الأربعاء 9 يوليو 2025
يُعد كتاب "اختراع الصومال" من أبرز الأعمال الرائدة والمبتكرة التي تناولت الصومال، بل يرى فيه كثير من الباحثين أفضل ما كُتب عن هذا البلد من منظور نقدي ومعرفي. فقد شكّل الكتاب نقطة تحوّل فارقة في مسار الدراسات الصومالية، إذ فتح أفقًا فكريًّا رحبا أمام الباحثين، وأسهم في إعادة تشكيل المقاربات السائدة حول الصومال بصورة جذرية. ولا يزال صداه حاضرًا في الذاكرة الأكاديمية، سيما بين الباحثين الصوماليين الذين وجدوا فيه إطارًا تحليليًّا جديدًا، يتيح مساءلة التصورات السائدة حول تاريخهم وهويتهم.
لقد مهّد هذا العمل لظهور تقليد بحثي جديد، يقوم على مساءلة المركزيات الاستعمارية، وعلى إعادة كتابة التاريخ الصومالي من الداخل، بأقلام تنتمي إلى السياق ذاته. ومن هنا، انطلق العديد من الباحثين في إثر أصوات أكاديمية بارزة – مثل البروفيسور علي جمعالى أحمد، محرر الكتاب - في محاولة لتأسيس خطاب علمي بديل يتجاوز التبسيطات والانطباعات الكولونيالية، ويستعيد فاعلية "الصومالي" في صناعة تاريخه وسرد هويته.
عادةً ما يُقدَّم انهيار الدولة الصومالية عام 1991، وما تلاه من عقود من العنف وعدم الاستقرار، بوصفه دليلاً على فشل مشروع بناء الدولة أو عدم اكتماله. وتتبنّى السرديات التقليدية، التي لا تزال تُتداول في أروقة البحث الأكاديمي والسياسي على حد سواء، تفسيرات اختزالية لهذا الانهيار، فتُرجعه إما إلى الانقسامات القَبَلية الحادة، أو إلى هشاشة البنى الوطنية التي رسمتها الحدود الاستعمارية المصطنعة. غير أن مراجعتنا لكتاب اختراع الصومال تكشف عن توجه معرفي مختلف؛ إذ تنخرط فصول الكتاب في حوار نقدي مع هذه القراءات السائدة، لتعيد مساءلة المسلّمات التي تأسست عليها، وتفتح المجال أمام تفكيك أعمق لبُنى الهوية الصومالية وكيفية تشكُّلها - سواء من خلال ديناميات داخلية أو عبر تمثّلات خارجية مفروضة.
لم يكن اختراع الصومال مجرد ردٍّ على السرديات الكولونيالية، بل مشروعًا نقديًّا يزعزع الأسس المعرفية التي انبنت عليها تلك السرديات
في النقاش حول أسباب تفكك الدولة الصومالية ومآلات الهوية الوطنية، يأتي كتاب اختراع الصومال، بتحرير علي جمعالي أحمد، ليقدم تدخلًا معرفيًا جريئًا في إعادة تفكيك المسلمات التاريخية والثقافية التي رسخت صورة صلبة ومبسّطة عن "الصومالينمو" بوصفها هوية متجانسة من حيث اللغة والثقافة.
يضم الكتاب مجموعة من المساهمات المتنوعة لباحثين صوماليين وغير صوماليين، تسعى إلى تفكيك الروايات السائدة حول أصل الصوماليين، ودور الإسلام، والهوية العشائرية، والعلاقات الطبقية والإثنية، ومسألة النوع الاجتماعي، من خلال مناهج تاريخية وأنثروبولوجية ولغوية تتقاطع لتعيد التفكير في بنية الخطاب الأكاديمي حول الصومال. وقد توقف جون ماركاكيس في مراجعته التحليلية للكتاب عند عمق هذا الطرح وجرأته، منوهًا بأن الكتاب لا يكتفي بتقويض النماذج التفسيرية التقليدية، بل يفتح أفقًا نقديًا جديدًا لفهم "الصومال" بكونه مفهوما مصنوعا أكثر مما هو كيان متوارث.
