تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 9 فبراير 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
رأي

فرنسا.. السقوط الحر في غرب أفريقيا

7 ديسمبر, 2024
الصورة
Getty Images
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يرحب برئيس تشاد محمد إدريس ديبي إيتنو قبل عشاء عمل حول الساحل مع قادة المنطقة في قصر الإليزيه في 16 فبراير 2022 في باريس، فرنسا. (تصوير تشيسنوت / غيتي إيماجز) GettyImages-1370965599.jp
Share

يوشك التواجد الفرنسي في منطقتي الساحل والغرب الأفريقيين أن يصبح جزء من الماضي، بعد دعوات كل من تشاد والسنغال إلى إجلاء القوات الفرنسية عن أراضيهما، لتنضم بذلك إلى الثلاثي (مالي والنيجر وبوركينافاسو) الذي قام بطرد الفرنسيين عام 2022. ما يُفقد باريس أهم الحدائق الخلفية لها في أفريقيا، وربما في العالم بأسره، فالتواجد الفرنسي المباشر بالمنطقة، وتحديدا السنغال، يعود إلى أواسط القرن الثامن عشر (1624).

استشعرت فرنسا مبكرا أن حضورها في دول المنطقة بات غير مرغوب فيه، من قبل الشعوب والقادة على حد سواء، فقامت، وفق مصادر لصحيفة رويترز، بإعداد خطة بجدول زمني عن مواعيد وكيفيات تخفيض قواتها، البالغ عددها نحو 2200 جندي، في دول المنطقة (تشاد والغابون وساح العاجل)، إلى 600 جندي فقط، تحتفظ فيها تشاد بالنصف؛ أي 300 بعدما كانت مستقرا لأكثر من 1000 جندي فرنسي. لكن باريس بعد قرار كل من نجامينا ودكار تجد نفسها في موقع المضطر، حيث ستكون مجبرة على مراجعة خطتها بشكل جذري.

الإجماع القائم بين بلدان المنطقة؛ قادة وشعوبا، على ضرورة تصفير الوجود الفرنسي، ليس محكوما بنفس الخلفيات، ولا مستندا إلى ذات المنطلقات، فدوافع تحالف دول الساحل (مالي وبوركينافاسو النيجر) لإخراجها القوات الفرنسية من أراضيها، غير مبررات كل من تشاد والسنغال. كما أن هناك تباينا على مستوى المرامي والأهداف؛ فبينما تسعى دول إلى تحقيق السيادة، تحاول أخرى استغلال الصراع بين القوى الكبرى، لتأمين حماية أكبر بتغيير الولاء والاصطفاف.

السنغال.. سيادة دون قطيعة

اعتبر الكثير من المراقبين أن هجوم قادة حزب باسيتف (الوطنيين) على فرنسا مجرد شعبوية عابرة، تنتهي صلاحيتها بعد فرز نتائج الانتخابات، فالتجارب السابقة أظهرت أن الحكام الجدد في دكار عادة ما ينقلبون إلى مدافعين عن مصالح باريس في البلد، وبمنطقة غرب أفريقيا برمتها. ما جعل شريحة من النخب الأفريقية تصف السنغال ب"فرنسا الصغيرة"، حتى إن مدينة سانت لويس كانت من أولى المناطق التي حازت عام 1827 صفة بلدية وطنية، ضمن مدن فرنسا ما وراء البحار.

جانبت تلك التخمينات الصواب هذه المرة، بإصرار رموز الحزب الجديد، الذي تأسس على يدي عثمان سونوكو عام 2014، على خطابهم المناهض للوجود الفرنسي، فقد كان جوهريا في برنامجهم الانتخابي، وكأنهم في المعارضة وليس الحكم. بل إن الأمر تحول من مجرد شعارات خطابية إلى قرارات سياسية، من قبيل تشكيل لجنة لمراجعة العقود المرتبطة بالموارد الوطنية (النفط والغاز والمعادن...) التي تسيطر عليها الشركات الفرنسية.
برز حجم التخوف الفرنسي من الماسكين بالسلطة في دكار، في الاستحقاقات التشريعية المبكرة، حيث نزل أنصار باريس بكل ثقلهم في تحالفات كبرى، بما في ذلك الرئيس ماكي سال الذي لم يستمتع بتقاعده السياسي، للحيلولة دون نيل الحزب الحاكم الأغلبية. تُعد باريس الشريك والمستثمر الأول في السنغال، بمجموع شركات يُقدّر ب 250 شركة، توفِر 30 ألف منصب شغل، وتُزود السوق السنغالية بنحو 17,5 ٪ من الواردات، ما مكنتها من الاستحواذ على 40٪ من مخزون الاستثمار الأجنبي في البلد.

