تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

السبت 15 مارس 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
ثقافة

هل كان الصومال يوما جزءا من الحبشة؟

22 فبراير, 2025
الصورة
Abysinia
Share

لطالما ارتبطت صورة القرن الأفريقي في الذاكرة العربية والإسلامية بمفهوم "الحبشة"، حيث شاع الاعتقاد بأن جميع سكان هذه المنطقة ينتمون إلى كيان سياسي وثقافي واحد. غير أن هذا التصور يتجاهل التعقيدات التاريخية التي تميّز بها الإقليم، فالباحثون في التاريخ القديم يتفقون على أن هذه المنطقة شهدت، منذ فجر التاريخ، حضارات متمايزة. من أبرز هذه الحضارات مملكة بونت، التي قامت في السواحل الصومالية، ومملكة أكسوم، التي تأسست في شمال القرن الإفريقي، فيما يعرف اليوم بإريتريا وأجزاء من إثيوبيا.
لكن الخلط الذي وقع فيه المؤرخون العرب، والذي ورثه بعض مؤرخي الغرب، أدى إلى تعميم مسمى "الحبشة" على كافة الشعوب المنحدرة من القرن الأفريقي، مما أسهم في تشويه الحقائق التاريخية. وقد أدى هذا التبسيط المخل إلى ترسيخ اعتقاد خاطئ في الأذهان، مفاده أن الصومال كان جزءًا من الحبشة، رغم أن الحقائق التاريخية واللغوية والثقافية تؤكد بوضوح استقلاله عن أي كيان حبشي أو أكسومي.
يُعد الصومال من الناحية التاريخية، من أقدم مراكز الحضارات في أفريقيا، إذ تشير الدراسات إلى نشوء أولى حضاراته قبل نحو تسعة آلاف عام قبل الميلاد. وحملت هذه الحضارات أسماء عديدة عبر التاريخ، مثل: "بلاد البنط " و"أرض الآلهة" و"البرابر" و"الماكروبيون" و"بلاد زيلع"، مما يعكس عمقها الحضاري، ومكانتها التجارية والدينية في العصور القديمة. 


لكن الخلط الذي وقع فيه المؤرخون العرب، والذي ورثه بعض مؤرخي الغرب، أدى إلى تعميم مسمى "الحبشة" على كافة الشعوب المنحدرة من القرن الأفريقي، مما أسهم في تشويه الحقائق التاريخية.


