تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

السبت 19 أبريل 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
كتب

هل المساعدات تقتل النمو في أفريقيا؟

2 مارس, 2025
الصورة
geeska cover
Share

يظل العطاء قيمة إنسانية رفيعة والحاجة إليه عميقة جدا في النفس البشرية من أجل الشعور بالرضى وقيمة الوجود، ليس هذا على الصعيد الفردي وحسب، بل وعلى الصعيد الأممي أيضا، لذلك تسعى الشعوب لمساعدة بعضها في الأزمات والكوارث حتى تخفف المعاناة عن إخوان الإنسانية، أنا من دارفور، وأعرف تماما معنى أن يعاني الإنسان، وأن يحتاج لإخوته في الإنسانية، وكان العالم سخياً معنا، أنفقت الملايين من الدولارات، وعملت عشرات المنظمات من أجل احتواء الكارثة، منذ عام 2003 حتى الآن. كانت بعض المنظمات تود أن تنشئ مشاريع تنموية ضخمة، إلا أنها واجهت العراقيل، فبعض الساسة هناك يطلبون المال من المنظمات حتى ينفذ المشروع؛ كي يتصرف في ميزانيته، وينسب الإنجاز إلى نفسه وحزبه، أو على المنظمة أن تنسى المشروع.

لم تستطع المساعدات أن تحسِّن الأوضاع بل كان الغلاء من الآثار الجانبية لوجود المنظمات لارتفاع أجور العاملين المحليين بها، وارتفع إيجار البيوت لاستئجار المنظمات لها بأموال ضخمة، وحين غادر اليوناميد أرض دارفور، ترك وراءه الكثير من السيارات والأثاث والمقرات، إلا أن حوادث النهب الكثيرة حالت دون الاستفادة منها، ولم يسلم حتى الشجر وطوب البنايات. فمثلا في وزارة الصحة حيث أعمل، كنا الأوفر حظاً، إلا أننا، وبعد عقدين من المساعدات السخية، لم ننشئ نظاما صحيا فعالا حتى الآن، رغم دعم الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية.

العثور على الإجابة

كنا نرى أن الحال يمكن أن يكون أفضل بكثير، ولكن للأسف كان ذلك مقلقا، كنا نتساءل كثيرا عن أثر الأنشطة التي نقوم بها، إن كانت هذه تجارة فلا شك في أنها خاسرة. يرى البعض أن المنظمات نفسها لا تريد أي تحسن في الوضع، لأن استمرارها من استمراره. والبعض الآخر يرى بأن الدول الغربية تريد أن تكون بلادنا في حاجة دائمة إليها، لتتدخل في القرارات السياسية، وتُملي إرادتها علينا؛ انطلاقا من المقولة الشائعة أن "من لا يملك قوته لا يملك قراره"، وأحيانا نرى أن الفساد هو المسؤول الأول، وهكذا تستمر الحيرة.

دخلت ذات يوم على زميل لي في مكتبه، فوجدته يقرأ كتابا علق بذاكرتي طويلا، بعنوان: "Dead Aid: Why Aid Is Not Working and How There Is a Better Way for Africa" من تأليف دامبيسا مويو، المولودة في زامبيا وخبيرة الاقتصاد العالمية، فقد سبق لها الاشتغال في البنك الدولي وغولدمان ساكس. أثار الكتاب جدلاً واسعًا عند صدوره عام 2009 بسبب موقفه الجريء ضد المساعدات التقليدية، ودعوته لتغيير شامل في النهج التنموي تجاه أفريقيا.

كانت بعض المنظمات تود أن تنشئ مشاريع تنموية ضخمة، إلا أنها واجهت العراقيل، فبعض الساسة هناك يطلبون المال من المنظمات حتى ينفذ المشروع؛ ويتصرف في الميزانية، وينسب الإنجاز إلى نفسه وحزبه، أو على المنظمة أن تنسى المشروع

تُناقش مويو في الكتاب كيف فشلت المساعدات الأجنبية التقليدية في أفريقيا في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية للقارة. كما تتناول تأثيرها على المدى الطويل، موضحة أن الاعتماد على الخارج غالبًا ما يؤدي إلى الفساد، وتقويض المؤسسات المحلية.

منطلقات دامبيسا

وصف الناس الكاتبة بأنها مثيرة للجدل، وأنها ضد المساعدات. لكنها صرحت بأنها لا تعترض على المساعدات الإنسانية في الكوارث أو الحروب والأحداث التي تحتاج تدخلا عاجلا، فهذا لا غنى عنه، وهو واجب أخلاقي علينا القيام به كمواطنين عالميين. لكنها تعترض على المساعدات الخيرية، وتلك التي تقدمها المؤسسات الدولية والدول الغربية للحكومات الأفريقية لأغراض تنموية وللقضاء على الفقر.

