تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 5 ديسمبر 2024

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
سينما

فيلم "قهرمان" لأصغر فرهادي.. في مساءلة البطولة

2 مايو, 2024
الصورة
Asghar Farhadi
Asghar Farhadi. (Photo by Laurent Koffel/Gamma-Rapho via Getty Images)
Share

لا يخرج أصغر فرهادي في أحدث أفلامه "قهرمان" (A Hero، ومن إنتاج أمازون 2021) عن استخدام مداوراته الأسلوبية واستراتيجياته في استجواب الحياة العادية، في رموز مكثفة ومنتقاة بعناية، وشغف بالمشهدية الواقعية المحضة، وهي عماد أعمال فرهادي السينمائية، إلى جانب الحوارات العائلية العالية التي يرفدها ببث وجداني طفيف.

يفتتح الفيلم بمشهد خروج السجين رحيم سلطاني (أمير الجديدي) من السجن، ونشاهد تحديدًا محاولته الجري لركوب حافلة عامة في أحد الشوارع، إلا أنها ستفوته. تتلوها لقطة طويلة نسبيًا يتسلق فيها رحيم سقالة عالية جدًا، ليقابل صديقه وصهره حسين (علي رضا جهندايده) الذي يعمل في جرف مليء بالمنحوتات والمنقوشات التاريخية في شمال شرق مدينة شيراز الإيرانية. وهو موقع أثري يضم قبور ملوك الفرس الأكثر شهرة، مثل زركسيس الأول. يكاد يختصر هذان المشهدان الافتتاحيان قصة طاهري في الفيلم، والتي تتأرجح بين تحقيق سعيه لسداد ديونه والإفراج عنه، وبين إخفاقها المدوي رغم كل المساعي الشاقة التي يبذلها في سبيل ذلك. واختيار التصوير في مدينة شيراز التاريخية التي تعبر بطبيعتها عن تاريخ طويل من الأبطال التاريخيين، يأتي في إطار معالجة الفيلم لمفهوم البطولة.

يعمل سلطاني داخل السجن بالرسم والخطاطة على الجدران، وسيتاح له التسريح ليومين من السجن. في الوهلة الأولى، تسيطر على المشاهد ابتسامة سلطاني الرقيقة، وهذا اختيار ذكي من المخرج لدفع التعاطف تجاهه؛ إنسان مسالم ومحبوب دخل السجن بسبب عجزه عن سداد دين لوالد طليقته بهرام (محسن الطنبنده)، الشخصية القاسية ذات القسمات الجدية ككل الأبطال الأشرار. حتى الآن لا يستدعي رسم الأدوار أي إشكال يُذكر. غير أن هنالك شخصيتان تكملان القصة، إحداهما خطيبة سلطاني السرية فرخنده (سحر غولدوست)، والآخر ابنه سيافاش (صالح كريمي)، والذي يعاني من إعاقة في النطق والكلام.

تبدأ أحداث الفيلم بالتصاعد عندما تعثر حبيبته فرخنده على 17 قطعة ذهبية، وتشرع بوضع خطة لبيعها، وسداد الديون لأجل الإفراج عن سلطاني، إلا أنه سيتخذ موقفًا مفاجئًا بقراره البحث عن الشخص الذي أضاع القطع الذهبية لإعادتها له؛ يشرع بالاتصال بأحد البنوك ويوزع إعلانات يترك فيها رقم تلفون السجن، مما يدفع موظفي البنك عن سؤاله عما إذا كان هو موظف في السجن، لكنه يجيبهم بأنه في عطلة ليومين من السجن.

 يضعه هذا الموقف الأخلاقي والاستثنائي في صدارة التداول، لوسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، كما يصبح محط اهتمام المنظمات الخيرية التي تقتات على المواضيع البرّاقة. لكن المفاجئ أن سلطاني سيغدو ضحية لتلك الجهات، وسينهار موقفه الأخلاقي بنفس سرعة صعوده، مادام متعلقًا بسلطة الحشد الإعلامي والمنظمات الخيرية. يعمل الفيلم من خلال ما نعرفه بالفعل في تحويل ديناميكيات القصة إلى دراما نفسية مشدودة، تعيد بناء موقف البطل من جديد. يفعل ذلك بدون انعطافات كبرى في القصة التي تسير وفق هدوء بالغ، لكنه هدوء مشحون بالتوتر: يختلط صدق ونزاهة سلطاني مع اخفائه الحقيقة الكاملة، خصوصًا إخفاءه علاقته بحبيبته، وبحقيقة أنها من وجدت القطع الذهبية. وظهوره في المسرح كبطل أخلاقي قام بإعادة ثروة كان بحاجة إليها. 