كانت مملكة بونت من أبرز تلك الممالك الصومالية التي ازدهرت في القرن الأفريقي، حيث اشتهرت بتجارتها الغنية مع مصر القديمة، خاصة في البخور والعاج والذهب. وقد وثّقت البعثات الفرعونية، مثل: رحلة الملكة حتشبسوت (1458 – 1508) العلاقات التجارية المزدهرة بين مصر ومملكة بونت، مما جعلها رمزًا للثراء والروحانية في الموروث المصري.
إلى جانب مملكة بونت، برز المكروبيون خلال الألفية الأولى قبل الميلاد، بوصفهم مملكة قوية، تميز شعبها بطول العمر والجمال الفائق. وفقًا للمؤرخ اليوناني هيرودوت، فقد رفضوا الخضوع للإمبراطورية الفارسية، وأظهروا تفوقهم العسكري، مما عزز أسطورتهم في التاريخ القديم. 
هذا ما تؤكد الاكتشافات الأثرية، حيث تم العثور على فخار فارسي ويوناني في شمال الصومال، وعلى وجه التحديد حول مدينتي بربرة وزيلع. كما يُقال إن مملكة المكروبية كانت تقع بالقرب من الساحل الشمالي للصومال.
أما البرابر الشرقيون، الذين استوطنوا الجزء الشمالي الشرقي من شبه الجزيرة الصومالية، فقد تميزوا بتقاليدهم التجارية والثقافية المختلفة، واشتهروا بخيولهم القوية، وتفاعلهم المبكر مع الإسلام.
بالعودة إلى اسم "الصومال" نجده قد ارتبط بعدة تفسيرات تاريخية، فبينما يرى البعض أنه مشتق من عبارة تعني "اذهب واحلب"، في إشارة إلى ثقافة الكرم التي تميّز المجتمع الصومالي، يرجّح آخرون أنه يعود إلى "سمالي"، الجد الأكبر للصوماليين، مما يعكس أبعادًا قبلية في نشأة التسمية.
رغم أن هذا الاسم لم يكن شائعًا في الأزمنة القديمة، إلا أنه بدأ بالظهور بشكل متزايد في العصور الوسطى، حيث ورد في أكثر من موضع في كتاب "ثلاثة أزهار في علاقة البحار" لابن ماجد (توفي 913هـ/1506م). كما ظهر على الخرائط العربية التي توثّق البحر الأحمر والمحيط الهندي. وقد أشار ابن ماجد في كتابه "الفوائد في أصول علم البحر والقواعد"، إلى القبائل الصومالية التي استوطنت السواحل الأفريقية المطلة على المحيط الهندي، مؤكدًا دورها المحوري في التجارة البحرية. مع مرور الزمن، أصبح اسم "الصومال" مرادفًا لموقع استراتيجي بارز في القرن الإفريقي، حيث لعب دورًا أساسيًا في التجارة والثقافة الإسلامية.
أما الحديث عن الحبشة، فيقود إلى جذور تاريخية تعود إلى قبيلة "حبشت" السامية، التي يُعتقد أنها هاجرت من جنوب الجزيرة العربية (جنوب اليمن) إلى السواحل الأفريقية، خاصة في المناطق التي تُعرف اليوم بإريتريا. ووفقا لبعض المؤرخين، فقد حدثت هذه الهجرة بين القرنين العاشر والسابع قبل الميلاد، وكان لها تأثير كبير في تشكيل الهوية التاريخية للحبشة. ومع ذلك، تبقى الحضارة الحبشية حديثة نسبيًا مقارنة بالحضارة الصومالية، التي سبقتها بآلاف السنين، وتميزت بتطورها الاقتصادي والتجاري.


مع مرور الزمن، أصبح اسم "الصومال" مرادفًا لموقع استراتيجي بارز في القرن الإفريقي، حيث لعب دورًا أساسيًا في التجارة والثقافة الإسلامية.


