تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 23 يناير 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
فكر

هل انتهت الحروب الصليبية؟                                           

4 ديسمبر, 2024
الصورة
طرابلس
كونت طرابلس يقبل استسلام مدينة صور عام 1124، 1840 (زيت على قماش) (تصوير آرت إيمجز عبر غيتي إيماجز)
Share

أصيب العالم الإسلامي بالصدمة، حين تحدث جورج بوش الابن عن الحرب الصليبية في سياق إعلانه عن بدء انطلاق "الحرب على الإرهاب" عشية هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر2001. انشغل البعض بالتبرير والقول إنها مجرد زلة لسان، وأن رئيس الدولة الأهم كان منفعلاً، ولم يقدِّر حساسية العبارة لدى كثير من شعوب العالم، التي لا تفهمها إلا في إطار الحرب الدينية على المسلمين.

تم امتصاص الصدمة بعد أن نجحت المبررات، التي ساقها مدافعون عن الرؤية الغربية، في أن توحي بأن العبارة فقدت مدلولاتها الدينية، وصارت تستخدم في سياق الإشارة للسعي والكفاح. تم تشبيه الكلمة آنذاك بكلمة "الجهاد"، التي تعني عند المسلمين الحرب على الكفار، لكن التي يمكن فهمها أيضاً في إطار التعبير عن بذل أي جهد.  

في تلك الأيام، التي بدت فيها الولايات المتحدة كثور هائج مستعد للانقضاض على أي أحد، وإلى خوض معركة في أي مكان، لم يكن متاحاً للدول وللجماعات، التي سارعت لإعلان موالاتها حتى لا تتهم بالتعاطف مع "الإرهاب"، الحق في إبداء أي اعتراض. كان على الجميع الانخراط في حرب هلامية الملامح لأن "من ليس معنا هو ضدنا" وفق تعبير جورج بوش.

يفسر هذا لماذا كان الاعتراض السياسي الأبرز هو ما قدمه قساوسة ورجال دين مسيحيون على رأسهم بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني، الذي كان عبّر عن انتقاده وخشيته من أن تقود مثل هذه العبارات لإشعال حرب دينية بين المسلمين والمسيحيين.

انتبهنا لاحقاً إلى أن تعبير "الحرب الصليبية" حاضر وواسع الانتشار في كتابات المثقفين، وفي كلمات السياسيين. على سبيل المثال كان الصحافي الفرنسي سيرجي هاليمي قد وصف عهد الرئيس الأمريكي جو بايدن في البدايات بأنه سيكون عهد "الحرب الصليبية من أجل الديمقراطية".

هناك إصرار لا يخفى، في العالم الغربي، على استخدام هذا المصطلح، وذلك بالرغم مما تواجهه محاولات فصله عن إسقاطاته الدينية من صعوبات. إبان السباق الانتخابي الأمريكي الأخير، طلبت لوران بوبير، عضوة الكونغرس عن ولاية كلورادو، والسياسية المتحمسة لترامب خلال إحدى خطبها أن يتم التعامل مع المعركة الانتخابية بكونها حربا صليبية، بالمعنى المعنوي، أو بالمعنى المادي المتعلق بالمدافعة ضد انتصار الديمقراطيين، الذين كانت تصفهم، هي وآخرون في حملة ترامب بـ "غير المؤمنين"، الذين يريدون أن يحرفوا البلاد عن تدينها.

هذه مجرد أمثلة، ولكن يمكن العثور على غيرها في الكتابات الصحافية والسياسية الغربية. هذا أمر لا يخلو من تناقض بلا شك، ففيما يحدثنا ذلك العالم الأول عن تجاوز الزمن الديني وعن العلمانية، التي لا مكان فيها للمقدس، وفيما يدفعنا باسم الحداثة والتنوير لتبني ثورة على تصوراتنا الدينية البالية بنظره، إذا به يعود ليثبت أنه لم يتخلى بعد عن تصوراته وتقييماته.

مشهد آخر لا يخلو من درامية، لدرجة أن البعض كانوا يشككون في مصداقيته، هو مشهد القائد الفرنسي هنري غورو، الذي قال إبان دخوله دمشق غازياً في يوليو/تموز من العام 1920، وهو بقرب قبر صلاح الدين الأيوبي: "استيقظ يا صلاح الدين. لقد عدنا وعودتنا تؤكد انتصار الصليب على الهلال".

عملية غزو العراق كانت دعايتها تؤكد أنها مجرد حرب وقائية للحد من خطر البلد، الذي كان يستعد لاستخدام أسلحة دمار شامل. هذه العملية لم تكن لتنفصل عن المبررات الدينية، بل إن أغلب الباحثين الأمريكيين والغربيين اتفقوا على أن أفكار اليمين الإنجيلي كانت الأساس، الذي دفع لخوضها ضد بلد عربي مسلم لا يمكنه، حتى وإن أراد، أن يمثل تهديداً للولايات المتحدة.

