تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 5 ديسمبر 2024

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
سينما

فيلم ليموهانج ارميا: "هذه ليست جنازة، بل قيامة".. بعث ثوري

22 مايو, 2024
الصورة
ليموهانج ارميا
ليموهانج ارميا في الحفل الختامي لمهرجان برلين السينمائي الدولي السبعين في برلين في قصر برلينالة في 29 فبراير 2020 في برلين، ألمانيا. (تصوير أندرياس رينتز / Getty Images)
Share

حين يشرع مخرج من إحدى بلدان العالم الثالث في التحضير لعمل يتناول بيئته المحلية، فإنه يكون محاطا بالعديد من الأسئلة، ومنها على سبيل المثال: هل أصبحت المحلية عيبا؟ كيف يتماهى الفيلم مع ما يعرف بالهم العالمي المشترك؟ ما هو الحد الفاصل بين التأثر والتقليد الأعمى؟

لقد كان ليموهانج ارميا موسيس مخرج "فيلم هذه ليست جنازة، إنها بعث ثوري" موفقًا، بشكل كبير، في التعاطي مع هذه الأسئلة، وأخرج لنا مرثية شعرية شديدة المحلية، مع التزام سياسي واجتماعي صادق، حيث يتعرض الفيلم لإشكاليات شديدة المحايثة تخص القارة الإفريقية جمعاء.

تقع مملكة ليسوتو بالكامل داخل حدود دولة جنوب افريقيا، والعلاقة بين البلدين أقرب لثنائية (الهامش/ المركز)، نظرًا لصغر مساحة ليسوتو، وعزلتها الجغرافية مقارنة بالجارة الكبرى، بما لها من ثقل اقتصادي وسياسي. لكن هذا لم يمنع كونها ملجأ للمناضلين ضد نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا، بحكم استقلالها في عام 1966.  اقتصاديا، تعتمد على صناعة الغزل والنسيج، بشكل رئيسي، كما أن لخيولها شهرة عالمية، بحكم اكتسابها قوة مضاعفة بسبب طبيعة البلاد الجبلية. ينتمي سكانها بالكامل إلى شعب الباسوتو، ويدين معظمهم بالمسيحية، ونظامها السياسي ملكي دستوري، بالرغم من أن منصب الملك أصبح شبه شرفي، وليس له تأثير يذكر في القيادة السياسية.

يفتتح الفيلم بلقطة مهزوزة وضبابية لأحد فرسان الباسوتو، في محاولة لترويض حصانه الجامح، وللحصان مكانته الخاصة في ثقافة شعب الباسوتو، فهو رمز للملك موشوشو- المؤسس الأول لمملكة ليسوتو-، وكذلك البطل القومي الذي حارب ضد شعوب البوير والزولو.

يصحبنا صوت لراو يعزف على آلة الليسيبا (آلة محلية نفخية، وتعرف أيضا باسم جراموفون رعاة الغنم، إذ يستخدمونها في الحداء)، مستعرضا، بلهجة كئيبة، تاريخ القرية التي تقع فيها الأحداث، ذات الصوت سيلازمنا على فترات متقطعة طوال أحداث الفيلم.

يقول راوي الفيلم "حسب الأسطورة، هذا المكان كان يدعى حقول البكاء قبل وصول كاسياس وأربوسيت (مبشران مسيحيان)، ثم أسمياه الناصرة. يتتبع الفيلم يوميات الأرملة العجوز مانتو التي فقدت جميع أهلها، ولم يتبق لها سوى ابن يعمل بمناجم جنوب افريقيا، وتنتظر عودته بفارغ الصبر، ولكنها تفجع بعودته ميتا .

يلجأ المخرج إلى أسلوب السرد الذاتي الحر غير المباشر، بتعبير بازوليني، وهو التماهي الكامل مع الرؤية البصرية والسمعية للشخصية، ثم تمرير أفكار المخرج الخاصة عبرها. فنرى العجوز مانتو في حالة يأس تام، وانفصال شبه كامل عن الواقع المحيط بها (تشويش على شريط الصوت في بعض المشاهد)، وتنهمك في استعادة ذكرياتها مع زوجها وأبنائها، في مشاهد صامتة تخلو من الحديث والحدث.

تقوم مانتو بزيارة قبر ابنها، وتلاحظ انتشار المخلفات بالمقابر، وقلة العناية بها، فتشكو هذا الأمر إلى مختار القرية الذي يبلغها بتخطيط الحكومة لإنشاء سد في القرية، وتهجير أهلها. عمد المخرج في هذا المشهد إلى أخذ لقطات مهزوزة(out of focus) ، شبيهة بافتتاحية الحصان الجامح. عند هذه اللحظة، ينفتح الذاتي على العام. فكما يقول جريفيث: "ما ينقص الأفلام الحديثة هو صوت الريح في الأشجار".

تذهب مانتو إلى العاصمة ماسيرو، في محاولة يائسة لمقابلة الوزير، ولكن الموظفة تطلب منها اتباع الإجراءات الرسمية، فتعود خائبة. نلاحظ عند وصول الحافلة إلى العاصمة وجود مجموعة من الخيول في مؤخرة الإطار، وتحتل الحافلة جزءا كبيرا منه .وعند انتهاء مانتو من تعاملها مع الموظفة، تعود إلى مكان انتظار الحافلة، ولكن هذه المرة، لا نرى الحافلة بل الخيول فقط، في لقطة ضبابية بعض الشيء، تتبعها لقطة يسودها ضباب تام.

