تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 15 يونيو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
كتب

هندسة العدو وتفكيك الهوية: قراءة في كتاب "الحرب وسياسة الهوية في إثيوبيا"

23 أبريل, 2025
الصورة
Geeska cover
Share

في كتابه "الحرب وسياسة الهوية في إثيوبيا: صناعة الأعداء والحلفاء في القرن الإفريقي" (2009)، يسعى الباحث النرويجي "كجيتيل ترونفول" إلى مساءلة العلاقة المعقدة بين الحرب وتشكيل الهوية في إثيوبيا، ليس بوصفها معطى تاريخيًا أو ثقافيًا ثابتًا، بل باعتبارها منتَجا سياسيا قابل لإعادة التشكيل، يمرّ عبر بوابة الحرب، ويتغذى على سياسات الخوف والتطهير الرمزي. بهذا المعنى، فإن ترونفول لا يكتب فقط عن حرب بعينها، بل يحاول الإمساك بكيفية صناعة العدو في مخيلة الدولة الإثيوبية الحديثة، وكيف تُعاد كتابة خرائط الولاء والعداوة في ظل القومية الإثنية والصراعات الإقليمية.

الحرب بوصفها مسرحًا لصناعة الهويات

يركز الكتاب على الحرب الإثيوبية–الإريترية التي دارت بين عامي 1998 و2000، مستخدمًا هذا الصراع لشرح كيف يتم تشكيل صورة "الآخر" أو الطرف المقابل في الخطاب الرسمي والمجتمعي. عبر عشرة فصول، يقدم المؤلف تحليلًا متنوعًا يجمع بين التاريخ والإثنوغرافيا والشهادات المباشرة، ليكشف عن ديناميكية معقدة تتجاوز مجرد لحظة الحرب. فالهويات لا تبرز فقط خلال النزاع المسلح، بل تُعاد هندستها وتنظيمها بشكل منهجي داخل مؤسسات الدولة. يتم ذلك من خلال وسائل متعددة مثل: الخطاب الإعلامي والمناهج التعليمية وسياسات التمييز التي تعزز هذه الهويات، وتعيد إنتاجها بشكل مستمر. 
يوضح الكتاب بهذا الأسلوب، كيف أن الحرب ليست فقط حدثًا عسكريًا، بل هي أيضًا عملية اجتماعية وسياسية، تُعيد تشكيل الهوية الوطنية، وتُرسخ الانقسامات بين الجماعات. هذه الرؤية تساعد على فهم أعمق لكيفية استخدام الدولة للحرب كأداة لإعادة إنتاج "الآخر"، وتعزيز خطاب رسمي يبرر الصراع، ويهيمن على الوعي الجمعي.
في الفصل المعنون بـ"تبديل الأعداء والحلفاء: اللعب بالعرقية"، يُبرز الكتاب أن الهوية الإثنية ليست ثابتة أو جوهرية، بل هي أداة سياسية مرنة تستخدمها الدولة وفقًا لموقع الجماعة ضمن هيكل السلطة. إذ يمكن أن تتحول الجماعة التي كانت تُعتبر حليفًا وطنيًا في فترة معينة إلى "خائن إثني" في فترة أخرى، والعكس صحيح. 


الحرب ليست فقط حدثًا عسكريًا، بل هي أيضًا عملية اجتماعية وسياسية، تُعيد تشكيل الهوية الوطنية، وتُرسخ الانقسامات بين الجماعات


يفضح هذا التحول المستمر محدودية النموذج التقليدي الذي يفسر الصراعات في أفريقيا باعتبارها نزاعات "قبلية" أو "عرقية" جامدة. بدلاً من ذلك، يدعو إلى إعادة النظر في هذه التصنيفات بوصفها نتائج لعمليات سياسية متغيرة، تُنتجها السلطة، وتُعاد صياغتها بحسب مصالحها، وليس حقائق ثابتة أو طبيعية. بهذا المنظور، تتضح أهمية فهم الصراع بكونه ظاهرة ديناميكية تتداخل فيها السياسة والهوية بشكل معقد.

صورة العدو: التراكم التاريخي والعنف الرمزي

في فصل بـعنوان "المسارات التاريخية لصورة العدو"، يشدد ترونفول على أن صورة "العدو" ليست نتاجًا للحظة الحرب فحسب، بل هي حصيلة تراكمية لخطابات الدولة الإثيوبية عبر مراحلها المختلفة، منذ عهد الإمبراطورية وحتى فترة حكم الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية (EPRDF) . 
يشير الكاتب إلى أن هذه الصورة تتشكل من خلال عمليات التنميط ونزع الشرعية والإقصاء، بحيث لا يُستبعد الأفراد أو الجماعات من مؤسسات الدولة فقط، بل يُجردون كذلك من الانتماء إلى مفهوم "الإثيوبية" ذاته. بهذا المعنى، تصبح الحرب عملية تبدأ قبل اندلاع القتال الفعلي، حين يتم إقصاء جماعة ما من هوية الأمة وتجريدها من شرعية الانتماء الوطني.
يؤكد ترونفول أن الحرب لا تقتصر على إنتاج الضحايا والمعارك، بل تتجاوز إلى أن "الحرب لا تُنتج فقط ضحايا ومعارك، بل تُعيد تعريف من هو إثيوبي ومن هو خائن"، في عبارة تلخص العمق السياسي لكتابه، حيث يكشف كيف تُوظف مفاهيم الهوية والانتماء كأدوات للضبط الاجتماعي وإحكام السيطرة على المجال السياسي. يتضح من خلال هذا التحليل، أن بناء صورة العدو ليس مجرد استجابة ظرفية للصراع، بل هو جزء من استراتيجية أوسع لإعادة تشكيل الهوية الوطنية وتثبيت السلطة عبر آليات الإقصاء وإعادة تعريف حدود الجماعة الوطنية.