تتقلص ثقة المشاهد مع ظهور الأسئلة التي تدين سلطاني. وهذا ما يشكل لبّ فلسفة أفلام فرهادي في خلق التوتر في ذهن المشاهد، أمام أمر يبدو للوهلة الأولى واضحًا بشكل قاطع. فجأة تنقلب المعادلة، ويصير البطل متهمًا بتضليل الرأي العام واستغلال المنظمات الخيرية والمتبرعين الذين جمعوا له مبالغ كبيرة لسداد ديونه. في مشهد حواري يختصر المعضلة التي يواجهها، يدافع عن نفسه أمام أخته مليلة (مريم شاهداعي) بالقول بأنه "لم يكذب"، وترد قائلة: "لكنك لم تقل الحقيقة"، في إحالة إلى أين تقف الحقيقة عندما لا نقولها كاملة أو نمارسها بانتقائية؟

ما يزيد موقف سلطاني تعقيدًا، هو محاولة المؤسسات الرسمية مثل: الإعلام وإدارة السجن والمنظمات الخيرية الاستفادة من قصته، لتحقيق فوائد سلطوية غالبًا، تتعلق بسمعتهم وصورتهم. يقول له أحد أمراء السجن إنه أصبح حديث إيران كلها، وأن عليه التصرف على أساس ذلك. كما يطلب مدير السجن تسجيل شريط فيديو لابنه الذي يعاني صعوبة في النطق، لجلب التعاطف أمام الجمهور الذي انقلب على قصته. لكن سلطاني يتمسك برفض كل تلك المحاولات بشكل قاطع، ولو استدعى الأمر عودته إلى السجن.

يُسائل الفيلم إذًا، مفهوم البطولة ويسخر منهاـ ويقول المخرج في أحد الحوارات "لماذا يحتاج المجتمع إلى جعل شخص ما بطلًا؟ يبدو أنهم يطلبون من الآخرين أن يكونوا مثل هذا الشخص، وهو أمر غير واقعي، لأن الناس لا يمكنهم أن يعيشوا حياة شخص آخر".

الملفت في الفيلم على مستوى التصوير هو أن المشاهد الأهم تدور في أماكن ضيقة: المكاتب والسيارات والممرات وغرفة المعيشة في المنزل، ومتجر الطباعة الصغير الذي يملكه بهرام، وهو ما يضفي مسحة واقعية عالية. علاوة على أن فرهادي لجأ في الفيلم إلى أن تكون الواقعية أكثر عمقًا، مما كانت عليه في أفلامه السابقة باختيار ممثلين غير معروفين، وبعض المسرحيين الذين ليس لديهم خبرة تذكر في التمثيل السينمائي، وعدد أقل من الممثلين السينمائيين الذين دربهم على التمثيل، مثل أمير الجديدي. ولم يخضع الفيلم للمؤثرات في المشاهد الواقعية، ما عدا مشهد واحد هو المشهد الجماهيري حيث لم يرغب المخرج في ظهور الكمامات.

 إن أهم ما في أفلام فرهادي، التي بلغت حتى الآن سبعة، أنها أفلامٌ لا تهتم بالسياسة بالمعنى المباشر، ولا تتسم بالصوفية، ولا بأي انتظارات أخرى لأي مشاهد أجبني يسمع عن إيران، ولا تشغلها الانحيازيات الأخلاقية الجاهزة، بل تقف أعماله على مسافة واحدة من أبطالها، فتختلط الضحية بالمذنب، حيث إن شخصياته ليسوا أشرارًا ولا ملائكةً، بل يضعهم في مواقف صعبة، تظهر تكوينهم الإنساني، "حين تغدو الهزيمة قدر الجميع"، كما يقول، بغض النظر عن دوافعهم وأخلاقياتهم.

فيما يخص الجوائز، حقق الفيلم المرتبة الثانية في مهرجان كان الدولي كأفضل فيلم لسنة 2021، غير أن الحظ لم يحالفه في الوصول إلى الترشيحات النهائية لجوائز الأوسكار هذا العام، والتي حقق فيها أصغر فرهادي الفوز مرتين في فئة الأفلام الأجنبية عن فيلميه A Separation  في عام 2012، و The Salesmanلعام 2018، وقاطع حضور حفل توزيع الأخير وقتها، احتجاجًا على حظر السفر الذي استهدف دولًا ذات غالبية مسلمة، من بينها إيران. وتسلمت حينها رائدة الفضاء الإيرانية أنوشه أنصاري الجائزة نيابة عنه، وقرأت بيانًا كتبه: "غيابي جاء احترامًا لشعب بلدي وشعوب الدول الست الأخرى الذي لم يحترمهم القانون اللاإنساني الذي يحظر دخول المهاجرين إلى الولايات المتحدة".