الاثنين 28 أبريل 2025
أصبحت السينما الصينيّة - خلال السنوات الأخيرة - منصّة تعكس الطموحات السياسيّة والاقتصاديّة للدولة، ومن بين أبرز الأفلام التي تجسّد هذا التوجّه فيلم "الذئب المحارب 2" (2017) "Wolf warrior 2". لا يقتصر الفيلم على كونه مجرّد عمل "أكشن"، بل يحمل أيضا رؤية صينيّة لدورها في العالم، خاصّة في أفريقيا. تقدّم الصين نفسها - في هذا الفيلم - قوة مسؤولة، قادرة على حماية مواطنيها، ودعم الاستقرار في القارّة، وهو ما يتماشى مع خطابها السياسي حول الشراكة مع الدول الأفريقيّة في إطار مبادرات مثل "الحزام والطريق". لكن الفيلم، في الوقت نفسه، يثير تساؤلات حول كيفيّة تمثيل أفريقيا في السينما الصينيّة.
يعد فيلم الذئب المحارب أحد أنجح الأفلام الصينية تجاريّا، إذ تجاوزت إيراداته 800 مليون دولار أمريكي، ممّا جعله الفيلم الأكثر تحقيقا للأرباح في تاريخ السينما الصينيّة حتى وقت قريب. يعكس الفيلم الذي تولى فيه وو جينغ (Wu Jing) دور البطولة والإخراج، تصاعد السينما القوميّة الصينيّة؛ وذلك من خلال الجمع بين سرديّة البطل المنقذ، وتأكيد قوّة الدولة العسكريّة والدبلوماسيّة على المستوى العالمي. ومع ذلك، أثار العمل جدلًا بسبب تصويره النمطي للأفارقة، ما يعكس بُعدا إشكاليّا في الخطاب السينمائي الصيني حول علاقته بالقارّة.
تدور أحداث الفيلم حول جندي صيني سابق يجد نفسه في دولة أفريقية مزّقتها الحرب، حيث يتعيّن عليه إنقاذ مجموعة من المدنيّين الصينيين والأفارقة من الميليشيات والمرتزقة. القصّة تستلهم إلى حدّ بعيد سرديّات أفلام الحركة الهوليوديّة، ولكن مع استبدال البطل الأمريكي بنظيره الصيني، ما يجعل الفيلم بمثابة إعادة تشكيل لهويّة البطل المنقذ من منظور صيني.
لا يقتصر الفيلم على إعادة إنتاج "كليشيهات" سينما الحركة الهوليودية، بل يتجاوزها ليعبّر عن رؤية الصين لمكانتها العالميّة
يقدّم الفيلم نموذجا بارزا للسينما القوميّة الصينيّة التي تروّج لدور البلاد كقوّة عالميّة مسؤولة، حيث يتمّ دمج الوطنيّة مع القوّة الناعمة لتعزيز رؤية الحزب الحاكم لدور الصين الدولي. في مشهد رمزي، يرفع البطل جواز سفره الصيني، في إشارة مباشرة إلى قدرة الدولة على حماية مواطنيها أينما كانوا، ممّا يعكس تصاعد الثقة القوميّة في العقد الأخير.
لكن الفيلم لا يقتصر على إعادة إنتاج "كليشيهات" سينما الحركة الهوليودية، بل يتجاوزها ليعبّر عن رؤية الصين لمكانتها العالميّة، وهي رؤية تشكّلت عبر الفترات "ما بعد الثورية" و"ما بعد الاشتراكية"، منذ منتصف السبعينيات. نستكشف من خلال تحليل الفيلم، كيف يرتبط خطابه القومي بالتحوّلات الأيديولوجيّة والتاريخيّة المتعلّقة بحضور الصين في أفريقيا، مسلّطين الضوء على ديناميات القوة المعاصرة بين الجانبين.
