الاثنين 28 أبريل 2025
عاد التوتر والاحتقان السياسي ليشوب الأجواء في غينيا بيساو؛ الدولة الصغيرة ذات الأهمية الاستراتيجية بالنظر لموقعها الجغرافي وثرواتها الطبيعية غير المستغلة بالكامل، بعد تفجر أزمة سياسية حادة بين الرئيس الحالي عمر سيسوكو إمبالو وقوى المعارضة وهيئات المجتمع المدني، بسبب الاختلاف بين الطرفين حول تفسير الموعد القانوني لتنظيم الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
لم تكن الأزمة في بيساو شيئا جديدا، فالبلاد، منذ رحيل الاستعمار البرتغالي عام 1973، لا تزال تبحث عن بوصلة نحو الاستقرار. لقد شهدت خلال نصف قرن أربعة انقلابات ناجحة، آخرها عام 2012، ونحو 17 محاولة انقلابية، اثنان منهما خلال حكم الرئيس الحالي؛ إحداهما في نوفمبر/ تشرين الأول 2023، والأخرى في فبراير/ شباط 2022.
استغل الرئيس تلك وقائع المواجهة المسلحة (محاولة الانقلاب) لإحكام قبضة على السلطة في البلاد، فأقدم على إقالة جيرالدو مارتينز، رئيس الوزراء المنتخب من قبل البرلمان "المجلس الوطني الشعبي"، وإلغاء السلطة التشريعية بحل البرلمان الذي كان تحت سيطرة المعارضة، منذ نهاية 2023، ومنع أحزابها من التحرك في المشهد السياسي.
كان قرار الرئيس إمبالو تأجيل موعد الانتخابات القشة التي قصمت ظهر البعير، بعد تحديده تاريخ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025 موعدا للانتخابات الرئاسية والتشريعية، بدلا عن موعدها القانوني المحدد في 27 فبراير/ شباط الماضي، والذي يصادف، بحسب أحزاب المعارضة، الذكرى الخامسة لتنصيب الرئيس عام 2020، بعد نيله 54٪ من أصوات الناخبين ضد منافسه؛ رئيس الوزراء الأسبق دومينغوس سيموس بيريرا.
يُدافع الرئيس على سلامة قراره، على غرار قرار حل البرلمان مرتين؛ في 2023 و2022، وسنده في ذلك تفسير مختلِف لولايته الرئاسية، الذي يؤسسه على تأخر المحكمة العليا في إعلان فوزه حتى 4 سبتمبر/ أيلول 2020، ما يعني أن ولايته سوف تمتد حتى الذكرى السنوية لهذا التاريخ، مؤكدا أنه سيبقى في منصبه حتى إعلان نتائج الانتخابات وتنصيب الرئيس الفائز.
دخول المحكمة العليا على الخط زاد من حدة التوتر بشأن شرعية استمراره في السلطة، بعدما قضت في حكم لها، بتاريخ 5 فبراير/ شباط الماضي، بأن ولاية الرئيس تنتهي رسميا في 4 سبتمبر/ أيلول 2025. حكم أجج أحزاب المعارضة والمجتمع المدني الذين اعتبروا أن المحكمة مسيسة، وبلا شرعية منذ الاستقالة القسرية لرئيسها خوسيه بيدرو سامبو في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023.
لهذه الأسباب، تتمسك المعارضة بقيادة "الحزب الأفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر" (PAIGC) بضرورة رحيل الرئيس إمبالو، في 27 فبراير/ شباط 2025؛ تاريخ انتهاء ولايته المحددة دستوريا في خمس سنوات، وتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية في غضون 90 يوما، على أن يتولى إدارة الفترة الانتقالية رئيس انتقالي، حتى تنصيب الرئيس الجديد. كما شددت على ضرورة تجديد شرعية المؤسسات، وذلك بقيام البرلمان بتعيين أعضاء اللجنة الوطنية للانتخابات التي انتهت فعليا منذ شهر أبريل/ نيسان 2022، وانتخاب رئيس المحكمة الدستورية المنتهية ولايته.