ترى دامبيسا استحالة تحقيق دولة للنمو الاقتصادي أو تقليل الفقر بالاعتماد على المساعدات. وتنطلق في أطروحتها من ثلاثة أهداف تعتقد أنها مجل توافق:

أولا؛ كلنا لا نريد لأفريقيا أن تعتمد على المساعدات إلى الأبد، ونريد للأفارقة أن يكونوا شركاء متساويين لهذه العالم، يحققون نموهم وينعشون اقتصادهم.

ثانيا؛ نريد للحكومات أن تقوم بدورها، فليس من المقبول أن يهتم الغربيون بأفريقيا أكثر من حكامها أنفسهم. نريد لحكام أفريقيا أن يكونوا متحفزين لفعل ما هو ضروري لبلدانهم، فليس من المعقول أن تريد حكومات غربية لأفريقيا النمو أما حكامها فلا.

ثالثا؛ لا بد من إصلاح الخلل الوظيفي للحكومات في أفريقيا، والذي حدث بفعل المساعدات الخارجية.

وأنا كشاهد على تجربة دارفور، أرى أن هذه الأهداف الثلاثة لا غبار عليها. أتذكر أننا في إحدى الاجتماعات مع المنظمات العاملة في الحقل الصحي، طرحنا زيادة الحوافز المالية للأطر العاملة في المراكز الصحية للنازحين. وحتى نبرر الزيادة ذكرنا أن بعض الأماكن خطرة، ولا بد من وضع ذلك في الاعتبار، فقالت مديرة المنظمة أن هؤلاء أهلكم وأنهم جاؤوا لمساعدتهم ويتعرضون لنفس المخاطر، وأخبرتنا بأنهم يقدمون حوافز تغطي بنودا محددة، وعلى الحكومة أن تزيد من أجور موظفيها. كما أتذكر الاضطراب الذي سببه لنا توقف بعض المنظمات عن العمل، لاعتمادنا الكلي عليها.

عن الأطروحة المركزية للكتاب

فشل المساعدات الأجنبية: تجادل مويو بأن المساعدات المقدمة إلى أفريقيا، منذ منتصف القرن العشرين، لم تسهم في تحسين الظروف الاقتصادية، بل أعاقت التطور الحقيقي. وتدعم الكاتبة أقوالها بأدلة تجريبية، مستعينة بالأرقام والإحصائيات، مثل: ارتفاع نسبة الفقر في أفريقيا من 11٪ إلى 66٪ بين عامي 1970 و1998، وهي ذات الفترة التي بلغ فيها تدفق المساعدات على القارة ذروته. ومن النتائج المترتبة على ذلك، تفشي معدلات الأمية، وارتفاع وفيات الرضع، وانخفاض متوسط العمر المتوقع إلى حوالي 60 عامًا، وهو الأدنى عالميًا.

تفشل المساعدات كذلك بالنتائج العكسية التي تفرزها، فعلى الرغم من أنها تهدف نظريًا إلى تعزيز الاقتصاد، إلا أنها في الواقع تخنق روح المبادرة. فحين تُغرق الأسواق بالمساعدات الغذائية، فهذا يعني انهيار الزراعة المحلية. وعندما تعتمد الحكومات على الدعم الخارجي، تفقد الحاجة إلى تطوير سياسات اقتصادية جريئة وجاذبة للاستثمارات. باختصار، تصبح الدولة أسيرةً لمنطق المساعدات، غير قادرةٍ على الفكاك منه.

الاعتماد على المساعدات: تؤكد أن الدول الأفريقية أصبحت تعتمد على المساعدات بشكل مزمن، مما أعاق استقلالها المالي والاقتصادي. تشير مويّو إلى أن المساعدات الخارجية تخلق بيئةً مشوّهة، حيث تستغني الحكومات عن تطوير أنظمةٍ ضريبية مستدامة، وتعتمد عوضا عن ذلك على الأموال القادمة من الخارج. وبدل أن تكون هذه الأموال دافعًا للاستثمار في البنى التحتية والتعليم والصحة، فإنها في كثير من الأحيان تجد طريقها إلى الحسابات المصرفية للنخب الحاكمة، مما يعمّق من فجوة الفقر والتفاوت الطبقي.

الفساد وسوء الإدارة: ترى مويو أن تدفق الأموال بشكل غير مشروط، يعزز الفساد بين النخب السياسية، ويفسد المؤسسات المحلية.

