الخميس 5 ديسمبر 2024
مرت في التاسع عشر من أغسطس/ أب الجاري الذكرى الثانية لرحيل الشاعر الصومالي الأبرز هدراوي، وشهد الفضاء الافتراضي الصومالي تفاعلًا كبيرا معها، في لحظة نادرة، تسامى فيها الصوماليون عن كل تشظياتهم وتحيزاتهم وانقساماتهم السياسية والمناطقية والجغرافية والجيليّة. تمثل هذه الذكرى مناسبة لاستعادة إرث رجل استطاع أن يوحِد الصوماليين حوله، في الداخل والخارج، في لحظة نادرة في تاريخ البلد.
محمد إبراهيم ورسمي المعروف باللقب "هدراوي"، شاعرٌ وملحنٌ وكاتبٌ مسرحيّ، ومترجمٌ وأستاذٌ جامعيّ وشخصية عمومية في الصومال. برز منذ الستينيات باعتباره الاسم الشعري الأبرز في الساحة الصومالية، وظل محل إجماع وطني وقومي في واقع صومالي باتت الثقافة وحدها تشكّل الإجماع الوحيد فيه.
ولُد هدراوي في برعوا في عام 1941، وهي مدينة في وسط ما كان يُسمى "محمية صوماليلاند البريطانية". وانتقل إلى عدن اليمنية، حين كان في العاشرة من عمره، وهي بدورها مستعمرة بريطانية، ظلت إلى وقت قريب مدينة كوزموبوليتية، يعيش فيها أبناء المحيط الهندي والبحر الأحمر، من الساحل الصومالي حتى بلاد فارس والهند. درس في ثانوية القديس أنطوني في عدن.، وكتب أول مسرحياته فيها، عام 1966، بعنوان (مؤامرة) Hadimo؛ وهي مسرحية عن الاغتيال الفظيع الذي تعرض له المناضل الكونغولي باتريس لومومبا. وحدّد بذلك موقعه من العالم، في ذلك الوقت المبكر من عمره، مناضلا ضد الاستعمار، ومدافعا عن المقهورين المعذبّين.
عاد هدراوي إلى الصومال بعد اندلاع حرب استقلال اليمن الجنوبي، في عام 1967، بمعية أسماء أخرى ستصبح رموز الثقافة الصومالية الحديثة، أمثال سعيد جامع حسين. أطلق ذلك الجيل في الوسط الصومالي تسمية Xabbadi Keentay/ الفارّون من البارود.
تصادفت عودة هدراوي مع انقضاء سبع سنوات من قيام الجمهورية القومية الصومالية، التي نشأت من اتحاد المحمية البريطانية صوماليلاند والصومال الإيطالي. وكانت الدولة الوليدة مصممة على استعادة الأقاليم الثلاثة الأخرى من الأمة الصومالية تحت رايتها: إقليم عفار وعيسى الفرنسي (جيبوتي حاليًا) الذي كان يقبع وقتئذ تحت سيطرة فرنسا، ومنطقة الصومال الغربي في إثيوبيا (تُعرف شعبيًا بإسم أوغادين)، ومنطقة الحدود الشمالية في كينيا. يُطلق على هذه السياسة التي قامت عليها الجمهورية الصومالية بـ"الصومال الكبير" Pan-Somalism.
استمدت الدولة الصومالية مشروعتيها من وحدة محكوميها؛ اللغوية والعرقية والدينية والثقافية، حيث كان للرومانسية القومية تأثيرٌ جليّ على توجهّات القوميين الصوماليين. وآمنوا، كحال أقرانهم من القوميين العرب، بأن اللغة والإرث التاريخي عوامل كافية لتشكيل الهوية الموحدة بين الأقاليم الصومالية الخاضعة للاستعمار. وبالطبع، كما في كل خطاب قومي يستند على وحدة مزعومة، تذهب الأقليات اللغوية والدينية الأخرى ضحية. وهذا ما حصل تحديدا في الصومال.
