تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 19 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
رأي

فرنسا والآخر الأسود

9 سبتمبر, 2025
الصورة
فرنسا والآخر الأسود
Share

يمكن أن تُشعر كلمة noir (أسود) في فرنسا بالاستفزاز. فبينما يُفترض بها أن تصف السواد بطريقة مهذبة، غالبًا ما تُهمس بصوت خافت ووجوه محمرة خجلًا- أو يُستعاض عنها بالكامل بالكلمة الإنجليزية black تُلفظ بلكنة فرنسية ثقيلة، وكأن الكلمة الأجنبية قد تخفف من شحنتها السياسية. ومع ذلك، عندما أُعلن عام 2020 أن رواية أجاثا كريستي الكلاسيكية "العشرة السود الصغار"، أعيد تسميتها مؤخرا إلى "كانوا عشرة"، جاء الرد سريعًا وصاخبًا. شجبت الصحف الرقابة، المعلقون رثوا فقدان "التقاليد الأدبية"، القراء صبّوا جام غضبهم على "فيروس الصوابية السياسية".

فرنسا، التي يُفترض أن العِرق فيها "غير مرئي"، لم تجد مشكلة في الدفاع عن شتيمة عنصرية باسم الفن. هذا الحدث كشف تناقضًا لافتًا: كلمة noir سياسية، لكن كلمة nègre ثقافية. يفاخر في بلد بأنه "أعمى عن الألوان"، يظل السواد مرئيًا بشكل مفرط وفي الوقت نفسه عصيًّا على الفهم.

لطالما اعتُبرت كلمة noir مثقلة بعدم الارتياح في فرنسا، إذ يراها الفرنسيون البيض كلمة تحمل دلالات عنصرية، مشبعة ببقايا ماضٍ استعماري تفضّل فرنسا نسيانه. لذلك، أبقت فرنسا تاريخها الأسود طيّ الكتمان، متذرعةً بتاريخ "كوني" يُفترض أن يشمل السود، بينما يتم تهميش الأحداث المشحونة بالعرق. تحت ستار الانتماء غير المشروط، جرى ابتلاع الشتات الأسود في الهوية الفرنسية الأوسع، حتى تلاشى حضوره. "التاريخ الفرنسي هو التاريخ الأسود". ومع ذلك، وبرغم هذه الشمولية المفترضة و"العمى الخيّر" عن الاختلاف، لم يكن التاريخ الأسود يومًا في صدارة التاريخ الفرنسي. أحداث مصيرية لشعوب فرنسا الأفريقية في المهجر، مثل: الثورة الهايتية صُنّفت كـ"لحظات ثانوية". تاريخ الأنتيل وشخصياته مثل: توسان لوفرتور والأخوات ناردال أو فرانز فانون، ظلوا دائمًا في الظل أمام نابليون وفولتير وفيكتور هوغو. في باريس، يتم "تنسيق" السواد لا مواجهته.

توحي الأحداث الأخيرة بأن المد بدأ يتغير أخيرًا، فيدفع بالسواد من هامش النقاش غير المرئي إلى مركزه. هذا الربيع، افتتح مركز بومبيدو أول معرض مخصص حصريًا للفنانين السود في باريس: "Paris Noir: Circulations artistiques et luttes anticoloniales, 1950-2000". وعلى الذكرى المئوية لميلاده، عُرض في فرنسا فيلم سيرة عن حياة المفكر المناهض للاستعمار فرانز فانون، جالبًا أعماله أخيرًا إلى دائرة الضوء.

حمل افتتاح هذا المعرض والفيلم الأمل بأن فرنسا صارت مستعدة أخيرًا لأن ترى العِرق وتتكلم عنه، فبدل أن تبقى كلمة noir كلمة ثقيلة تُقال بابتسامة محرجة، ها هي تتصدر عنوان معرض في متحف كبير.

في بلد يفاخر بأنه "أعمى عن الألوان"، يظل السواد مرئيًا بشكل مفرط وفي الوقت نفسه عصيًّا على الفهم

يبدأ المعرض بلوحة تعريفية تحشد حولها الزوار، فيما تتلقفني كلمات مثل: "الوضع الأسود" و"الوعي الأسود" و"الزنوجة" و"العبودية" و"الأطلسي الأسود" و"الحقوق المدنية" و"المساواة". على الجدار المقابل خط زمني 1944–1999 بألوان حمراء وخضراء وصفراء صارخ: "أفريقيا حاضرة".