يعكس الفيلم هذا التطوّر في التصوّرات الصينيّة عن أفريقيا، حيث يمزج بين تمثيلات متباينة للقارّة تعود إلى فترات تاريخيّة مختلفة
أدّت موجة التغريب التي شهدتها الصين، منذ الثمانينيات، إلى تراجع الاهتمام الرسمي والإعلامي بالقارة الأفريقيّة، التي كانت تُعدّ سابقا شريكا استراتيجيّا. فقد انخفضت التغطية المخصّصة لأفريقيا في وسائل الإعلام الرسميّة، مثل: وكالة أنباء شينخوا وصحيفة الشعب اليوميّة، بينما اعتبرتها المؤسّسات الإعلاميّة التجاريّة سوقًا غير جذّابة للاستثمارات الكبرى.
لعبت السينما الهوليوديّة دورا في تشكيل التصوّرات العامّة عن أفريقيا داخل الصين، حيث استبدلت الصورة السابقة التي جسّدت القارّة فضاء للحداثة والتقدّم، برؤية تُبرزها مكانا للفقر والصراعات والأوبئة. ويتجلّى هذا التحوّل في الفيلم؛ حيث يتمّ توظيف مشاهد الأحياء الفقيرة والنزاعات المسلّحة لتقديم أفريقيا فضاء مضطربا يحتاج إلى تدخّل القوى الخارجيّة، ممّا يعكس تأثّر الخطاب السينمائي الصيني بالسرديّات الغربيّة عن القارّة.
شهدت العلاقات الصينيّة الأفريقيّة، منذ عام 2010، تحوّلات جوهريّة، مدفوعة بمبادرة الحزام والطريق، التي تهدف إلى توسيع البنية التحتيّة، وتعزيز الروابط الاقتصاديّة مع أكثر من 150 دولة، بما في ذلك العديد من الدول الأفريقيّة. في هذا السياق، أعادت وسائل الإعلام الصينيّة السائدة إحياء سرديّة "الصداقة التاريخية" بين الجانبين، مدعومة بالحوافز الاقتصاديّة التي يوفّرها منتدى التعاون الصيني-الإفريقي، الذي أُنشئ لتعزيز الشراكات الاقتصاديّة متعدّدة الأطراف.
يعكس الفيلم هذا التطوّر في التصوّرات الصينيّة عن أفريقيا، حيث يمزج بين تمثيلات متباينة للقارّة تعود إلى فترات تاريخيّة مختلفة. فبينما صُوّرت أفريقيا في الخطاب الصيني خلال الخمسينيات والسبعينيات شريكا في "العالم الثالث"، تحوّلت في الثمانينيات إلى صورة "الغريب الفقير"، قبل أن تتّخذ في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بُعدًا جديدا كشريك اقتصادي رئيسي في إطار المبادرات الصينيّة التنمويّة.
يعيد الفيلم إنتاج خطاب المنقذ الاستعماري، لكنّه يستبدل البطل الغربي بنظيره الصيني الذي يحلّ محل القوى البيضاء التقليديّة في دور "المنقذ" لأفريقيا
يعكس الفيلم تداخلًا معقّدًا بين السرديّات المتباينة حول أفريقيا؛ حيث يجمع بين صور متفرّقة، مثل: قراصنة الصومال وفيروس إيبولا والأحياء الفقيرة في جنوب أفريقيا والحرب الأهليّة الليبيّة، ما ينتج خطابا بصريّا يوحّد القارّة في إطار صورة نمطيّة شاملة. تخدم هذه التمثيلات الخيال القومي الصيني، الذي يعزّز سرديّة صعود البلاد قوّة عالميّة، قادرة على التدخّل في الأزمات الدوليّة، وحماية مصالحها ومواطنيها في الخارج.
