي صعوبة الحديث عن موقف مستقل، فالمنظمة الأفريقية غير قادرة عن الانفصال بدورها عن رؤية "المجتمع الدولي"، والتي هي في الأصل انعكاس للرؤية الأمريكية للتسوية في السودان.
هذه الرؤية لخصها الدبلوماسي الأمريكي القريب من الملف السوداني تيبور ناجي، حينما سئل في مقابلة على قناة "الجزيرة" عن تقييم الصراع، فأجاب قائلاً أن هذا يشبه أن تجبر على الاختيار بين شيطان أكبر وأصغر. الجنرالان ارتكبا فظائع، ونحن نحتاج لكليهما من أجل وقف القتال.
هذه المساواة المجحفة نجد صداها في بيان اللجنة الرباعية، التي تتكون من مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية والولايات المتحدة، والذي صدر في الأسبوع الماضي بالتزامن مع تحقيق الجيش لتقدم كبير في إقليم كردفان.
المؤسسات الإقليمية وعلى رأسها الاتحاد الأفريقي ومنظمة "إيغاد" بادرت إلى الترحيب بالبيان، الذي يعبر بشكل تفصيلي عن الرؤية، التي أشرنا إليها، من خلال محاولة ترتيب الأوراق عبر فرض هدنة، واستعادة المسار المدني (نظام الحرية والتغيير)، واستبعاد الإسلاميين والمتحالفين معهم من الفضاء العام، بذريعة إحياء القطيعة مع النظام الساقط.
باستيعاب كل ذلك، يمكن أن نقول إن موقف الاتحاد الأفريقي ليس عدائياً ولا سلبياً بالمطلق، بل هو محكوم باشتراطات وإكراهات، ما يجعله قابلاً للتغيير متى تغيرت.