يبدو معرض Paris Noir، ممتدًا على طابق كامل، محتشدًا بأعمال فنانين سود عاشوا أو مرّوا بباريس بين 1944 و2000. كان الهدف هو التفكير في أثر "التجربة السوداء في باريس" على الفن، لكن الرسالة بدت متشوشة. يتوزع المعرض على ثلاثة عشر قسمًا و150 فنانًا، بأساليب مختلفة يولّدون صخبًا يصعب معه تتبع سردية واضحة عن العِرق في فرنسا.

تنقلت خلال ثلاث ساعات، مع مئات الزوار من عمل إلى آخر بحثًا عن فسحة أقل ازدحامًا. الجمهور متنوع على نحو نادر في فضاءات فنية فرنسية: ثنائيات شبابية وعائلات برجوازية وسياح أمريكيون وبريطانيون وعائلات من الأنتيل تبحث عن وجوه كاريبية. ومع ذلك، بقيت الموضوعات متناثرة، أقرب إلى إعادة إنتاج "الكلمات المفتاحية" الأولى.

المرور بين أقسام مثل: "باريس البان-أفريقية" و"السريالية الأفرو-أطلسية" و"العودة إلى أفريقيا" و"خريطة جديدة لباريس السوداء"، يترك الانطباع بأن السواد حاضر لكنه عصيّ على القراءة. لمن يملك صبرًا أو عينًا مدرّبة، تظهر خيوط حكاية عن المقاومة ومناهضة الاستعمار، لكنها تذوب أمام نزعة المعرض لتقديم فن "غير مهدد" لذاكرة فرنسا المريحة عن العِرق. باستثناء مقاطع لأنجيلا ديفيس، وذكر لمسيرة جيمس بالدوين عام 1963، يبدو المعرض مصممًا لتأكيد سماحة فرنسا وتفوّقها الثقافي. حتى قسم "طقوس وذكريات العبودية" يذكّر بـ"واجب الذاكرة" لكنه يتجاهل تقريبًا دور فرنسا في هذه التجارة القاتمة. النتيجة: فرنسا تُقدَّم كـ"عديمة اللون"، نموذجًا للتذكر، لكنها تتوقف قبل مواجهة مسؤوليتها التاريخية.

أبقت فرنسا تاريخها الأسود طيّ الكتمان، متذرعةً بتاريخ "كوني" يُفترض أن يشمل السود، بينما يتم تهميش الأحداث المشحونة بالعرق

إن التركيز على هجرة الفنانين السود إلى باريس يضع الدافع العنصري على عاتق بلدانهم الأصلية، فيدفع الجمهور للتساؤل: ما الذي جعلهم يبحثون عن باريس؟ وما الظروف التي دفعتهم لعبور العالم إليها؟ هذا المنظور يسهل على مركز بومبيدو تجنب مواجهة تحيزات فرنسا نفسها، ويجد دعمه في الإطار الزمني المختار للمعرض.

تبرز الهيمنة الأميركية، في الأروقة، بوصفها خيطا أوضح، مرآة للهرمية العرقية داخل فرنسا. كان الأميركيون الأفارقة، وما زالوا، في قمة "السلم الأسود"، كما تذكّرنا أسطورة جوزفين بيكر وتقديسها في البانثيون. علّق أحد الزوار مازحًا عند المخرج: "كأنه معرض عن غزو الأميركيين الأفارقة لباريس". يعزز هذا الإفراط في تمثيلهم فكرة أن "السود المقبولين" في فرنسا هم الأميركيون، غرباء جذابون يُحتفى بهم كاستثناء. والأهم أن ذلك يخدم صورة فرنسا عن نفسها: ملاذ آمن للإبداع، بعيد عن الفصل العنصري، مرحّب بالجميع. لكن يبقى الغائب الأساسي: موقع فرنسا نفسها في علاقتها بالسواد.

يستمر الصمت، بين أربعمئة عمل معروض، مولّدًا فراغًا حيث كان ينبغي أن تكون مراجعة للذات. يقدّم المعرض الفترة 1950–2000 كلحظة محورية للمقاومة وحركات الاستقلال، مستشهدًا بالزنوجة وبإيمي سيزير. غير أن اختيار 1950 بداية يتيح لبومبيدو تفادي مواجهة الفصول الأشد إزعاجًا: المعرض الاستعماري عام 1931 الذي عرض "المستعمرين" كعروض إثنوغرافية أمام ملايين الزوار، حملات النهب في غرب ووسط أفريقيا التي ما زالت غنائمها في المتاحف، والتشييء الذي واجهه الفنانون السود في فضاءات مثل: Revue Nègre حيث تحولت تنورة الموز لجوزفين بيكر إلى رمز لنظرة فرنسا الاستعمارية.

