الخميس 5 ديسمبر 2024
شهدت مسارح المعارك التي تدور في تسع ولايات سودانية متغيرات حادة، تجعل التفكير في أفق للحل صعبا، وفق التقديرات التي تم تبنيها من قبل الفاعليين الدوليين والمحليين، عند اندلاع الأزمة، أشرنا إلى أن المعارك المستمرة لن تتوقف، من دون حل يقف على أسس تخاطب واقع الحرب، بشكل مباشر. وتحمل المسؤولية كاملة من قبل الجهات التي ساهمت في تأزم وضع المواطن، فحتى لو أرادت مؤسسة الجيش الاتجاه إلى مساومة سياسية، تحقق سلام في السودان، فإن المواطن الذي وقعت عليه الكثير من المظالم والمجازر والانتهاكات، لن يقف ليخاطب الجيش مصيره، خصوصا تلك الكيانات التي تعرضت لمجازر وجرائم كبيرة أو تلك التي يتوعدها الدعم السريع بالفناء.
هنا لا نعني بأن الحرب قد أخذت بعد اثنيا، لأن تعقيد الواقع لا يوفر لنا إمكانية هذا الفصل الحساس والدقيق، ولا يمكن أن نقول بأن هناك حرباً أهلية تدور في السودان، لأن الصراع الذي يتم تسميته حالياً بأنه "صراع جنرالين" أو "حرب أهلية"، تفتقر هذه التوصيفات إلى بناء منهجي كافي لوضع هذه الحرب ضمن هذه التسمية، والسبب في ذلك يعود إلى أن الأزمة السياسية التاريخية للدولة السودانية مترابطة، ولا يمكن فصل طبيعة التركيب السياسي الاجتماعي للسودان والتحولات المناخية التي ساهمت في الهجرة والنزوح والأمن الغذائي، وأيضاً طبيعة الانتقال السياسي الذي حدث بعد عام 2018.
اتجهت الأزمة السياسية بعد سقوط البشير حاملة معها التناقضات الاقتصادية والسياسية إلى مفترق، حيث ساهمت التدخلات الخارجية إلى جانب ضعف القوى السياسية والقدرة والفاعلية السياسية للأطراف العسكرية، في بروز تناقض في المصالح السياسية بين الأطراف العسكرية، مع فشل الوصول إلى اتفاق سياسي، بعد المطبات التي دخلت فيها الفترة الانتقالية، وانتهى المطاف إلى حرب شرسة اندلعت في الخامس عشر من أبريل/ نيسان الماضي.
مع استمرار الحرب ،وانتقالها إلى ولايات ذات كثافة سكانية عالية، وإنتاج زراعي كبير، زاد عدد السكان النازحين بجانب توقف المشاريع الزراعية عن الإنتاج، مما جعل حوالي 25 مليون نسمة مهددين بنقص الغذاء، مع احتمال تداعي الولايات الآمنة، بسبب الضغط على الموارد والمرافق الصحية.
لا أفق للحل يمكن الحديث عنه، إلا أن الزيارات التي جاءت خلال الأسبوع الأول من يوليو/ تموز تشير إلى تقدم في الغرف المغلقة، بشأن انبلاج الحل، فقائد الجيش عبد الفتاح البرهان لا يزال يراهن على قدرة الجيش في الوصول إلى الحسم العسكري، فيما لا تزال قوات الدعم السريع تتقدم نحو الحدود الجنوبية، بعد توغلها في ولاية سنار، وسيطرتها على عاصمة الولاية "مدينة سنجة".
يحاول هذا المقال فحص إمكانية عقد تسوية سياسية، تفضي إلى حل للحرب بناء على المعطيات المطروحة حاليا، سواء المبادرات أو قدرة الأطراف الدولية على الضغط، وواقع الحرب على الأطراف العسكرية، ومدى إمكانية تحقيق تقدم عسكري، يفضي إلى تشكيل ضغط من أجل عقد تسوية سياسية. بطبيعة الحال، لا يمكن فصل مسار هذه التسوية التي تلوح في الأفق عن التسويات السياسية السابقة، خصوصا بعد اتفاق الوثيقة الدستورية والاتفاق الإطاري.
