الثلاثاء 24 يونيو 2025
شهدت أفريقيا الوسطى، بين نهاية الحرب العالمية الثانية والسنوات الأولى من الاستقلال، تحولات سياسية واجتماعية ومؤسسية عميقة. في هذه المنطقة التي كانت تحت سيطرة استعمارية فرنسية صارمة، برزت في مستعمرتي الكونغو الأوسط (أو كما أصبح يسمى بالكونغو برازافيل( والغابون، خلال عقدين فقط، حياة سياسية متناقضة، وأحيانًا متفجرة. لقد كانت فترة مفصلية، تم فيها إدخال أولى أدوات الديمقراطية - كالاقتراع والانتخابات والأحزاب السياسية، والتمثيل البرلماني - ولم يكن ذلك نتيجة لنضال شعبي، بل كان بمبادرة من السلطة الاستعمارية الفرنسية؛ وقد اتسمت هذه الخطوة بطابع استراتيجي مزدوج وملتبس.
قدمت المؤرخة المتخصصة في التاريخ الأفريقي فلورانس بيرنو في كتابها "ديمقراطيات ملتبسة في إفريقيا الوسطى: الكونغو-برازافيل، الغابون" (1940–1965)، قراءة دقيقة لهذه الحقبة التأسيسية. مخالفةً للتفسيرات الجامدة التي تعزو التوترات المعاصرة إلى أبعاد تاريخية "إثنية" أو إلى علل بنيوية في الدول الأفريقية، تبيّن كيف أن النخب المحلية والناخبين والمؤسسات قد اغتنموا هذا الفضاء السياسي الناشئ لابتكار ثقافة سياسية جديدة، غالبًا في ظل استعجال وظروف غير مستقرة.
لقد كانت هذه المرحلة أكثر من مجرد انتقال من الاستعمار إلى الوطنية؛ بل اتسمت بسلسلة من التناقضات: انفتاح وقمع، مشاركة شعبية ومصادرة للسلطة، حداثة انتخابية وعودة منطق الهياكل التقليدية.
تتبع بيرنو من خلال تحليل مبني على وثائق أرشيفية وشهادات بل وملاحظات ومعاينات مباشرة، مسار نشوء الديمقراطية في أفريقيا الوسطى، حيث اصطدمت مساعي التحرر الجماعي دومًا بأشكال جديدة من السيطرة والهيمنة. إنها دعوة إلى الغوص في ماضٍ نابض ومعقد، وغالبًا ما يُجهل، حيث اختلط الحلم الديمقراطي، حتى حدود الدوار أحيانًا، بأوهام السلطة الاستعمارية.
الديمقراطية في أفريقيا الوسطى لم تكن ثمرة نضال جماهيري حر، بل جاءت هبة ملتبسة من النظام الاستعماري الفرنسي، صيغت بدقة لتوسّع هامش المشاركة دون تهديد هرم السيطرة
تبرز فكرة محورية في خضم تحليل فلورانس بيرنو: "الديمقراطية في مرحلة ما بعد الاستعمار لم تولد من اندفاعة شعبية لا تُقاوم، بل من إرث فُرض بشكل متناقض". فالحق في التصويت الذي منحته الإدارة الاستعمارية الفرنسية للأفارقة سنة 1945 لم يكن ثمرة نضال اجتماعي أو حركة تحرر جماهيري، بل هبة من الأعلى، صيغت بطريقة تُحكم السيطرة على آثارها.
صحيح أن ما تلا ذلك كان حراكًا سياسيًا كثيفًا، غير أنه تطوّر داخل إطار مختل. فقد استند النظام الانتخابي إلى كليات منفصلة بين الأوروبيين والأفارقة، ما أعاد إنتاج اللامساواة الاستعمارية. ومع ذلك، تمكنت النخب الأفريقية الصاعدة - نخب شابة ومتعلّمة، وغالبًا ما كانت متخرّجة من مؤسسات البعثة المسيحية -، من الاستفادة بذكاء من هذا الهامش لبناء ثقافة سياسية جديدة.