ينقسم الكتاب إلى فصول تكشف في مجموعها عن مشروع نقدي متكامل. يبدأ بمساهمة محمد حاجي مختار حول الإسلام في التاريخ الصومالي: الحقيقة والخيال، حيث يفند أسطورة الأصل العربي للصوماليين، ويعيد توطين الإسلام في الجنوب بدل الشمال، تليه دراسة لمحمد م. قاسم حول التاريخ الثقافي لبنادير، مركّزًا على علماء برافا كنموذج للإنتاج الثقافي المهمّش. وتتناول كاثرين بيستمان في اختراع غوشا تاريخ مجموعة بانتو نهرية من خلال ثلاثية العبودية والاستعمار والوصمة، بينما تقدم كريستين تشوي أحمد تفكيكًا حادًا للصورة النمطية للمرأة الصومالية باعتبارها "كائنًا منقوصًا"، وتُعزّز ذلك فرانشيسكا ديكليش بدراسة إثنوغرافية عن الهوية والرقص والدين بين مجموعات البانتو. أما عبدي كوسو، فيعكس السرد التقليدي عن أصل الصوماليين، مقترحًا بداية جنوبية بديلة، بينما يقدم عبد الله عمر منصور نقدًا مزدوجًا للثقافة السياسية العشائرية من جهة، ولنمط الدولة القومية الصومالية من جهة أخرى، من خلال مساهمتيه نقيض الأمة وطبيعة النظام القبلي. ويساهم أحمد قاسم علي بمقال محوري عن مأزق الدراسات الصومالية، يوازيه علي جمعالي أحمد بمقال تنظيري معمّق بعنوان تجاوز الخطاب السائد في الدراسات الصومالية، يمثّل قلب المشروع التحريري. ويختم الكتاب بدراسات نقدية كإسهام إدوارد ألبيرس بعنوان حول نقد اختراع الصومال، ودراسة كرستوفر إهرت عن الجذور التاريخية للقرن الشرقي لأفريقيا، إلى جانب ملحقين لغوي وتاريخي يقدمان خرائط وصلات لغوية لتمييز موقع الصومالية ضمن لغات المنطقة. هذه التركيبة تمنح الكتاب بعدًا تفكيكيًا مزدوجًا: تأريخيًا من جهة، ومنهجيًا من جهة أخرى، وهي ما جعلت ماركاكيس يصفه بأنه مساهمة محورية في إعادة النظر في سياسات المعرفة والهوية في القرن الأفريقي.
الهوية الصومالية لم تكن ثابتة ولا موحدة، بل تشكّلت عبر قرون من التفاعل والصراع والذاكرة الانتقائية
في صلب أطروحة الكتاب، يكمن تفكيك "أطروحة التجانس العرقي". فقد كان الباحثون وصناع القرار السياسي لعقود يصفون الصومال بكونها واحدة من الدول القليلة في أفريقيا المتجانسة عرقيًا - من حيث اللغة والدين والثقافة. وقد استُخدم هذا التجانس المزعوم لتفسير الوعود التي رافقت الاستقلال، ولتسليط الضوء على هذه المفارقة في الانحدار إلى العنف الفصائلي. غير أن كتاب اختراع الصومال يبرز التبسيط المفرط الكامن في صميم هذه الأطروحة. فاستنادًا إلى الأدلة التاريخية واللغوية والأنثروبولوجية، يزعم المساهمون في هذا العمل بأن الهوية الصومالية لم تكن ثابتة ولا موحدة، بل تشكلت عبر قرون من التفاعل، والصراع، والذاكرة الانتقائية.
لقد لعب الاستعمار دورًا حاسمًا في عملية "الاختراع"، حيث اضطر الإداريون الأوروبيون، بدافع الحاجة إلى فئات واضحة قابلة للحكم، إلى تصنيف السكان الصوماليين وفقًا لبنى قبلية صارمة وتقسيمات ترابية. وقد تم تثبيت هذه التصنيفات في الخرائط واللغة البيروقراطية، مما حوّل الهويات والعلاقات السياسية المتحركة إلى بنى ثابتة ودائمة. وفي هذا السياق، لم يقتصر دور القوى الاستعمارية على توثيق المجتمع الصومالي، بل ساهمت فعليًا في إعادة تشكيله. لا جرم أن "اختراع القبلية الصومالية" من قبل الاستعمار كان أحد الإسهامات البارزة للكتاب، إذ يتحدى الرؤية التي تعتبر القبائل كيانات أصلية وثابتة.