كان الدور المحوري الذي لعبه الأدب في بناء الأمة الجديدة، وتصوراتها عن ذاتها مثيرا للغاية. فقد انبثق الأدب القومي مع ولادة الدولة القومية الصومالية ومعاركها. خصوصا أن معظم الأدباء الذين نهضوا بتقعيده ينتمون إلى اليسار الماركسي، الذي نادي بأدب ملتزم بالنضال ضدّ الاستعمار والاستغلال. وقدموا بإهاب طموح عن الأمة الجديدة: فقد صورت الأغاني الرومانسية الوطنية الدولة الوليدة مثل ناقة حلوبة، ترمُز إلى الرخاء والوفرة. هذا ما نجده ابتداءً من أغاني حسين أو فارح (1928-1998) وعبد الله سلطان "تيمو عدّي" (1920-1973) على التوالي، حيث يشبّهان الدولة القومية وسيادتها بـ"مانديق"، وتعنى ترجمتها المباشرة: "التي يطربُ لها القلب". بُثت أغانيهما على نحو متواصل في الراديو الوطني، وتكرّست "مانديق الحلوبة" في الوعي الشعبي (الرعوي) مقابلا لمفهوم الدولة التي تحمل لهم كل الخيرات.
في هذه المناخ، برز هدراوي كواحد من الأدباء الرومانسيين بمسرحياته وأغانيه التي تمزج معاني العشق بين الأرض والأم والحبيبة، كما نشاهد في أغنيتي"كتابة الحب بحبر الدم" Jacayl dhiig ma lagu qoray، أو أغنيته Baladwayne، وهي أغنية تمزج حب فتاة بعشقه لبلدة في وسط الصومال تدعى بلديويني Baldwyne، لدرجة أن استعارات صوت العاشق يمكن أن تفسّر بالفتاة والبلدة في نفس الوقت.
بحلول عام 1969، شهدت صيرورة بناء الدول الجديدة في أفريقيا والعالم العربي انعطافات حادة؛ استولى ثلاثة ضباط، معمر القذافي وجعفر نميري وسياد بري، على السلطة في ليبيا والسودان والصومال على التوالي. جاءت هذه الانقلابات بوعود الإصلاح والتحديث، فأطلق المجلس العسكري في الصومال مشروعًا قوميًا يرتكز على تقعيد ثقافة صومالية قومية، وقام بحملات ضخمة لمحو الأمية، وأسس أكاديميات وطنية، وكرّس اللغة الصومالية لغة رسمية، مع اعتماد تهجئتها بالحرف اللاتيني في عام 1972، وصوْمل المناهج التعليمية، وشيّد المتاحف والمسارح الوطنية (للمصادفة الساخرة: تزامنت سياسات بري باعتماد القومية اللغوية مع نفس سنوات انضمام الصومال إلى الجامعة العربية).
لعب الفنّانون والأدباء الدور الأبرز في هذه العملية. وساهموا في تثقيف الجماهير في الوعي القومي الوطني. تقول إحدى أغاني هدراوي، التي تروّج للغة الأم، في إبان تدوين اللغة الصومالية بشكل رسمي:
"سأظل أمينا للغتي الأم..
وسأبني متوسِّلا بها..
سأرعى أمتي بها..
وسأستغني بها عمَّا سواها..
وسأفنى من أجلها..".
تكاد تجربة النظام العسكري القومي في الصومال تتطابق مع غيرها من التجارب الأخرى، في إفريقيا والعالم العربي، حيث يقوم النظام بتحديث الاقتصاد وبدعم الصناعة والمسرح والثقافة والتعليم، ويتوعد الأعداء في الخارج، ويدخل خصومات إقليمية ودولية تحت حُجج الدفاع عن سيادة الأمة، وعندما يملّ من نفسه، ينتهي إلى السلطوية المحضة. لهذا، لم تدم علاقة النُخب الثقافية مع السلطة العسكرية طويلًا. وأصبح هدوراي في هذه المرحلة من أكثر الشعراء نقداً للسياسة في الصومال، والتزم بفضح السُّلط الاستبدادية والقهرية، بأشكالها العسكرتارية والاستعمارية. وكان يعتنق الشيوعية الأممية على غرار الكثير من مجايليه، من الأدباء والمثقفين من جنوب العالم وقتها. والتزم بالمناداة بضرورة انعتاق العالم الجنوبي من الهيمنة الامبريالية، وكتب أشعاره عن سنغور وحرب الولايات المتحدة على فيتنام وتحرير فلسطين والفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
تقول إحدى قصائده التي تفصح عن موقفه الملتزم تجاه المجتمع:
"القصيدة البديعة ثمينة..
ليست خليطًا غامضًا من الكلمات..
ولا تباهِ بأغانٍ فارغة..
إنها لهفة مُؤرِّقة..
إنها قلق.. ومشاعر
إنها مرآة مجتمع.. وصرخته المدوِّية.. وتصفيقه الحار
القصيدة البديعة دليل المجتمع..