يُدافع الرئيس على سلامة قراره، على غرار قرار حل البرلمان مرتين؛ في 2023 و2022، وسنده في ذلك تفسير مختلِف لولايته الرئاسية، الذي يؤسسه على تأخر المحكمة العليا في إعلان فوزه حتى 4 سبتمبر/ أيلول 2020
يزج هذا الاضطراب السياسي الذي يعزى إلى الاختلاف الوظيفي في الحكم في غينيا بيساو، التي اعتمدت النظام شبه الرئاسي منذ دستور 1993، لتعزيز الفصل بين السلطات، وذلك ردا على حكم الرئيس جواو برناردو فييرا الذي دام 19 عاما، وهو ما يبدو أن إمبالو إلى يطمح إلى استعادته، بالبلاد في دوامة من الأزمات على إقليميا وداخليا (الاقتصاد والأمن والاستقرار..).
قام تجمع الإيكواس الذي تعتبر غينيا بيساو أحد الأعضاء المؤسسين له، والذي تولى إمبالو رئاسته الدورية، ما بين 3 يوليو/ تموز 2022 حتى 24 فبراير/ شباط 2024، بإرسال بعثة للوساطة من أجل وضع حد لتفاقم الأزمة السياسية بين الرئيس والمعارضة، والتي وصلت وفقا لمجلة جون أفريك إلى غينيا بيساو في 21 فبراير/ شباط الماضي، من أجل تسهيل الحوار بين الفاعليين السياسيين وأصحاب المصلحة لضمان إجراء انتخابات شاملة خلال العام الجاري.
لكن المهمة لم تكتمل بعد إعلان باجودو هيرسي وزير الخارجية النيجيري السابق إنهاء مهمة البعثة، في 1 مارس/ آذار الجاري، بعد تلقيها تهديدات من الرئيس الذي أمهلهم 24 ساعة لمغادرة البلاد، بعد إخطارهم أن الاجتماعات مع هيئات المجتمع المدني والقيادات الدينية تتعدى نطاق مهمتهم، وهو ما اعترضت عليه قيادة البعثة التي اعتبرته من صميم عملها لتهيئة الأجواء للانتخابات.
استطاعت البعثة التي تعمل بالتنسيق مع مكتب الأمم المتحدة لغرب أفريقيا (UNOWAS) إعداد مسودة اتفاق بشأن خارطة طريق للانتخابات لعام 2025. يبدو أن مضامين الاتفاق لم ترق للرئيس الذي علق عقب طرد البعثة بأن بلاده ليست "جمهورية موز"، وأن هناك "رئيسا وقانونا، وهناك دستور ومحكمة عليا"، مضيفا أن هذا لا ينبغي "العبث به".
أشار الرئيس في سياق الحديث عن مستقبله السياسي، عام 2024، إلى أنه قد لا يطمح إلى ولاية رئاسية ثانية، قبل أن يتراجع عن الأمر، ويعلن عزمه الترشح للانتخابات الرئاسية للعام الجاري، بل ويؤكده في تصريح لمجلة جون أفريك ثقته المطلقة في الفوز بولاية ثانية من الجولة الأولى.
أثار تصعيد الرئيس ضد وفد البعثة الإقليمية مخاوف من حدوث تقلبات في السياسة الخارجية، تعيد على ضوئها غينيا بيساو التموضع في المشهد الجيوسياسي في منطقة غرب أفريقيا. هذا بالرغم من أن تجمع الإيكواس كان داعما أساسيا للرئيس لإمبالو، منذ انتخابه عام 2020، لدرجة أنه ساهم في تثبيت حكمه عبر تدخلات عسكرية.
يبدو أن مضامين الاتفاق لم ترق للرئيس الذي علق عقب طرد البعثة بأن بلاده ليست "جمهورية موز"، وأن هناك "رئيسا وقانونا، وهناك دستور ومحكمة عليا"، مضيفا أن هذا لا ينبغي "العبث به"
يتزايد القلق في دوائر الإيكواس من التحاق إمبالو بثلاثي مالي والنيجر وبوركينافاسو الذي قرر الانسحاب من المنظمة بشكل لا رجعة فيه، مؤسسا تحالف جديدا في المنطقة "كونفدرالية دول الساحل" من شأن التحاق دول أخرى به أن يمنح قوة تجعله منافسا حقيقيا للإيكواس. تشكل هذه الخطوة، إذا حدثت، ضربة قوية لإيكواس، التي بدأت نفوذها في المنطقة يتفتت، ومن ورائها دول المعسكر الغربي بقيادة فرنسا.