في الوقت ذاته، يستند الفيلم إلى عناصر من تاريخ العلاقات الصينيّة الأفريقيّة، لإبراز دور الصين كفاعل "خيّر" في القارّة، حيث تتداخل مشاهد الصداقة والمساعدات الإنسانيّة مع تأكيد القيادة الصينيّة على ريادة الجنوب العالمي. ومع ذلك، فإنّ هذه الصورة الإيجابيّة تخفي علاقات القوّة غير المتكافئة التي تحكم المبادرات التنمويّة، لا سيما في سياق الحزام والطريق، حيث تستمرّ الهياكل الاقتصاديّة والسياسيّة في تشكيل ديناميات الهيمنة والتبعيّة بطرق غير معلنة.
يقدّم الفيلم الصين باعتبارها قوّة مُحسِنة في أفريقيا، ترمز إلى التنمية والاستقرار والسلام، حيث تُصوَّر الشخصيات الصينيّة على أنّها نماذج في التقدّم العلمي والمساعدات الإنسانيّة. فإحدى الشخصيات النسائيّة الرئيسة تكتشف علاجا لمرض قاتل، بينما توفّر شركة صينيّة فرص عمل ومأوى للضحايا خلال مشاهد الصراع. وتعكس الرواية السينمائيّة أيضا السخاء الدبلوماسي للصين، حيث تستجيب الحكومة الصينيّة رسميّا لطلب المساعدة العسكريّة من الدولة الأفريقيّة المضطربة، ممّا يعزّز صورة الصين كحامية للنظام والاستقرار.
غير أنّ هذا السرد يُقدَّم في مقابل الغياب الأمريكي والتصوير السلبي للمرتزقة الأوروبيّين، الذين يُظهرهم الفيلم كمستغلّين يتّسمون بالعنف والدمويّة. يعيد الفيلم إنتاج خطاب المنقذ الاستعماري، لكنّه يستبدل البطل الغربي بنظيره الصيني الذي يحلّ محل القوى البيضاء التقليديّة في دور "المنقذ" لأفريقيا، التي تُصوّر في الفيلم على أنّها ضحيّة للحرب الأهليّة والفوضى والمجاعة والأوبئة. وفي هذا السياق، يأخذ البطل فنغ بُعدا مسيحيّا، إذ يعلن عن دوره كمخلّص عندما يقول عن العمال الصينيّين والأفارقة المسجونين: "وُلدت من أجلهم". ويبلغ هذا الخطاب ذروته في المشهد الختامي، حيث يقود فنغ الناجين في شاحنة تحت راية العلم الصيني إلى ملجأ تابع للأمم المتّحدة، ممّا يرسّخ رؤية الصين لنفسها قوّة بديلة لإعادة تشكيل النظام العالمي.
بعد مرور ثماني سنوات على إصدار فيلم "الذئب المحارب 2" لا تزال النزعة القوميّة والعنصريّة التي برزت في الفيلم حاضرة بقوّة في المشهد الصيني، بل إنّها ازدادت ترسّخًا، لا سيما عبر وسائل التواصل الاجتماعي. في هذا السياق، تعيد صورة الصين في أفريقيا، كما يصوغها الفيلم، إحياء خطاب تحالف العالم الثالث في عهد ماو. ومع ذلك، فإنّ التفاوتات الهيكليّة بين الصين والدول الأفريقيّة اليوم تتجاوز بكثير ديناميكيّات العلاقات التي كانت سائدة خلال الحرب الباردة.
عوضًا عن استنساخ نموذج التحالفات السابقة، يُدرِج الفيلم الصين ضمن شبكة جديدة من العلاقات السياسيّة والاقتصاديّة الناشئة في إطار الجنوب العالمي، وهي علاقات تحمل في طيّاتها إمكانات سرديّة متجدّدة حول "الصين في أفريقيا". وتعكس هذه الديناميكيّات المتغيّرة دور الصين المتنامي في فترة ما بعد الجائحة، ممّا يشير إلى إعادة تشكيل النظام العالمي وفق توازنات جديدة ومقسّمة.