الدولة منتِجة للهويات: تفكيك الأمة وبنائها

تكشف فصول الكتاب التي تحمل عناوين، مثل: "إعادة بناء الإثيوبية: قوميات متنافسة" و"إثيوبيا وسخطها: تطهير الأمة" عن أن الدولة الإثيوبية الحديثة لم تكتفِ بفرض نموذج أحادي للهوية الوطنية، بل واصلت، عبر أدواتها السياسية والخطابية، إعادة إنتاج مفهوم "الأمة" بشكل يقوم على التحيز الإثني. فعوضًا عن بلورة هوية إثيوبية جامعة، اتبعت الدولة نهجًا يكرّس الانقسامات، حيث تم توظيف سياسات الهوية لتحقيق أغراض سلطوية، أفضت إلى تهميش جماعات معينة، وتعزيز امتيازات أخرى، وفقًا لموقعها من مركز السلطة.


إن الحرب لا تقتصر على إنتاج الضحايا والمعارك، بل تتجاوز إلى أن "الحرب لا تُنتج فقط ضحايا ومعارك، بل تُعيد تعريف من هو إثيوبي ومن هو خائن"


يتجلى هذا بوضوح خلال حكم الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية، التي قدمت "الفيدرالية الإثنية" بكونها حلا ديمقراطيا لمعضلة التعدد القومي. غير أن هذه الصيغة، في الممارسة، لم تكن سوى وسيلة لإعادة ترسيخ الهيمنة المركزية -ممثلة آنذاك في نخبة تغراي- على حساب الهوامش. فقد تم تفتيت الجماعات القومية إلى وحدات سياسية متباينة، متنافسة فيما بينها، مما أضعف قدرتها على تشكيل مشروع وطني مشترك. في هذا السياق، تحوّلت الهوية إلى أداة لضبط المجال السياسي، وتحديد من يُمنَح حق الحديث باسم الأمة، ومن يُقصى من فضائها الرمزي والسياسي.
في الفصل الختامي المعنون بـ"ما بعد الكلمة: بعد الحرب، أعداء جدد"، يؤكد ترونفول أن نهاية النزاع العسكري لا تعني بالضرورة نهاية منطق صناعة العدو والحليف في إثيوبيا. بل يشير إلى أن السلطة السياسية تعتمد بشكل مستمر على آلية "تدوير العدو الداخلي"، بوصفها أداة لإبقاء المجتمع في حالة تعبئة دائمة، ولضمان شرعيتها من خلال التلويح المستمر بوجود تهديد.
يعزز هذا المنطق من استمرار حالة الاستثناء السياسية، ويمنع تشكل فضاء وطني مستقر ومتصالح مع ذاته. وبهذا، تتحول إثيوبيا - وفقًا لتحليل ترونفول - إلى ساحة متجددة لصراع هويات مُزمن، ليست ناتجة عن المجتمع فحسب، بل تؤججها الدولة نفسها عبر سياساتها الإقصائية.

نقد الخطاب الغربي وإعادة تأطير المسألة الإثيوبية

رغم أن الكاتب ينتمي إلى خلفية أكاديمية غربية، إلا أن عمله لا يعيد إنتاج النظرة الاستعمارية التي تصور أفريقيا كيانا مفككا ومتنازعا عليه إثنيًا. بدلاً من ذلك، يركز على تفكيك آليات السلطة داخل الدولة نفسها، متجنبًا التفسيرات التي تركز فقط على الصراعات الثقافية أو الإثنية. في تحليله، تُعرض إثيوبيا باعتبارها دولة تعيد إنتاج العنف من خلال أدوات بيروقراطية وخطابية منظمة، وليس فقط من خلال الصراعات الإثنية. 


نهاية النزاع العسكري لا تعني نهاية منطق صناعة العدو والحليف في إثيوبيا. بل يشير إلى أن السلطة السياسية تعتمد بشكل مستمر على آلية "تدوير العدو الداخلي"، بوصفها أداة لإبقاء المجتمع في حالة تعبئة دائمة


يتماشى هذا المنهج مع الأفكار ما بعد الكولونيالية التي ترى أن الدولة بعد الاستعمار ليست انفصالًا كاملاً عن آليات الهيمنة السابقة، بل استمرارا لها بوسائل جديدة. بهذا الشكل، يبتعد الكاتب عن النظرة السطحية التي تركز على الانقسامات الثقافية، ويقدم فهمًا أعمق للديناميات السياسية والاجتماعية في الدولة. بذلك يساهم العمل في نقد الاستعمار من خلال تحليل داخلي دقيق للسلطة والعنف في الدولة ما بعد الاستعمار.
في الختام، يثير كتاب ترونفول سؤالًا فلسفيًا وسياسيًا بالغ الأهمية: من هو الإثيوبي؟ وهل يمكن بناء دولة تتجاوز "هندسة الأعداء" إلى مشروع جامع للهوية؟ في ظل تعدد القوميات واللغات والتواريخ المتضاربة، هل من الممكن أن تُنتج "إثيوبية" جامعة، دون إقصاء أو تذويب؟ ربما لا يقدم الكاتب إجابة كافية وجازمة، لكنه يكشف أن استمرار منطق الحرب كآلية لبناء الأمة، محكوم عليه بالفشل. فما دامت الدولة تُعرّف نفسها من خلال نفي الآخر، ستظل الهوية ساحة قتال لا تنتهي.