يصعب أن يقوم الرئيس بهذه المغامرة، على الورق، بالنظر للتحديات الداخلية الكبيرة التي تواجه البلاد، من أزمة الشرعية الدستورية، وعرقلة عمل المؤسسات التمثيلية (البرلمان مرتين)، وتصعيد المعارضة مستغلة ارتفاع منسوب الاستياء الشعبي. لكن التأمل في تحركات الرئيس الخارجية، لا سيما جولته الأخيرة التي تزامنت مع طرد البعثة، يجعل كل شيء ممكن في بيساو.
يأتي تصعيد الرئيس عمر سيسوكو إمبالو، الذي كان عميدا سابقا في الجيش الوطني، بعد زيارة روسيا في 26 فبراير/ شباط الماضي، حيث التقى الرئيس فلاديمير بوتين، ما اعتبره الكثيرون بحثا عن الدعم الخارجي لخوض الانتخابات الرئاسية، وقبل ذلك تعزيز موقفه داخليا وإقليميا، بالاستناد إلى حليف قوي بوزن موسكو العازمة على التوسع في منطقة غرب أفريقيا.
أكد الرئيس خلال الزيارة عمق الشراكة الاستراتيجية مع موسكو، معلنا عزم الطرفين فتح آفاق التعاون المشترك في مختلف المجالات، لا سميا الاستكشاف الجيولوجية والموارد المعدنية والطاقة. وأفادت تقارير إخبارية عن اهتمام شركة "روسال" الروسية للألمنيوم بالاستثمار في البلاد، بما في ذلك بناء ميناء وخط سكك حديدية. فضلا عن تأكيد الجانبين على دعم التنسيق البيني فيما يتعلق بالقضايا الدولية والإقليمية الرئيسية.
يدرك الرئيس عمر سيسوكو إمبالو حجم هشاشة الوضع داخل البلاد، فالاستقرار في العاصمة بيساو أشبه بسحابة صيف عابر، لذلك يعمد إلى اللعب بأوراق ضغط دولية لضمان الحماية ولما لا البقاء في السلطة
تمثل هذه الخطوة فرصة للجانبين لتبادل المنافع، فحكومة الرئيس، لا سيما مستشاري الظل، ومنذ المحاولة الانقلابية الأخيرة عازمون على تثبيت سلطته بتعزيز الأمن والاستقرار الداخلي الذي أضحى أولوية قصوى. ما يعد فرصة مثالية بالنسبة لموسكو الذي تعتمد، ومنذ عودتها إلى الساحة الأفريقية، الاتفاقيات الأمنية وصفقات التسليح للتغلغل في الدول الأفريقية.
يبدو الرئيس عازما على استثمار التقرب من موسكو الطامحة إلى الانتشار في أفريقيا لتعزيز فرص نجاحه في الانتخابات، سواء على المستوى الدبلوماسي أو من خلال الدعم الاقتصادي غير المباشر. دعم يبقى، في نهاية المطاف، أخف وطأة لاستناده إلى شرعية انتخابية وعبر الصناديق، خلافا لدعم موسكو لأنظمة عسكرية وصلت إلى الحكم عبر الانقلابات.
يدرك الرئيس عمر سيسوكو إمبالو حجم هشاشة الوضع داخل البلاد، فالاستقرار في العاصمة بيساو أشبه بسحابة صيف عابر، لذلك يعمد إلى اللعب بأوراق ضغط دولية لضمان الحماية ولما لا البقاء في السلطة. ولا أدل على ذلك أن جولته الخارجية في عز التصعيد الداخلي تضمن موسكو وباريس في نفس الوقت، ما يؤكد اختيار الرجل اللعب على الحبلين... فهل تنجح خطته للسيطرة على الأوضاع أم تأتي بمفعول عكسي يسرع الإطاحة به من الحكم؟