كانت البداية قبل 1950، تكشف أن حضور السود في الثقافة الفرنسية لم يبدأ بالمقاومة، بل بالاستعراض، وأن صعود الفن الأسود بعد الحرب لم يكن احتفالًا بالإبداع بقدر ما كان محاولة لاستعادة الإنسانية بعد أجيال من العروض اللاإنسانية.

السود الأميركيون هم "الآخر المقبول" في فرنسا- غرباء جذابون يُحتفى بهم كاستثناء

حقيقة لم تنشأ "الزنوجة" في الخمسينيات فقط، بل سبقتها عقود من التفكير والتجريب الفني في باريس. فمنذ عشرينيات القرن الماضي، برزت جوزفين بيكر في La Revue Nègre، وعزف لويس أرمسترونغ في باريس عام 1934، وازدهرت "المستعمرة الأميركية الأفريقية" في مونمارتر، حيث لجأ فنانون وكتّاب هربًا من الفصل العنصري. وفي المارتينيك، أسّس صالون الأخوات ناردال فضاءً فكريًا مهد لحركة الزنوجة. بل إن مجلات مثل: La Revue du Monde Noir (1931–1932) سبقت ما يقدمه المعرض من أمثلة لاحقة، لكن لحظات كهذه غابت عن Paris Noir.

تُفضَّل الخمسينيات بوصفها مرحلة بداية - في المعرض كما في فيلم Fanon - لكنها بداية مريحة لأنها تتجاهل عقودًا من الاستعراض والنهب والتشييء الذي سبق. والنتيجة: مشروعان بفراغات واضحة.إن إن مقاربة المعرض للسواد تقدمه منزوعا من الأبعاد السياسية؛ لكن فيلم Fanon سياسي حاد يهمش السواد. المعرض يضع الفنانين السود في إطار "فن جميل" متجانس، بينما الفيلم يجعل من فانون عدوًا لفرنسا، لكنه يتجنب الغوص في تجربته السوداء الأنتيلية.

رغم أن فانون أحد أبرز مفكري مناهضة الاستعمار عالميًا، يظل مهمشًا في فرنسا. فيلم عنه عُرض في أصغر قاعات باريس، وبعدد محدود من النسخ، بينما يحظى بورتريه جيمس بالدوين المشرق بمكان الصدارة في المعرض. أكثر من 100 ألف تذكرة بيعت في أسبوع، لكن ذلك لم يغيّر واقع أن فيلمًا عن مفكر فرنسي أسود بالكاد وجد موزعًا. المفارقة أن فرنسا ترحّب بالأفلام السوداء الكوميدية أو التي تعيد إنتاج الوضع القائم، لكنها ترفض ما يزعزع أساطيرها عن التنوير والكونية.

يفضح الفيلم نفسه هذا الالتباس: كلمة nègre تتكرر بوصفها إهانة في مساره، لكنها تمر دون تأمل في عمق التجربة السوداء. تبقى الكلمة جزءًا من اللغة اليومية ومن الإرث الأدبي حتى اليوم، شاهدة على ارتباك فرنسا في مواجهة تاريخها العرقي. وهكذا، حتى فيلم ثوري مثل Fanon يتجنب وضع السواد في المركز.

والمفارقة أن باريس اليوم تملأ قاعاتها بالمعارض والأفلام عن "التجربة السوداء"، لكنها لا تزال غير مستعدة لمواجهتها. Paris Noir يعرض الفن الأسود بلا سياسة، وFanon يمارس السياسة بلا سواد. كلاهما يكشف حالة ارتباك فرنسي أعمق: يمكن إظهار السواد، لكن من يقرر أي وجه منه يُرى وأي وجه يُخفى؟ حتى تصبح فرنسا مستعدة لمركزية "المحرج" و"الراديكالي" و"المحلي"، ستبقى تروي قصتها كبلد محرِّر، وتبقى التجارب السوداء، رغم حضورها الكثيف، عصيّة على القراءة.