تعرض الحديث عن حرب دينية صليبية، خاصة فيما يتعلق بغزو العراق وأفغانستان لانتقاد كبير. اليوم، وبعد عقدين على تلك الأحداث، لم يعد بالإمكان إنكار أن تلك الحروب كانت لها أبعاد أكثر عمقاً، بكثير مما كانت القراءات المادية حول موارد الطاقة وغيرها تقدمه مسوغا للدخول في صراع كان مدمراً للبلدين بقدر ما كان مكلفاً للغرب.

تصريح غورو، ابن الثورة الفرنسية التنويرية، عن الحرب الصليبية كان أيضاً ملفتاً. كان يفترض أن يكون هدف دخول منطقة الشام، في هذه المرة، مختلفا عن محاولات دخولها في عصور الصراع الديني والدول الدينية. كلمات غورو ستظل غريبة لمن اقتنع بأن الغرب، وخاصة فرنسا، قد تجاوز بالفعل المنطلقات الدينية، وصار مكتمل المادية ومحايداً إزاء كل المعتقدات. الوثائق التاريخية تخبرنا أن غورو كان يرى نفسه جندياً مسيحياً صليبياً، وأن هذا الدافع، الحرب ضد الهلال، كان مما يشحذ همة المقاتلين أكثر بكثير مما تشحذه العبارات السائلة، التي تتحدث عن الحق والأخوة والإنسانية.

لسوء حظ المقتنعين بالتحايل الغربي، فإن كل شيء يذكرنا بأن طريقة التعامل الصليبية القديمة مع المنطقة لم تتغير فهم يستعيدون الطرق ذاتها، التي سمحت لهم بالبقاء والسيطرة، إبان الفترات، التي استطاعوا فيها تطويق المنطقة. على رأس هذه المخططات مخطط الاستضعاف والتقسيم والإيحاء لكل مجموعة بأن من الممكن عقد حلف معها في مواجهة آخرين، هذا هو ما أثبت نجاحه في كل مرة تم فيها إسقاط القدس وهو ما نجح في الأندلس، وما ينجح الآن بشكل واضح في أكثر من مكان.

هكذا يمكن القول إن الجنرال غورو كان بشخصيتين، مثل جميع القادة الفرنسيين والغربيين، فهو من ناحية كان يحمل مشعل التنوير، ويحاول إقناع من يقابله بأن ما دفع بلاده للقدوم هو الرغبة في نشر الحداثة، وفي حماية المستضعفين، ومن ناحية أخرى كان هو ذلك الأوروبي الأبيض المتعصب، الذي كان يحدث أصحابه عن عدائه لصلاح الدين، وعن الهزيمة في معركة حطين.

يذكر هذا بفرنسا المعاصرة والمنقسمة هي الأخرى ما بين العلمانية المتشددة، وما بين محاولات إحياء الكاثوليكية وجعلها رمزاً للثقافة والسياسة. هذا التناقض هو ما يفسر سياسات استهداف الإسلام، الذي لا يعامل بعدالة ومساواة، حتى مع غيره من المعتقدات. جعل هذا باحثاً مثل أوليفيه روا يؤلف كتاباً بعنوان "هل أوروبا مسيحية؟". في ذلك الكتاب أبرز روا حجم التناقض الحالي في الخطاب الأوروبي/الفرنسي قائلاً إنه إما أن تكون علمانياً محايداً إزاء الأديان فعلاً، أو أن تكون مسيحياً. في الحالة الأخيرة، وفق روا، لن يكون هناك مبرر لعداء المسلمين، لأنهم يشاركونك أغلب القيم الدينية، خاصة تلك المتعلقة بالأخلاق والعائلة. المفارقة هي أن الأوروبيين، الذين يرى كثير منهم في الإسلام تهديدا ثقافياً، لا يمتثلون لهذه القيم "المسيحية"، بل أصبحت مفردة القيم الأوروبية مرتبطة بأمور أخرى كحقوق المثليين مثلاً.

ربما كان هذا يعني أن استعادة الخطاب الصليبي لا تتم إنطلاقاً من الإيمان بالمسيحية، بل من أجل خلق دوافع ولإقناع مزيد من المتحمسين، وهو ما تم فعله إبان الحملات الاستعمارية، وما قام به الصهاينة واليهود العلمانيون من أجل النجاح في تجنيد الملايين من أجل مشروعهم.

في مقال نشر مؤخراً في مجلة "إيكونومست" تحت عنوان "صليبي في البنتاغون" تحدثت المجلة عن بيتي هيغسيث، الذي اختاره ترامب لشغل منصب وزير الدفاع، وكيف أنه رجل معروف بأفكاره المتطرفة وسلوكه الغريب، الذي منه إيمانه بالحروب الصليبية لدرجة أنه جعل من رموزها وشوماً على جسده.

المزيد من الكاتب