وعلامته الفارقة
وميراثه الأزلي".
استطاع هدرواي تطوير القصيدة الصومالية أكثر من غيره، لأسباب تعود إلى تجربته الستينية التي انطلقت من اليمن، والتي شملت أجناسا أدبية وتعبيرات فنية متعددة: القصة والمسرح والشعر. وسمح هذا بظهور جيل رافض ومتمرد على كلاسيكيات القصيدة الصومالية الحديثة، ومنحدرٍ من مرجعيات سياسية وأيديولوجية متعارضة.
سرعان ما غدت قصيدة هدراوي عنواناً لهذه المرحلة لاحقا؛ بعد أن تخلصت من غنائيتها وصارت أكثر مواءمةً لحساسيته الجديدة، وأكثر قربا من إيقاع النثر. نشاهد ذلك من خلال تحقيقه انتشارًا غير مسبوق لشاعر صومالي آخر في الوسط الفني. وقد غُنت ولُحنّت معظم أغانيه من قبل أبرز الأسماء الفنية وقتها: محمد موجي ليبان، حليمة خليف عمر (مغول)، محمد سليمان تبيع، حسن آدن سمتر.
شكّل هذا مصدر إحراج للسلطة، فالجماهير مولعة بالاستماع لهؤلاء الفنانين، ولا يستطيع النظام منع حفلاتهم الجماهيرية. وبنفس الوقت كان النظام يرتاب من نبرة النقد الذي تحمله أغاني هدراوي، ومسرحياته كمثقف عضوي، ينحاز لوعي الجماعة في صراعها الطبقي، ونضالها المستميت من أجل العدالة الاجتماعية، ومد الهيمنة الإمبريالية الغربية ووحشية البيروقراطية العسكرية.
ابتدر هدراوي في عام 1973 سلسلة قصائد بعنوان "Siinley"، والتي ستتحوّل إلى مانيفستو ضد النظام الاستبدادي؛ بأغنية يَرثي بها موت "مانديق" بعنوان "Hal la qalay/الناقة المذبوحة"، وتتحدث عن مصير "الدولة الناقة" في ظل نظام العسكر، واستخدم أساليب بلاغية تغلب عليها التورية. ونشر أيضًا مسرحية أخرى استهدفت بالنقد الحكومة العسكرية، بعنوان "Tawaawac/مقاضاة"( (1973 تسببا هذان العملان بحبسه في "Qansax dheere"، لمدة خمس سنوات (1973-1978). وحُظرت أعماله، لكنه استمر في كتابة الشعر الذي كان يهرّب إلى الجمهور، ويُتداول على نطاق واسع. وكتب في ذلك الوقت قصائده الأكثر تنوّعًا من حيث الموضوعات، والتي تراوحت ما بين التاريخ إلى القضايا المجتمعية والعالمية، وحقوق الإنسان إلى جانب قصائده الفلسفية المتأملة لحياة الإنسان ومصيره. وحرضت قصائده المهرّبة من السجن شعراء آخرين، مثل رفيقه محمد حاشي دمع "غاريي" (1949-2012) إلى جانب شعراء أخرين، للمشاركة في السلسلة التي ستتحوّل في غضون سنوات إلى أهم سلسلة شعرية في الشعر السياسي الصومالي الحديث.
زاد النظام العسكري في فترة السبعينات من حُمى القومية الوطنية؛ وسعى بكل قواه لاستعادة الأراضي المفقودة؛ وشرع في دعم تمرد الإقليم الصومالي في كينيا، ومن ثم شنّ حربًا وحشية ومدمرة ضد إثيوبيا، في عام 1977، التي انضمت لتوها للمعسكر الشرقي، مع مجيء الانقلاب الذي نفذّه منغستو هيلا مريام ضد الملك هيلا سيلاسي، المدعوم من قبل الولايات المتحدة. لكن، وبشكل مفاجئ، انقلب الإتحاد السوفيتي على نظام سياد بري، واصطف مع نظام الديرغ الايثوبي، وأرسلت كل من اليمن الجنوبي وكوبا سرب طائرات وعشرات الآلاف من المقاتلين إلى الميدان، لدعم إثيوبيا على الأرض، وذلك بإيعاز من قيادة الاتحاد السوفيتي. وفي النهاية سُحق الجيش الصومالي بشكل مدمِّر. وبالنتيجة، أدت هذه الارتدادات إلى إحداث انقسامات داخل الجيش، تخللته محاولات ضباط تنفيذ انقلاب فاشل ضد بري، يتزعمهم العقيد عبد الله يوسف، ثم هربوا إلى دول الجوار، كينيا أولا ثم إثيوبيا، الدولة التي لتوّها خرجت من حرب مع الصومال. وهنالك أسسوا أول جبهة لإسقاط النظام: "الجبهة الديمقراطية الصومالية للإنقاذ" (SSDF).