اعتمدت الحبشة في ذلك الوقت، بشكل رئيسي، على الزراعة، بينما برع الصوماليون في بناء شبكة تجارية متقدمة، جعلت بلادهم مركزًا استراتيجيًا للتجارة بين أفريقيا وآسيا. وتشير بعض المصادر إلى أن الصوماليين لعبوا دورًا في نشأة مملكة أكسوم، إحدى أقدم الممالك الحبشية، حيث يُقال إن مؤسسها كان شديس، أحد أبناء هيل أبرون، الذي يُعتبر من أجداد الصوماليين. 
تفيد روايات أخرى بأن بعض القبائل الصومالية كان لها تأثير في تشكيل ملامح المملكة سياسيًا وثقافيًا، قبل أن تقع تحت سيطرة الأسرة السليمانية، التي أعادت توجيه مسارها التاريخي. وقد تعاقب على حكم أكسوم أحد عشر ملكًا من هذه الأسرة، كان أشهرهم "لالبلابا" في القرن الثاني عشر، حتى انتهى حكمهم بوفاته. وفي عام 1255، استعاد إيفون عملق، ملك شوا، العرش لصالح سلالة منليك الأول، التي حكمت الحبشة لقرون لاحقة.
والحقيقة التاريخية للمنطقة أن شهرة الحبشة تزامنت تاريخيًا مع هجرة الصحابة إلى القرن الأفريقي، حيث رحب بهم النجاشي الذي كان ملمًا بالتوراة، واهتم بالبعثة المحمدية، ليصبح بذلك أول من استضاف الإسلام خارج الجزيرة العربية. هذا الترحيب أضفى على الحبشة سمعة واسعة في التاريخ الإسلامي، ونتج عن ذلك تسميات متعددة في كتب المؤرخين عبر العصور.
هكذا يظهر أن الصومال لم يكن يومًا جزءًا من الحبشة، بل شكّل كيانًا مستقلاً بحضارته وثقافته وتاريخه. غير أن الإطار المفاهيمي الذي اعتمده بعض المؤرخين، سواء العرب أو الغربيين، أدى إلى طمس هذه الحقائق أو الخلط بينها وبين الروايات الحبشية. ما يعني أن إعادة قراءة التاريخ بمنهج نقدي، تكشف مدى اتساع الفجوة بين التصورات الشائعة والحقائق التاريخية حول هوية الصومال.
أما اسم "إثيوبيا"، الذي حلَّ محل "الحبشة"، فيعود وفقًا لبعض المؤرخين إلى أسطورة حبشية تدّعي أن النبي نوح أنجب "حام"، الذي أنجب “كوش”، ومن نسله جاء "إثيوبيا". غير أن المصادر التاريخية تشير إلى أن الاسم أصله يوناني، مشتق من كلمتي "آيثيو"، التي تعني "احتراق" أو "حرق"، و"أوبس"، التي تعني "الوجه" أو "البشرة". 
يذهب بعض الباحثين إلى أن الإغريق استخدموا هذا المصطلح لوصف الشعوب التي تعيش جنوب مصر، بل توسّعوا في إطلاقه على جميع سكان أفريقيا جنوب الصحراء وأعالي النيل، بسبب بشرتهم الداكنة. وقد ظهر هذا الاسم في الأدب الكلاسيكي، لا سيما في أعمال هوميروس، للدلالة على تلك الشعوب.
تعددت الكتابات القديمة وتنوعت، مما رسخ في ذهن البعض أن اسم "إثيوبيا" كان يشمل مناطق واسعة، مثل مصر والسودان وبلاد العرب وفلسطين والهند، وخصوصًا الشعوب التي كانت تسكن وادي النيل، سواء في شماله أو جنوبه. كما أصبح اسم "إثيوبيا" شائعًا بعد أن اعتمده الإمبراطور منليك الثاني في القرن التاسع عشر، إثر انتصاراته على النوبة. وكان قد استلهم هذا اللقب من الملك عيزانا، الذي لقب نفسه بـ “ملك ملوك إثيوبيا” بعد فتوحات مملكة أكسوم.
يُثير هذا التساؤل حول سبب تمسّك الحبشة باسم "إثيوبيا"، الذي كان يُستخدم تاريخيًا لوصف أصحاب البشرة السوداء بشكل عام، وربما كان الهدف من ذلك ترسيخ صورة الدولة المسيحية في المنطقة، باعتبارها كيانًا ذا تاريخ عريق. وقد يكون هذا الاختيار جزءًا من طموحات الحبشة التوسعية، التي سعت من خلالها إلى بسط سيطرتها على الشعوب المجاورة، مستفيدةً من الدعم الذي وفرته لها القوى الاستعمارية الغربية، لا سيما البرتغاليون.


يظهر أن الصومال لم يكن يومًا جزءًا من الحبشة، بل شكّل كيانًا مستقلاً بحضارته وثقافته وتاريخه. غير أن الإطار المفاهيمي الذي اعتمده بعض المؤرخين، سواء العرب أو الغربيين، أدى إلى طمس هذه الحقائق أو الخلط بينها وبين الروايات الحبشية.


