تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 15 مايو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
رأي

في الانسداد الصومالي

31 مارس, 2025
الصورة
Geeska Cover
Share

عرض الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود في رسالة رسمية بعث بها، منتصف مارس/ آذار الجاري، إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، منح واشنطن امتيازات تشغيلية حصرية في منشآت استراتيجية، تشمل قاعدتي بربرة وبلدوجلي الجويتين، وميناءي بوصاصو وبربرة. تبدو هذه الخطوة محاولة مزدوجة؛ لاحتواء تزايد المؤشرات على إمكانية اعتراف واشنطن بـصوماليلاند من جهة، ومن أخرى، لتعزيز الموقع السياسي للرئيس حسن شيخ محمود داخلياً، في ظل تصاعد التحديات التي تهدد استقرار سلطته في مقديشو.

ينظر إلى هذا التحرك ضمن سياق أوسع، يتداخل فيه السياسي بالجيوسياسي، فثمة إشارات متزايدة على أن إدارة ترامب -العائد بقوة إلى المشهد الدولي- قد تذهب في اتجاه الاعتراف بـصوماليلاند، وهو احتمال تعززه تحركات إقليمية ودولية وداخلية متقاطعة. لا سميا مع تزايد مركزية خليج عدن في ضوء التصعيد مع الحوثيين وإيران، في ظل حرب العدوان الإسرائيلي على غزة، وهو ما يزيد من أهمية التمركز الأميركي في هذا الممر البحري الحيوي. كما يبرز أيضا التمدد الصيني المتسارع في القرن الأفريقي بوصفه هاجساً استراتيجيا لواشنطن، خاصة مع تقارب المشهد تدريجياً مع صراع النفوذ في بحر الصين الجنوبي.

تأتي صوماليلاند – التي تُعد ثاني آخر دولة أفريقية تحتفظ بعلاقات رسمية مع تايوان – لتعرض نفسها شريكا استثنائيا للولايات المتحدة في مواجهة التمدد الصيني، ما يجعلها موضع اهتمام متزايد في واشنطن. من هذا المنطلق، يقْدم الرئيس حسن شيخ محمود بخطوة استباقية موضوعها عرض مغرٍ للإدارة الأميركية، يقوم على منحها موطئ قدم ثابت في مواقع حيوية، ضمن استراتيجية ترمي تحصين موقفه السياسي وموازنة النفوذ الصيني.

جاء في نص الرسالة أن هذه المنشآت "ستعزز من مشاركة الولايات المتحدة في المنطقة، وتضمن لها وصولاً عسكرياً ولوجستياً، وتمنع المنافسين الخارجيين من ترسيخ وجودهم في هذا الممر الاستراتيجي". يتقاطع هذا التحرك مع تصاعد نبرة التهديد التي يتبناها ترامب تجاه إيران، إذ عاد مؤخراً ليهدد طهران بـ"قصف لا مثيل له" ما لم تبرم صفقة تفاوضية معه.

يتنامى الزخم داخل دوائر الجمهوريين مع تولي ترامب الحكم لولاية ثانية نحو الاعتراف بصوماليلاند، مدفوعًا بتوصيات "مشروع 2025" الذي دعى إلى إعادة تموضع استراتيجي في المنطقة كتحوط من التراجع الأميركي في جيبوتي. وقد تُرجم ذلك في مشروع قانون قدّمه النائب سكوت بيري، في ديسمبر/ كانون الأول 2024، دعى إلى الاعتراف الرسمي بهرجيسا.

يجد هذا التحول المحتمل في السياسة الأميركية دعمه في عوامل متعددة: هيمنة الجمهوريين، ورؤية ترامب غير المرتكزة، بالضرورة، على دعم سياسة "الصومال الموحد"، والأهمية الجيوسياسية المتزايدة لصوماليلاند في مواجهة الصين ووكلاء إيران، فضلا عن نجاح ديمقراطيتها الداخلية، خصوصًا بعد الانتخابات الأخيرة التي اعتُبرت حاسمة لمسيرتها السياسية. ومع ذلك، يبقى الاعتراف خطوة غير محسومة بعد.

أقرّ الكونغرس الأميركي في 2023 مشروع قانون يُعزز الشراكة مع صوماليلاند، دون أن يمنحها اعترافًا رسميًا. اعتبر القانون، الذي رعاه السيناتور الجمهوري جيمس ريش، بمثابة تسوية مراوغة، جمعت بين دعم التعاون مع كيان مستقر وديمقراطي نسبيًا في القرن الأفريقي، وتجنب المس بسيادة الصومال. وقد تأكد ذلك في نسخة القانون المعدلة، بحذف عبارات "الشراكة الأمنية مع صوماليلاند" منها، ما مثّل انتصارًا نسبيًا لمعسكر وحدة الصومال. في المقابل، رأت هرجيسا في إقرار القانون انتصارًا دبلوماسيًا، يدفعها خطوة أخرى نحو الاعتراف الدولي.