القارئ للتاريخ السياسي في السودان، يرى أن الاتفاقيات والمعاهدات التي وقعت من أجل إيقاف الحروب، سواء في الجنوب – دولة جنوب السودان – أو في دارفور وشرق السودان، يمكن أن يرى بأنها تتجاوز 500 وثيقة واتفاقية، فشلت في تحقيق قدر من الاستقرار، فلو نظرنا إلى أهم المعاهدات والاتفاقيات، مثل اتفاقية أديس أبابا 1972، قد انتهت إلى اندلاع جديد للحرب في عام 1983، وتواصل القتال بالرغم من توقيع بعض الاتفاقيات في 1991 وفي 1992، دون أن تنجح في وقف الحرب، بل عملت على تقسيم الحركة الشعبية إلى فصائل. بحلول عام 2005، وقعت اتفاقية السلام الشامل، لكن سرعان ما اشتعلت دارفور حيث بدأت شرارة الحرب في عام 2003، بالرغم من توقيع اتفاقية ابوجا في عام 2006. وحدث انقسام كبير في حركة تحرير السودان إلى فصائل، ثم جاءت اتفاقية الدوحة في عام 2010، لتشهد انقسامات فتيلية في الحركات المسلحة.
بعد انفصال الجنوب كمحصلة لاتفاق السلام الشامل، انطلقت الحرب في جبال النوبة وإقليم النيل الأزرق عام 2010، ما يدل على أن الاتفاقية لم تعمل على معالجة الآثار المترتبة على انفصال جنوب السودان، وبقية القضايا العالقة في الملف. نظرة سريعة على ما تم في دارفور يكشف أن الاتفاقيات التي توقع مع الحركات تعمل على انقسامات داخلية، بناء على المصالح السياسية والتكوين الاثني لهذه الحركات المسلحة. من جهة أخرى، عملت الحكومة، عام 2014، على تشكيل منصة الحوارات الوطني، حيث سعت حينها، وبقيادة الرئيس المعزول؛ عمر حسن أحمد البشير، إلى وضع شروط جديدة للمساومة السياسية، لكن هذه المساعي باءت بالفشل، وأرخت ظلال الانقسامات على النظام. وساهم تعنت المعارضة، وتشكيلها تحالفا جديدا أسس لوضعية سياسية مغايرة، أفضى إلى تشكل ما يعرف بمسار "الهبوط الناعم".
ظهر مسار الهبوط الناعم كعملية سياسية، تحكم العلاقة بين قوى النظام، بمعنى أن العملية السياسية ليست مصممة على أجندة تعمل على خلق مناخ يذهب إلى بناء رؤية سياسية بديلة وجديدة، وإنما كانت مجرد عملية ما بين النظام والقوى السياسية المعارضة له، من أجل تحسين الشروط السياسية التي يمكن من خلالها أن يتعامل المجتمع الدولي مع البشير، وفي ذلك يظهر الهبوط الناعم كجزء من سياسات الولايات المتحدة الأمريكية حيث ظهر المسار مع السفير برينستون ليمان (1935-2018)، والذي تم تعيينه بواسطة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما مبعوثاً خاصاً للسودان، ثم مبعوثاً خاصاً للسودان وجنوب السودان، ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى أن السيد ليمان كان أحد مهندسي اتفاق السلام الشامل بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان، والذي أفضى في النهاية إلى انفصال جنوب السودان كما أشرنا.
عمل السيد ليمان، خلال مسيرته المهنية، مديرا لوكالة المساعدات الأمريكية (USAID)، وسفيراً لبلاده في كل من نيجريا (1985- 1989) وجنوب افريقيا (1992- 1992)، وهي المسيرة التي مكنته من تطوير نظريته في السياسة الخارجية القائلة: بجمع جميع الأطراف في أقصى طرفي النقيض، عبر جعلهم يرون الفوائد التي يمكن أن تقدمها لهم الحكومة الأمريكية.