مع حلول القرن التاسع عشر، شرعت إثيوبيا في التوسع على حساب أراضي الصوماليين، والأورومو والعفر. قبل هذا التوسع، كانت إثيوبيا مقسمة سياسيًا إلى ثلاث ولايات رئيسية، لكل منها طابعها السياسي والديني الخاص.
في الشمال، برزت ولاية تقراي كأقوى الكيانات السياسية، حيث شكّلت مركزًا للسلطة ومعقلًا للمسيحية في منطقة القرن الأفريقي. وكانت هذه الولاية نقطة انطلاق رئيسية للحملات العسكرية ضد المسلمين خلال الحروب التاريخية بين الجانبين. إلا أن المشهد السياسي تغيّر مع أواخر القرن التاسع عشر، حيث انتقلت السلطة إلى الأمهرة، عقب مصرع الملك يوهانس في معركة القلابات أثناء قتاله ضد قوات الخليفة عبد الله التعايشي، خليفة المهدي السوداني. وقد حظي الأمهرة بدعم القوى الاستعمارية، ما عزّز هيمنتهم السياسية في إثيوبيا. وكانت مدينة أكسوم العاصمة التاريخية لهذه الولاية.
أما ولاية أمهرا، التي عُرفت أيضًا باسم "الأرض الحمراء"، فقد اكتسبت شهرتها من مقاومتها الشرسة للمسلمين، خلال ما عُرف بحروب الاسترداد، ليس فقط في القرن الأفريقي، ولكن أيضًا في مناطق أخرى مثل: الأندلس والقوقاز والقدس والهند. وكانت مدينة قوندر مركزها السياسي والثقافي.
وشهدت ولاية قوجام سيطرة الإمبراطور هيلا سيلاسي، الذي تمكّن من إحكام قبضته عليها بعد الإطاحة بحاكمها. واتخذت الولاية من مدينة جوندر عاصمة لها، وكانت تُعرف بمكانتها الدينية، وتأثيرها في المشهد السياسي الإثيوبي.
إن الادعاء بأن الصومال كان يومًا جزءًا من الحبشة طرح يعكس قراءة انتقائية للتاريخ، غالبًا ما تستند إلى الروايات الإثيوبية الرسمية أو التأريخ الاستشراقي الذي تعامل مع القرن الأفريقي كوحدة سياسية واحدة تحت الهيمنة الحبشية. غير أن هذه السردية تتجاهل حقيقة أن الصوماليين لم يكونوا في أي مرحلة من التاريخ جزءًا من كيان سياسي حبشي موحّد، بل كانوا دومًا أصحاب كيان مستقل بثقافتهم الخاصة، ونظمهم الاجتماعية والسياسية التي قامت على القبائل والتحالفات المستقلة. إن أي وجود إثيوبي في الأراضي الصومالية، كما حدث في الأوغادين، لم يكن إلا احتلالًا عسكريًا، وليس اندماجًا سياسيًا أو حضاريًا.
هذا، وتؤكد الدراسات التاريخية الحديثة التي تعتمد على المصادر المحلية والشهادات الصومالية، بدلًا من السرديات الأجنبية المنحازة، على أن العلاقة بين الصوماليين والأحباش كانت علاقة صراع ديني وثقافي حدودي وتنافس على الموارد، وليس علاقة خضوع أو انتماء مشترك. فالحبشة باعتبارها دولة مسيحية تاريخيًا، والصومال بوصفه أمة إسلامية ذات امتداد عربي وأفريقي، نشأ كل منهما في سياق مختلف تمامًا. وإذا كان هناك أي تداخل جغرافي، فقد كان نتيجة للغزو الإثيوبي المدعوم من القوى الاستعمارية، وليس دلالة على وحدة سياسية تاريخية.
لكل ذلك، فإن الاعتقاد بأن الصومال كان جزءًا من الحبشة يعكس سوء فهم عميق لتركيبة القرن الأفريقي التاريخية، وينبغي تصحيحه وبمراجعة موضوعية للحقائق التاريخية بعيدا عن التصورات النمطية.