ولم يتوقف النقد عند الحقبة الاستعمارية، بل امتد ليشمل النخب الصومالية في مرحلة ما بعد الاستعمار. ولا شك أن المشروع القومي - خاصة في عهد نظام سياد بري - تبنّى سردية تاريخية انتقائية للترويج للوحدة، بينما قام في الوقت نفسه بقمع التنوع الداخلي والمعارضة. لم تكن الهوية القومية الجامعة تعبيرًا طبيعيًا عن تراث مشترك، بل كانت استراتيجية سياسية تهدف إلى ترسيخ السلطة. ومن المفارقة أن الخطاب القومي، في محاولته لتجاوز الانقسامات الموروثة من الاستعمار، أعاد إنتاج العديد من أشكال العنف المعرفي ذاتها - من إسكات للأصوات المهمشة إلى تبييض للتاريخ.
الكتاب لا يقدّم مجرد قراءة تاريخية، بل يضع إطارًا نقديًّا لفهم كيف تُنتج الأمم والهويات في سياقات ما بعد الكولونيالية
مما يتميز به الكتاب هو تنوّع المناهج ووجهات النظر، إذ يساهم المؤرخون والأنثروبولوجيون واللغويون كلٌّ من موقعه في تقديم فهم متعدد الأبعاد للهوية الصومالية. هذا ويشير ماركاكيس إلى بعض القيود؛ فالكتاب، في نظره، أكثر نجاحًا في تفكيك النماذج القائمة في حين لا يقدم بدائل ملموسة. وعلى الرغم من أن هذا نقد مشروع، فإنه يعكس طبيعة البحث النقدي ذاته: فالقوة لا تكمن في استبدال سردية كبرى بأخرى، بل في فتح المجال أمام تعدد الأصوات والذاكرة المتنازَع عليها.
من بين المواضيع اللافتة التي يبرزها كتاب اختراع الصومال؛ مسألة الثقافة الشفوية والاعتماد على الذاكرة. ففي مجتمع ذي تقاليد شفوية قوية، غالبًا ما يكون توثيق التاريخ قد انحاز إلى أصوات معينة على حساب أخرى، لا سيما بعدما أصبحت النخب المتعلّمة والباحثون الأجانب هم الكُتّاب الرئيسيين للتاريخ الصومالي. يدعو الكتاب إلى ديمقراطية إنتاج المعرفة التاريخية - تشمل الرعاة والنساء والعشائر المهمشة، الذين طالما أُقصيت تجاربهم أو تم تهميشها.
يقترب نقد التأريخ الاستعماري والوطني من الرفض القاطع، مما قد ينفّر بعض القرّاء الباحثين عن نقاش بنّاء. ومع ذلك، فإن هذه الحدة قد تكون ضرورية في سياقٍ طالما كتمت فيه السرديات السائدة إمكانيات النقد الجذري. إن اختراع الصومال لا يكتفي بتعديلات طفيفة في الرواية التاريخية، بل يسعى إلى زعزعتها، وإثارة التساؤلات، وتحفيز التفكير الجديد.
في مجتمع ذي تقاليد شفوية قوية، يصبح التاريخ ساحة للصراع على من يُسمع صوته ومن يُسكت
لا تقتصر آثار هذا المشروع الفكري على الصومال وحدها، بل تمتد إلى ما هو أوسع. إن هذا الكتاب ينتمي إلى حركة بحثية أوسع تعيد النظر في مفاهيم الدولة والهوية والتأريخ في أفريقيا. وقد ظهرت انتقادات مماثلة في دراسات حول نيجيريا ورواندا والسودان وغيرها - وهي مناطق غالبًا ما حجبت فيها التصنيفات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية الواقع المحلي بدلًا من توضيحه. ومن هذا المنطلق، لا يُعد اختراع الصومال دراسة حالة معزولة، بل إسهاما في حوار عابر للقارات حول سياسات إنتاج المعرفة.
خِتامًا، يوفّر اختراع الصومال دليلًا فكريًا عميقًا لوجهات النظر المتعلقة بالصومال. فهذا العمل لا يروي التاريخ الصومالي فحسب، بل يستجوب الأطر ذاتها التي صيغ من خلالها ذلك التاريخ. وبهذا، فإنه يدعو الباحثين وصناع القرار والمواطنين الصوماليين على حد سواء إلى إعادة التفكير في أسس الهوية، واستخدامات الذاكرة، ومستقبل الجماعة في عالم ممزق. وبينما يبقى الطريق نحو إعادة تصوّر الكيان السياسي الصومالي محفوفًا بالتعقيد، تذكّرنا أعمال كهذه أنه قبل إعادة بناء الدول، ينبغي علينا أولًا تفكيك الأساطير والسرديات التي تقيدنا وتحول رؤية الماضي والحاضر.