دعت القوى السياسية عقب مؤتمر باريس، في يوليو/ تموز 2016، إلى الحوار مع نظام البشير، مرة أخرى، عبر آلية إفريقية رفيعة المستوى، واستمرت في تلك المساعي حتى قبيل عزل البشير. ونلاحظ أنها رفضت الحوار الوطني، ووافقت على التفاوض من خلال وسيط خارجي، ما جعل مسار التسويات السياسية رهين حسابات القوى الخارجية بدل المصالح الداخلية، وهو ما حدث في اتفاق الوثيقة الدستورية (2019) بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير.
مع سقوط النظام، تشكلت قوى إعلان الحرية والتغيير من ركام القوى السياسية التي عارضت البشير، وأصبحت فاعلة بعد عام 2013، وما يلاحظ أن القوى السياسية بدأت بعده بالانفصال عن قواعدها الحزبية، بحيث تحولت المنظومات السياسية إلى أجسام فوقية، لا ترتبط مع القواعد الاجتماعية، وهو ما اتضح من خلال توقيع القوى السياسية على اتفاق الوثيقة الدستورية الذي تحولت إلى تقسيم للسلطة والثروة بين الأطراف السياسية دون مراعاة للشروط الجديدة، ونلاحظ أن حركات دارفور المسلحة قد تم استبعادها من اتفاق الوثيقة الدستورية، ليأتي اتفاق سلام جوبا في 2020.
لم يعالج اتفاق جوبا للسلام الإشكالات التي وقعت فيها الوثيقة الدستورية، التي صيغت بنوده بناء على رؤية الحركات المسلحة في دارفور، مع إدخال فكرة المسارات التي قسمت القضايا إلى مناطق وأقاليم، فأصبح التمثيل المناطقي بدلا عن القضايا والأجندات التي تخص عموم أهل السودان، هو الحاكم للفترة الانتقالية، بعد عام 2020. ما جعل القوى السياسية – إعلان الحرية و التغيير – تعرق العديد من الملفات، مع انقسامات سياسية حادة بين الدعم السريع والجيش، فيما يخص الترتيبات الأمنية. وجاء مطلب توسيع قاعدة المشاركة السياسية كمطلب أساسي، اختلفت على إثره القوى السياسية الموقعة على الوثيقة الدستورية والحركات المسلحة، ما أدى إلى تعطيل الفترة الانتقالية التي انتهت بانقلاب – إجراءات 25 أكتوبر – الذي قام به البرهان في عام 2021.
مما سبق يتضح أن التسويات السياسية في السودان والاتفاقات السياسية والعسكرية جميعها تنتهي بالفشل، إما بسبب الطموح السياسي للأطراف الموقعة على هذه الاتفاقيات أو نتيجة تناقض المصالح الداخلية للسودان مع الأطراف الدوليين. إضافة إلى عدم جدية الأطراف السياسية وغياب المسؤولية الوطنية اتجاه الظروف والأوضاع التي يعيشها السودان والسودانيين. وربما يكون التدخل المباشر من قبل الأطراف الدوليين هو المهم، مقارنة ببقية العوامل التي أثرت على مسار التسويات السياسية.
تتواصل الحرب في السودان في ظل أزمة وكارثة إنسانية، مع تهديد حوالي 25 مليون مواطن بالجوع، وأكثر من19 مليون طفل مهددين بنقص الغذاء وفقدان التعليم، مع نزوح حوالي 11 مليون شخص، وانهيار في البنى التحتية، وخروج عدد من الولايات عن سلطة الدولة المركزية. ومع ذلك، يبحث الجميع عن مخرج للوصول إلى تسوية، تعمل على إنهاء الحرب، وإطلاق مرحلة جديدة من عمر الفترة الانتقالية.
من الملاحظ أن الخطاب السياسي للحرب والذي صدرته قوات الدعم السريع، قد أحدث شرخا اجتماعيا بسبب الجرائم التي ارتكبت في حق مجتمعات وتكوينات اثنية في دارفور، بالإضافة إلى الاعتداءات التي وقعت من قبل هذه القوات، بشكل مباشر، ما يعقد الوصول إلى تسوية سياسية، ما لم تضمن حقوق الضحايا في أي تسوية.