خرج هدراوي من السجن في الثامن من أبريل عام 1978، قبل يوم من محاولة الانقلاب الذي قاده عبد الله يوسف وضباطٌ آخرون ضد سياد بري. ومنذ ذلك التاريخ دخلت الصومال مرحلة جديدة من التأزم الداخلي، وغرقت في انقسامات داخلية عنيفة. وتأسست جبهات في الخارج لإسقاط النظام الذي تحول إلى نظام دموي، يقصف المدن بالطائرات والفوسفور الأبيض، وجنّد مرتزقة من نظام الأبارتهايد الجنوب الإفريقي لسحق شعبه. كان هدراوي من ضمن المثقفين الذين قرروا محاربة النظام، والمشاركة في صفوف الجبهات المسلحة، وانضم إلى الحركة الوطنية الصومالية (SNM).
أثارت (وما تزال تثير) محاربة وإسقاط النظام العسكري بيد الجبهات المعارضة، المدعومة إثيوبيًا، سجالًا ساخنًا بين النخب الثقافية الصومالية بكافة تنويعاتهم: كيف نستعين بدولة لتوّنا خُضنا حربًا ضدها، دولة كنا نراها بالأمس القريب "عدوًّا وجوديًا لنا"، دولة ما تزال "تحتل" أراض صومالية؟ وتزايد إلحاح هذا السؤال عقب فشل جبهات المعارضة في تقديم بديل واضح، بعد سقوط النظام، فباستثناء (SNM) التي أعلنت انفصال المناطق الشمالية - صوماليلاند حالياـ وعودتها إلى الحدود الاستعمارية، هوت البلاد في أتون حرب أهلية ما زالت الصومال تُعاني من أحداثها المؤلمة.
باختيار هدرواي المشاركة في النضال ضد سياد بري، وانضمامه إلى الحركة الوطنية الصومالية التي تأسست 1982، وبعد مرور أربعين سنة من ذلك الموقف الذي انقسم بسببه الصوماليون لإسقاط نظام مافيوزي، ينقسم الصوماليون مرة أخرى اليوم، في مواقع التواصل الاجتماعي، لا حول صحة مواقف من أسقط النظام من عدمه، وإنما حول الإفرازات التي أنتجها إسقاط النظام. لقد دخل الصوماليون صراعات مريرة على معنى الدولة، بعد اضمحلال الدولة القومية التي قامت عليها سردية دولة ما بعد الاستقلال.
ينبع هذا الجدل (أو الصراع بكلمة أدق) من فشل تجربة الدولة القومية التي نادى بها الصوماليون، حيث أضحت التجربة الصومالية علامة لفشل الكيان القُطري نفسه. ومع اختلاف صيرورات كل بلد وتجربة ـ ارتدوا اليوم واقعيًا عن الحلم الوحدوي، حيث عادت الأقاليم الاستعمارية الخمسة بكياناتها الوطنية القُطرية، فجيبوتي نالت الاستقلال في عام 1977، وأعلنت عدم انضمامها إلى الصومال الكبير، وصوماليلاند أسست دولتها الخاصة بعد الحرب، وأعلنت رجوعها عن الوحدة عام 1991، بينما بات سكّان المقاطعة الشمالية الشرقية في كينيا مواطنين في الدولة الكينية، أما صوماليو إثيوبيا، فمع أنهم عانوا من عُسر تحولات تشكّل الدولة الأثيوبية، إلا أنهم يمتلكون اليوم إقليمًا فيدراليًا خاصًا بهم، ضمن إثيوبيا الفيدرالية الحالية. بقي الصومال الجنوبي، والذي يعيش انقساماته الداخلية مع خطاب رومانسية القومية على مستوى الخطاب، كما هو الحاصل في هذه الأيام في الأزمة القائمة حول مذكرة التفاهم بين صوماليلاند وإيثوبيا. حيث أعلن الرئيس الصومالي أن ايثوبيا تحتل أراضي صومالية، في إشارة إلى الاقليم الصومالي في إيثوبيا. وهو ما ردت عليه ايثوبيا على لسان نائب رئيس الوزراء الإيثوبي آدم فارح، وهو ينحدر من الاقليم على أنه خطاب مفاجأ.