يتعرض المخرج في هذه اللقطات إلى العديد من الثنائيات، وهي التضاد بين القرية والمدينة؛ اللغة المحلية ويافطة الوزارة المكتوبة بالإنجليزية؛ التراث والتحديث؛ التلقائية والرسمية. ومن دلائل ذكاء المخرج استخدامه لوسائل تعبيرية مقتصدة، تعتمد على التكرار الذي يوحي بعدم حدوث شيء، ولكن ما حدث قد حدث.
وفي أثناء عودة مانتو للقرية، نراها تمشي بين الحقول والوديان، ونسمع أصوات الطير والماء الجاري، يرافقها عزف على الليسيبا، ثم ينقطع شريط الصوت لنرى بدء توافد عمال السد.

لدينا برلماني فاسد يدعي الحفاظ على مصالح بني قريته، ويتعالى على مطالبهم في آن واحد، وهو لا يأبه إلا لتلبية مطالب الوزارة، في أسرع وقت. ولدينا مختار حائر بين التزامه الأخلاقي والاجتماعي تجاه الأهالي، وبين التزامه الوظيفي. تعيد مانتو سرد تاريخ القرية على مسمع أحد الأطفال، وتؤكد له أن القرية كانت وستبقى "حقول البكاء"، في نظر أهلها وليس " الناصرة ".

عّبر - جومو كينياتا، وهو أول رئيس لجمهورية كينيا بعد الاستقلال بالقول: "حين أتانا المبشرون كنا نملك الأرض، ثم علمونا أن نصلي للرب وأعيننا مغلقة، ولما أفقنا وجدناهم يملكون الأرض".

لدينا أيضا راع للكنيسة أشد حيرة من مختار القرية، ففي بادئ الأمر ينصح مانتو بالصبر بعد وفاة ابنها، ثم نراه يشارك الأهالي في غضبهم، ويدعمهم في كتابة خطاب استغاثة إلى الملك، وبينما كانت مانتو في زيارة لعجوز مريض، يتحدث الراعي بنبرة يائسة عن تاريخ نشأة الكنيسة على يد المبشرين الأوروبيين، وكيف صنع الناقوس من رماح الأجداد، وفي أثناء حديثه نرى لقطة مقربة لمانتو، وهي تستخدم موسى الحلاقة في تهذيب رأس العجوز المريض، وهذه إشارة أخرى إلى الملك موشوشو الذي يعني اسمه "الصوت الصادر عن موسى الحلاقة" وفقا للغة المحلية. وفي تناقض مع هيئته الهادئة التي ظهر بها في المشاهد السابقة، يقوم بجرح يده في مسابقة لقص صوف الخراف (عادة موسمية في أواخر فصل الشتاء)، ويبدو في قمة الغضب. 

وفي تصاعد للأحداث، يندلع حريق في بيت مانتو، ويتعرض أحد الأطفال لإطلاق رصاص عشوائي، ويموت في الحال. في هذه الأثناء بحثت مانتو عمن يقوم بدفنها حية، ثم تحاول بنفسها، ولكنها لم تقو على ذلك. وفي تسليم بالأمر الواقع، يجمع المختار أهالي القرية من أجل الرحيل، ويطلب منهم أن يرنموا ترنيمة وداع لأرضهم وأمواتهم، وفي أثناء المسير تخلع مانتو ملابسها، وتسير عارية باتجاه عمال السد وموظفي الوزارة متجاهلة تحذيراتهم بعدم الاقتراب.

من الناحية البصرية هناك تأثر واضح ببعض الموتيفات المسيحية، ومنها: تمثال بييتا الشهير لمايكل أنجلو، وتجمع الخراف. يحضر أيضا التأثر بالمخرج البرتغالي الكبير؛ بيدرو كوستا، في استخدامه للإضاءة المحدودة (أو ما يعرف بتأثير رمبرانت) وجماليات البشرة السوداء خلالها.

في لقاء خاص بمجلة فارايتي، يتحدث المخرج ليموهانج عن رؤيته لإفريقيا، ويرى أنها في طور التشكل، وبالرغم المناخ التشاؤمي للفيلم، فإن المخرج يبدو متفائلا على الصعيد الشخصي، ويرى أن التراث الحضاري لإفريقيا مع ما اكتسبته من ثقافات أجنبية أخرى سيؤديان إلى محصلة جيدة.

لا يختلف الفن، بالنسبة إليه، عن النشاط السياسي، باعتباره وسيلة تغيير للأفضل، وهو مرآة للمجتمع، نستخرج منها الأفكار التي تقود للتغيير الحقيقي. ولديه موقف متوازن من ما يعرف بالصوابية السياسية، حيث يرى أنها قد تشكل عائقا أمام الفنان، ولكنها في نفس الوقت قد تدفعه إلى الابتعاد عن الكليشيهات، وإيجاد حلول جديدة أكثر إبداعا واختلافا .