خلافا لإدارة بايدن التي التزمت رسميًا بوحدة الصومال، تُبدى مؤسسات مثل البنتاغون اهتمامًا عمليًا بالتواجد في بربرة، فقد سبق لوفد من قيادة أفريكوم، في عدة مناسبات، زيارة بربرة، المدينة الساحلية المطلة على خليج عدن. ما يعكس تباينًا داخليًا في المواقف الأميركية تجاه قضية متشابكة، تمزج بين الأمن والاستراتيجية والجغرافيا السياسية.

خاضت سفارة الصومال في واشنطن عملية استباقية مع فوز ترامب، باستئجار شركات علاقات عامة في الولايات المتحدة، ووقّعت اتفاقية مع شركة الضغط الأميركية البارزة "BGR" بقيمة 600,000 دولار سنويًا، في ديسمبر/ كانون الأول 2024. (من السخرية أن الصومال يستقبل المساعدات من الولايات المتحدة نفسها لصرف الرواتب الحكومية). يتولى هذه المهام، أشخاص مثل: ليستر مونسون وسكوت آيزنر، للوقوف ضد التشريعات المؤيدة للاعتراف بصوماليلاند داخل الكونغرس الأميركي. كما يقوم السفير الصومالي الجديد في واشنطن، ضاهر عبدي، بحملة دبلوماسية نشطة لاحتواء الدعم المتزايد لصوماليلاند بين الجمهوريين والكونغرس، حيث وجدت مقديشو نفسها فجأة آمام ضغط متزايد يهدد سردية "الصومال الموحد".

في الجهة الأخرى، تبدو دبلوماسية صوماليلاند باهتة، إن لم تكن غائبة تمامًا، رغم تخصيص ميزانيات ضخمة لوزارة الخارجية. يروي بشير غوت، ممثل صوماليلاند النشط في واشنطن، أن أحد أعضاء الكونغرس أخبره بأن سبب تجاهل العالم لصوماليلاند هو "غياب الأزمات" فيها. كثيرا ما تكررت هذه الرواية، ما يكشف عن العبثية التي تحكم بوصلة البحث عن الاعتراف الدولي.

إن المستجد في رسالة الرئيس حسن شيخ الأخيرة، هو فقدان المجتمع الدولي أي أمل في بناء دولة حقيقية في الصومال الجنوبي، حيث يزداد الإسلاميون الجهاديون قوة، وتستمر الأزمة الدستورية؛ فالبلاد لا تزال بلا دستور دائم. وهناك قناعة أميركية، على الأقل لدى فريق ترامب في السياسة الخارجية بعدم جدوى بناء دولة في الصومال. (حتى الآن لم يتم تعيين فريقه حول افريقيا، ومن المتوقع ان تتضمن شخصيات مؤيدة لموقف صوماللاند أمثال بيتر فام)، وقطع المساعدات الأميركية التي كانت تدار بواسطة الوكالة الدولية للتنمية الأمريكية سوى دليلا على ذلك. وتستمر قوة حركة الشباب، التي استهدفت بالتفجير الرئيس حسن شيخ نفسه قبل أسبوع في العاصمة، وهو حدث أمني لم يتكرر منذ عهد الرئيس عبدالله يوسف (2004-2008).

يُضاف إلى ذلك الانقسامات السياسية الهائلة التي تعصف بالبلاد، والتي تعمّقت مع التعديلات الدستورية التي أقرها حسن شيخ، وتقضي بإعادة انتخابه عن طريق نظام حزبي ابتكره مع حاشيته المقربة. وهي مناورة سياسية يخوضها رغم رفض الشركاء السياسيين من الولايات الفيدرالية والنخب السياسية في مقديشو، لكن الأرجح أنها ستنتهي بتمديد حكمه لنفسه لعامين على الأقل، كما حدث مع سلفه محمد عبد الله فرماجو.

كما كان متوقعًا، جاء رد صوماليلاند بشأن عرض الحكومة الصومالية على واشنطن، معتبرة أن مقديشو لا تملك سيادة منح أصول تقع ضمن إقليم مستقل بحكم الأمر الواقع منذ عام 1991. ووصفت العرض بأنه "يائس"، ومحاولة استباقية للوقوف أمام الاعتراف الأميركي المحتمل باستقلالها. وأن الولايات المتحدة "تعرف من يجب أن تتعامل معه"، وفق ما صرّح به وزير خارجية صوماليلاند.

حدثت عملية مشابهة قبل عام، عندما أُبرمت اتفاقية مع إثيوبيا حول قاعدة عسكرية في لوغهيا، وأثارت استنكار الرأي الإقليمي، إلى أن تم إيقافها بتدخل من تركيا، وزار أبي أحمد مقديشو الشهر الماضي، رغم وصفه هناك، في الخطاب الرسمي للحكومة الصومالية، بأنه "عدو تاريخي يتوجب الجهاد ضده".