برزت شخصيتان أساسيتان في هذا المسرح الانتخابي الناشئ: فولبير يُولو في الكونغو وليون مبا في الغابون. كلاهما جسّد جيلًا من القادة القادرين على الإبحار في مياه السلطة الاستعمارية المتقلبة، وجذب التأييد الشعبي في الوقت نفسه. وقد تنوعت استراتيجياتهما وتعدّدت، من خطابات قومية وتحالفات مع الإدارة الاستعمارية، إلى ما تشير إليه بيرنو باعتباره توظيفًا خفيًا للشعوذة، كوسيلة للهيمنة والإبهار.
تجسّد هذه الثنائية ما يشير إليه عنوان الكتاب: فالديمقراطية هنا ليست مثالًا خطّيًا، بل بناء متقلّبا يتسم بإعادة تشكيل مستمرة، وتناقضات عميقة، وعنف كامن. وبعيدًا عن الكليشيهات العرقية، تصرّ بيرنو على الطابع غير المستقر والمتغيّر، وغير القابل للتنبؤ، للهويات السياسية التي عبرت تلك المرحلة.
لا تنظر بيرنو إلى الصراعات العرقية باعتبارها جوهرًا أزليًا، بل كاستراتيجيات سياسية نشأت من رحم اختلالات الاستعمار وأزمات التمثيل. فالتاريخ هنا ليس أرشيفًا من الخصومات، بل سجلًّا لصراع دائم من أجل المعنى والمكان والدور
أحد أكثر الإسهامات تجديدًا في هذا العمل يتمثل في قراءته للإثنية، لا كترسّب ثابت من الماضي، بل كاستجابة ظرفية لسياقات سياسية محددة. فالأحداث الدامية التي شهدها الكونغو عام 1959، حين تبلورت التوترات بصيغة إثنية، لم تكن تعبيرًا عن عداوات قبلية أزلية، بل كانت بالأحرى توظيفًا جديدًا لانقسامات قديمة بهدف تنظيم الصراع السياسي.
هذه القراءة الديناميكية تفكك فكرة قارة محاصرة في خصومات قبلية أبدية، وتدعو إلى النظر إلى أفريقيا الوسطى كمجال لإبداع سياسي، حيث تتطور أشكال السلطة والهوية والتمثيل السياسي باستمرار تحت تأثير السياقات التاريخية.
لم يكن الاستقلال مرادف للتحرر. فتصاعد استبداد نظامي يولو ومبا، وقمع كل معارضة، والتلاعب بنتائج الانتخابات، كلها عوامل قادت إلى أزمات سياسية كبرى. ففي الكونغو عام 1963، أدّت محاولة يولو فرض الحزب الوحيد إلى ثورة شعبية. فيما تدخلت فرنسا عسكريا، في الغابون عام 1964، لإعادة ليون مبا إلى الحكم بعد انقلاب.
تكشف هذه الأحداث هشاشة الدول ما بعد الاستعمار. فالسلطة، التي استحوذ عليها زعماء ذووا كاريزما سلطوية، أُغلقت سريعًا على نفسها. أما المجتمع، فظلّ حيًا ومتقدًا بالحراك، يزخر بنشاط نقابي وفكري وانتخابي كبير.
ما يُميز هذا الكتاب أيضًا هو منهجيته الصارمة. فـفلورانس بيرنو لا تكتفي بتحليل نظري، بل تبني عملها على وثائق غزيرة، تمزج بين الأرشيفات والمقابلات وسرديات الحياة والمصادر الإدارية. من دون أن تقع في فخ القراءة الاستعمارية أو الاستيعابية البحتة، تنجح في التقاط خصوصية المسار السياسي لأفريقيا الوسطى.
أما أسلوب الكتاب فيتميز بالسلاسة والغنى بالطرائف والوقائع، يمنحه بعدًا شبه روائي. حيث يكتشف القارئ عالمًا سياسيًا حيويًا، تلتقي فيه الشخصيات الرسمية بالمقاومات المجهولة، والممارسات الغامضة باستراتيجيات التملّص والتحايل على السلطة.