بدائل المساعدات: تقترح الكاتبة استراتيجيات بديلة لتعزيز التنمية الاقتصادية، مثل التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر وتطوير الأسواق المحلية والاستفادة من إصدار السندات الدولية

دروس من الدول النامية الأخرى: تستعرض تجارب ناجحة لدول نامية، مثل: الصين والهند التي اعتمدت على الابتكار والتجارة، بدلاً من البقاء أسيرة المساعدات الدولية.

وعندما تعتمد الحكومات على الدعم الخارجي، تفقد الحاجة إلى تطوير سياسات اقتصادية جريئة وجاذبة للاستثمارات. باختصار، تصبح الدولة أسيرةً لمنطق المساعدات، غير قادرةٍ على الفكاك منه

لا تكتفي مويّو بتشريح الداء، بل تطرح بدائل واضحة للخروج من هذه الدوامة، حيث تدعو إلى التحول من نموذج المساعدات إلى نموذج الاقتصاد القائم على التجارة والاستثمار، وذلك بالتركيز على الشراكات الاقتصادية الحقيقية، وجذب رؤوس الأموال، وتمكين القطاع الخاص. كما تشدد على أهمية تعزيز أنظمة الحوكمة والمحاسبة، بحيث تصبح الحكومات مسؤولةً أمام شعوبها، وليس أمام المانحين الدوليين.

ماذا لو أوقف العالم المساعدات؟

قدمت دامبيسا نقدا جريئا للمساعدات الأجنبية، ولكن ماذا لو توقفت المساعدات نهائيا؟ هل نحتمل ذلك، فمن واقع تجربتي إن ذلك سيحدث شرخا عظيما لو حدث من دون إصلاح حقيقي لهياكل الدولة والخدمات، هنالك نتائج، وإن كانت غير مرئية، فهل تدفعنا الصورة القاتمة التي رسمتها دامبيسا للتفكير في اتجاه آخر؟ أي كيف نجعل المساعدات أكثر فعالية، ففي عملنا في وزارة الصحة، ما كنا لنستقطب الأطباء إلى المناطق النائية لولا دعم المنظمات، فلم نكن نستطيع إجبارهم إداريا لفعل ذلك، لضعف رواتبنا التي لا يمثل إيقافها أي تهديد لموظفينا.

أحرزنا أيضا تقدما في بعض المشروعات بفضل المساعدات، مثل: إيقاف انتشار فيروس الإيدز، والقضاء على شلل الأطفال، حيث كنا جزءًا من المبادرة العالمية لاستئصال شلل الأطفال التي انطلقت عام 1988، فقد تم خفض عدد حالات الإصابة بنسبة 99٪، بفضل المساعدات الموجهة نحو التطعيم الجماعي.

كذلك نجاح برامج مثل مكافحة الملاريا في أفريقيا، حيث ساهمت المنظمات الدولية، مثل صندوق التمويل العالمي ومنظمة الصحة العالمية في خفض وفيات الملاريا بنسبة 50٪ في العديد من الدول الأفريقية، من خلال توفير الأسرة المعالجة بالمبيدات والأدوية، وتحسين أنظمة الرعاية الصحية.

تشير مويّو إلى أن المساعدات الخارجية تخلق بيئةً مشوّهة، حيث تستغني الحكومات عن تطوير أنظمةٍ ضريبية مستدامة، وتعتمد عوضا عن ذلك على الأموال القادمة من الخارج

لا تتعلق قصص النجاح بالحقل الصحي، فهنالك تجربة كوريا الجنوبية الناجحة في التعليم بفضل استثمارات البنك الدولي، ومن ثمرات تلك الثورة التعليمية شركات، مثل: سامسونج وهيونداي. كذلك برنامج الثورة الخضراء في الهند، بدعم من الولايات المتحدة والمنظمات الدولية، والتي ساعدت الهند على مكافحة المجاعات والوصول للاكتفاء الذاتي، وكبرنامج التحويلات المالية المباشرة في كينيا وغيرها من المشروعات الناجحة.

إن ما طرحته دامبيسا جدير بالاهتمام، ويضيء بعض الجوانب المعتمة، إلا أن الأمر يحتاج إلى نظرة أكثر شمولية عن إيقاف المساعدات، ويحتاج إلى النظر في البدائل التي قدمتها الكاتبة بل والنظر حتى في بدائل أكثر واقعية، مما جاء في كتاب المساعدات المميتة. ونحتاج إلى تغيير شامل في المجتمعات والحكومات، فليست المساعدات وحدها ما يمنع النمو في أفريقيا.