يمثل فقدان السيادة الأرضية على صوماليلاند إشكالية تواجه الحكومة الصومالية، فآخر زيارة لمسؤول صومالي للأصول المعنية؛ ميناء وقاعدة بربرة الجوية في صوماليلاند، تعود لزمن الدولة العسكرية في الثمانينيات في أحسن التقديرات. وحتى ميناء وقاعدة بوصو الجوية، في بونتلاند – لا يخضع لسيطرة الحكومة الصومالية، فقد قطعت بونتلاند علاقاتها مع مقديشو في مارس/ آذار الماضي بسبب خلافات حول التعديل الدستوري، إلا أن مقديشو تعتبر جميع هذه الأراضي جزءًا من أراضيها السيادية.

علّق المبعوث الخاص السابق لترامب لأفريقيا، بيتر فام عبر حسابه على موقع "إكس" بأن "مقديشو تمثل عبئًا سنويًا قدره مليار دولار على دافعي الضرائب الأمريكيين، لكن الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود يعتقد أن الأمريكيين أغبياء، لدرجة يمكنه عرض موانئ صوماليلاند وبونتلاند علينا، رغم أنه لا يسيطر على أحد منها".

اعتبر مراقبون، مثل كاميرون هدسون، الزميل البارز في برنامج أفريقيا بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أن الحكومة الصومالية تقدم هذا العرض وسيلة لدفع الولايات المتحدة للاعتراف بشرعية الدولة الصومالية على هذه المناطق. وعلى فرض صحة هذا الزعم، فإنه يبقى مؤشرا واضحا على انسداد المشروع الصومالي الذي تُبشر به النخب الوحدوية. لكن على الأرجح، في تقديري، أن حسن شيخ يخوض هذه المعركة من أجل حل مشاكله الداخلية، فالصومال عمليًا في تراجع إلى الوراء خلال حكمه. ولا يعدوا الأمر عن كونه محاولة إشغال الرأي العام المحلي بقضية صوماليلاند، وهي بمثابة ورقة توت تخفي خلفها انهيار كل التوافقات منذ عام 2004 لبناء دولة في الصومال.

من جانب آخر، نحن اليوم أمام انكشاف واضح لما تبقى من ورقة التوت التي كان المجتمع الدولي يتدثّر بها في تعامله مع الشأن الصومالي. فقد سبق لهذا المجتمع أن فرض نموذجًا قسريًا لبناء الدولة في الصومال عبر التدخلات العسكرية، ومنح الاعتراف السياديي عام 2013 حكومة مقديشو كوريث شرعي للجمهورية الصومالية التي قامت بعد الاستقلال. تحول هذا المشروع لاحقًا إلى منظومة أشبه ب"صناعة"، تُدار من قبل مجموعة ضيقة من الخبراء والسياسيين المنتفعين المقيمين بين مقديشو ونيروبي، تحت غطاء بناء نموذج فيدرالي للحكم، تسانده قوات إقليمية تتجدد في كل بضع سنوات.

لم تكن هذه العملية في جوهرها سوى ترتيب هش للتوفيق بين أمراء الحرب السابقين وقادة الحركات الجهادية والسياسيين العشائريين المحليين. ومع تهاوي هذا النموذج، بمرور الوقت، لأسباب ذاتية وخارجية، بات المجتمع الدولي اليوم يُقرّ بأن جمهورية الصومال لم تعد موجودةً عمليًا. فما تبقى هو كيان هشّ يعتمد على المانحين الدوليين، وقوات حفظ السلام الأفريقية، والانقاذات التركية العالجة،  والمدفوعة بمصالح اقتصادية واستراتيجية كقوى إقليمية صاعدة.

تأتي توجهات إدارة ترامب كصفعة جديدة تؤكد أن الصومال لا يُنظر إليه باعتباره دولة ذات سيادة، بل ساحة استراتيجية تُدار فيها القواعد العسكرية لمحاربة الإرهاب، في استمرار واضح للنهج الأمني الذي طبع المجتمع الدولي في مقاربته للمسألة الصومالية، متجاهلًا جذورها التي يشيح بوجهه عنها.

تظل صوماليلاند في الجهة المقابلة، نموذجًا آخر على انسداد الأفق السياسي على طريقتها الخاصة، فرغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على إعلانها استعادة الاستقلال من طرف واحد، لم تنجح في انتزاع اعتراف دولي رسمي، سواء عبر مسارات التفاوض التي استمرت عقدا كاملا، أو عبر محاولات فرض الأمر واقعيا من خلال توقيع اتفاقيات ثنائية ذات طابع استراتيجي، كحال مذكرة التفاهم الأخيرة مع إثيوبيا. رغم ما قُدم من هذه الخطوة بوصفها اختراقًا في مسار نيل الاعتراف، إلا أنها انتهت مع التدخل التركي.

كان لدي اعتقاد أو رهان طويل الأمد للمسألة الصومالية بوجوب حدوث تغيّر في موازين القوى، إما في داخل أحد الطرفين في صوماليلاند أو الصومال، أو في البيئة الإقليمية والدولية لتململ هذا الواقع من حاله. وفي ظل المستجدات الحالية، يبدو أن هذا الرهان يقترب من لحظة اختبار حاسمة مع إدارة ترامب والتحولات الإقليمية المتسارعة.