يبدو أنه بعد ثلاثين عامًا من الأحداث التي تناولتها فلورانس بيرنو في تحليلها، ونفس اللحن يتردد صداه في المشهد السياسي الراهن لبلدان أفريقيا الوسطى؛ فقد اهتزت منذ تسعينيات القرن الماضي- وخاصةً ابتداءً من العقد الثاني من الألفية الثالثة - كلٌّ من الكونغو-برازافيل والغابون على وقع موجات متتالية من المطالب الديمقراطية: مظاهرات شعبية وطعون انتخابية وحركات ودعوات إلى تداول حقيقي للسلطة. هذه الهزات، التي غالبًا ما تُقمع من طرف أنظمة سلطوية مترسخة، تجد جذورها العميقة في الديناميات المتناقضة للماضي الاستعماري وما بعد الاستعماري، كما تميط عنها بيرنو اللثام بوضوح.
إن كان الكتاب يتوقف عند عام 1965، إلا أن قيمته تتجاوز الإطار الزمني المحدد. فهو يقدّم للقارئ مفاتيح ثمينة لفهم منطق السلطة وشرعنتها؛ منطق لا يزال حاضرًا بقوة اليوم. يذكّرنا بأن السلطوية المعاصرة لا تُفسَّر فقط بإرادة الحكام في احتكار الدولة، بل أيضًا بتاريخ طويل من ثقافة سياسية تشكلت في ظل علاقة ملتبسة بالسلطة الاستعمارية: سلطةٌ جمعت بين القمع والإتاحة، بين الهيمنة وفضاء الاستراتيجية الشعبية.
في لحظة بدا فيها الاستقلال نهاية مشتهاة، لم يكن إلا بداية جديدة للسيطرة. فقد أغلقت النخب الحاكمة، بعد سنوات قليلة من رفع علم الوطن، دوائر القرار أمام الجماهير. وتحول الحلم الديمقراطي إلى مسرح مغلق، تُدار فيه السلطة عبر صناديق الانتخاب التي حُددت نتائجها مسبقًا
من أبرز إسهامات هذا العمل، أنه يعلمنا أن نفكر في الديمقراطية لا بوصفها نموذجًا جاهزًا ينبغي تقليده، بل باعتبارها بناءً تاريخيًا متغيرًا، تشكّل عبر التفاوض والتأويل المحلي والتجريب والصراع. فالديمقراطية، كما برزت في الغابون والكونغو-برازافيل خلال الأربعينيات إلى الستينيات، لم تكن مجرد نقل مؤسسي من أوروبا، ولا تطعيمًا ناجحًا أو فاشلًا على مجتمعات "تقليدية"، بل كانت ثمرة تكيّف استراتيجي دائم، تغلغل فيه التوتر بين الإدماج والإقصاء، بين الطموحات الجماعية والاستحواذ الفردي على السلطة.
وهكذا، فإن كتاب ديمقراطيات ملتبسة في إفريقيا الوسطى لا يكتفي بسرد تاريخ مغيّب، بل يدعونا إلى إعادة التفكير في أدواتنا التحليلية. إنه يفكك الثنائيات التبسيطية: بين التقليد والحداثة، بين العِرق والمواطنة، بين الاستعمار والسيادة. ويُظهر لنا أن ما نُسميه "ديمقراطية" قد يكون، بحسب السياق، أداة للمقاومة أو آلية للترويض، رافعة للتحرر أو وسيلة للضبط والتحكم.
في نهاية المطاف، يشكّل كتاب فلورانس بيرنو قراءة لا غنى عنها لمن يسعى إلى فهم المسارات السياسية لإفريقيا الوسطى في تعقيدها. فهو يكشف كيف أعادت المجتمعات المحلية باستمرار تشكيل مفاهيم السلطة والمشاركة، في مفترق طرق التأثيرات المختلفة. ويذكّرنا، أخيرًا، بأن الديمقراطية ليست عطاءً نهائيًا، بل ورشة مفتوحة دائمة، تُبنى بين وعود المستقبل وإرث الماضي الملتبس.