وبالعودة إلى هدراوي، صحيح أن إعلان قيام ولادة صوماليلاند تم على يد الجبهة التي حارب في صفوفها، لكن هل كان هو موافقًا على الانفصال؟ ليس ذلك محسومًا. لكن الأكيد أن فشل الوحدة جاء نتيجة لتضاعيف انهيار الدولة المركزية، وإغراقها بحروب وصراعات داخلية. ورغم ذلك، من الجدير بالاهتمام ملاحظة أنه لم ينغلق بعد عودته على البقاء في صوماليلاند، كما فعلت باقي النخب الثقافية والوطنية الأخرى، لم يفعل هدراوي هذا، بل ظل يتحدث عن حلم الأمة الصومالية، وبقي وفيا لهذا الحلم. لقد شرع في مسيرة سلام في عام 2003 في الصومال، امتدت إلى مدينة كيسمايو الساحلية في أقصى الجنوب، برفقة زملائه الشعراء والكتاب والموسيقيين. كما كرّر ذات التجربة، في 2006، في غمرة الاجتياح العسكري الإثيوبي للصومال.
فقد الشاعر في سنواته الأخيرة إيمانه بالشيوعية الأممية، وفقد كذلك القدرة على مواصلة التجديد الشعري. كانت تجربته في المنفى البريطاني (1991-1999) مليئة بالخيبات. وعانى نوعًا من الانفصام بين ما يؤمن به في الصميم، ولا جدواه واقعياً، وهو ما نراه من قصيدته المدوية: Dabahuwan. والتي ينتقد فيها التحديث القسري في التجربة الصومالية ونتائجه الكارثية على الانسان الصومالي. مع ذلك، ورغم تضاعيف اغترابات هدراوي التي نشيرها، إلا أنه لم يتخل عن التمسك بوطنه وأمته الكبيرة. واستحالت هاجساً يشغله. وظل يتحدث عنها كتهويم يتجاوز الواقع.
ما يجعل هدراوي اليوم محل إجماع بين الصوماليين، هو أسلوبه الشعري الفريد، وإيمانه غير المساوم بالصومال الشامل. تتحدث قصائده إلى جميع الصوماليين، وتخترق انقساماتهم السياسية. على عكس أدباء آخرين، مالوا بإبداعهم إلى العشائرية أو المناطقية. والأهم من كل هذا، أنه جعل الشعر الصومالي يلمع في العالم. لكن طبعا ليس من أجل أن يُطلق عليه الصحافيون المرضى بالمركزية الغربية "شكسبير القرن الأفريقي". وهذا لقب يطلقه عليه الصحافيون الأجانب محاولة منهم تقريب الفهم لقرائهم. لكن هذا النوع من التماثل يهدف إلى إضفاء القيمة على الأعمال الشرقية، من خلال تماثلها مع الأسماء النظيرة الأوروبية. وهو افتراض ذلقٌ لمحاولة فهم لغة معينة أو ثقافة ما من خلال عدسة أخرى.
لنتساءل في الختام: ماذا بقي اليوم من الأحلام التي نافح عنها هدراوي طيلة نصف قرن وأكثر؟ لا نبالغ عندما نقول بقيت كلها. ما زالت الأمة الصومالية كأمة ثقافية، تشترك بالثقافة والتاريخ والوجدان، متمسكة به وبنهجه الفريد. هذا ما يفصحه لنا مشهد الالتحام حوله في ذكرى رحيله. لكن الأكيد أن الصوماليون سجلوا فشلًا في تشكيل أمة سياسية قائمة على المواطنة في دولة واحدة موحدة، وهو الفشل البادي من انهيار الدولة مع انهيار النظام القومي قبل ثلاثة عقود، واستحالة استعادتها حتى اليوم.
وتعد الثقافة اليوم نقطة الالتقاء الوحيدة للصوماليين، وسيتعين عليهم التمسك بإرث شاعرهم الخالد. كما أن عليهم الترويج لأعماله وترجمتها للجمهور العالمي الأوسع، الذي ينتمي إليه بفنه وأدبه وتراثه الرفيع، الم يُعلن الكاتب الأرجنتيني بورخيس ، إن تراث الأديب هو تراث العالم.