بما أن الوضع قد تجاوز شروط الفترة الانتقالية، فإن الأطراف السياسية لا تزال تتعامل بذات المبدأ، سواء تلك التي كانت جزءا من الفترة الانتقالية أو التي عارضت الوضعية، ما يجعل اختزال المسار السياسي بين أطراف بعينها، مع نسيان تام للمواطنين الذين وقعت عليهم الجرائم، بشكل مباشر من هذه الحرب. كما أن تصوير الحرب كنتيجة تقع مسؤوليتها على فئة محددة، وتحويل هذا التصور إلى حقيقة سياسية، بنيت عليها مسارات عمل ووثائق.
إن الاختزال الذي تقدمه القوى السياسية لمصير المواطن السوداني، وجعل مساراتها بعيدة عن معاناته، سينعكس على رفض قاطع وواسع لجميع الخيارات السياسية، وسيؤدي بطبيعة الحال إلى ظهور تقسيمات مختلفة، قد تؤدي إلى تمرد مجموعات سكانية أو فئات اجتماعية، مثل الشباب، طالما أن القيادات العسكرية والسياسية تعمل على بناء مسار للتسوية، بعيدا عن الشروط الاجتماعية والاقتصادية للحرب.
لم تلب الوثائق والمعاهدات والإعلانات السياسية المطالب التي أفرزها واقع الحرب، فنجد أن جدة فشل في إيصال المساعدات الإنسانية، وحماية المدنيين لعدم الالتزام ببنود الاتفاق. كما أن تمسك القيادة العسكرية للجيش بها دون مراجعة أو تحيين لبنودها، بناء على المستجدات الميدانية والانتهاكات التي تحدث للمواطنين. من جانبها، تحصر القوى السياسية رؤيتها في موقف خاص، دون أن تعبر عن مصالح المواطنين السودانيين، فقد وقعت إعلان أديس أبابا مع قوات الدعم السريع، بلا أي ضمانات من أجل إيقاف الانتهاكات التي تقع على المواطنين.
بالنظر إلى المبادرات المدنية، والتي رصدنا منها حوالي 15 مبادرة، لا توجد آليات فعلية من أجل إيقاف الحرب، بشكل واضح وصريح، بل تخاطب الوضع السياسي، وفق شروط الفترة الانتقالية السابقة، مما يعصف بجدية هذه المبادرات في التوصل إلى حلول، تطرح على الأطراف والمجتمع الدولي من أجل المساعدة، في بناء مسار إنهاء الحرب والوصول إلى تسوية سياسية.
إن الأزمة الإنسانية التي تواجه السودانيين في الداخل، وفي معسكرات النزوح، لا يمكن أن تكون مدخلا للحل، في ظل وجود مسببات جعلت منهم ضحايا للجرائم التي ارتكبتها قوات الدعم السريع في حقهم. فلا يمكن أن يتسامح المواطن مع قاتله ومغتصبه، ما يجعل محادثات الحكومة غير المباشرة في جنيف، المفترض انطلاقها في منتصف يوليو/ تموز الحالي، بلا جدوى. خصوصا، وأن الحكومة لن تسمح للدعم السريع بإدخال مساعدات بالتنسيق المباشر معها إلا عبر المؤسسات الحكومية، وهو ما اتضح في موقف وزارة الخارجية التي أوكلت الملف إلى مفوضية العون الإنساني.
أخيراً، لا يوجد أفق لتسوية سياسية قد تحدث، والسبب لما كشفناه في السطور السابقة، حيث تنتهي دائما الاتفاقيات والمعاهدات الموقعة بين الأطراف العسكرية إلى أحداث جديدة، وهو ما كان طوال التاريخ الوطني للسودان. فضلا عن أن الحرب الحالية ليست حربا عادية، يمكن أن تكون امتدادا للحروب السابقة، بل هي حرب شهدت كوارث على المواطنين. لذلك من الصعب تجاوز الدعم السريع، كطرف في أي عملية سياسية أو تسوية، بجانب القوى السياسية الهشة التي لا تمتلك أي أوراق ضغط، من أجل طرح مبادرة سلام. كما يوجد الفاعل الخارجي (الدولي) الذي تتضارب مصالحه اتجاه السودان، فالإمارات تعمل وفق استراتيجية، والسعودية تلعب دورها بناء على رؤيتها، بجانب ذلك تبدو الولايات المتحدة غارقة في وحلها، وتتخذ سياسة سلبية اتجاه السودان.