يدرك الرئيس السنغالي باسيرو فاي مدى التغلغل الفرنسي في البلاد، لذلك تفادى بذكاء الانسياق وراء موجة العداء والتصعيد السائدة في المنطقة ضد كل ما هو فرنسي، لينحاز في المقابل نحو خطاب عقلاني مهادن، يربط مطالب الرحيل بتحقيق السيادة، كما جاء في مقابلة له مع وكالة الصحافة الفرنسية؛ "السنغال دولة مستقلة. إنها دولة ذات سيادة، والسيادة لا تتفق مع وجود قواعد عسكرية في دولة ذات سيادة"، ويضيف في رفض لأي تفسير أو تأويل، "يتعين على السلطات الفرنسية التفكير في إقامة شراكة مجردة من هذا الوجود العسكري... شراكة مميزة وشاملة كتلك التي تربطنا مع الكثير من الدول الأخرى".

تحاول فرنسا من جهتها تخفيف حجم الضربة؛ ففي الوقت الذي يتحدث الرئيس باسيرو عن استعادة السيادة السياسية (إنهاء التواجد العسكري)، يفتح رئيس الوزراء عثمان سونكو جبهة التحرير الاقتصادي، بتكرار مطالبه بالتخلي عن عملة الفرنك الأفريقي؛ العملة الاستعمارية التي تتحكم بها باريس في اقتصاد القارة الأفريقية، فاعترفت في رسالة، من الرئيس ماكرون إلى نظيره السنغالي، مطلع الشهر الجاري، بمسؤولية جنودها عن مجزرة الرماة، كما جاء في متن الرسالة، في ثياروري قرب داكار عام 1944. اعتراف وصفه باسيرو بالخطوة الكبيرة من جانب ماكرون، فمن شأن ذلك أن يكون سندا للمطالبة بالتعويض لذوي الضحايا.

أيا تكن الأثمان الذي ستدفعها فرنسا نظير هذا الاعتراف، فلن تبلغ ما ستفقد بإلغاء اتفاقية الدفاع (يوليو/ تموز 1974)، فأثارها تتعدى حدود السنغال نحو المنطقة، فبفضل هذه الأخيرة؛ أي الاتفاقية، حافظت باريس على مصالحها في موريتانيا، ما بين عامي 1977 و1978، كما أن تنفيذ عملية ليكورن في ساح العاج عام 2003 كان بناء عليها.

تشاد... بعيدا عن جبة باريس

انتقلت تشاد، بخلاف السنغال التي لا تزال عند حدود الكلام، إلى مطالبة الفرنسيين بالشروع في إلغاء اتفاق التعاون الدفاع المعدل عام 2019 بين البلد، كما صرّح بذلك كريستوف لوموان؛ المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية، "فرنسا تعتزم مواصلة الحوار مع نجامينا من أجل وضع توجهات إلغاء اتفاقيات الدفاع موضع التنفيذ".

جاء القرار ساعات قليلة بعد زيارة جان نويل بارو، وزير الخارجية الفرنسي، إلى تشاد في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني، حيث أعلن نظيره التشادي، عبد الرحمن كلام الله، أن "حكومة تشاد تُبلغ الرأي العام الوطني والدولي بقرارها إلغاء اتفاقية التعاون الدفاعي الموقعة مع الجمهورية الفرنسية". وأضاف بلغة سياسي يرفض الوصاية الأجنبية، "فرنسا شريك أساسي، ولكن يجب عليها الآن أن تأخذ بعين الاعتبار أن تشاد قد نمت ونضجت، وأن تشاد دولة ذات سيادة، وتشعر بالغيرة الشديدة على سيادتها".

اعتبر الرئيس التشادي، محمد إدريس ديبي، في تعليقه على قرار بلاده، خلال مؤتمر صحفي بمناسبة الذكرى 34 ليوم الحرية والديمقراطية، أن الاتفاق "عفا عليه الزمن، ولم يعد يتوافق مع الحقائق الأمنية والجيوسياسية والاستراتيجية في الوقت الراهن"، وأضاف في اتهام مبطن للقوات الفرنسية فوق التراب التشادي، "الاتفاق لا يقدم لنا أي قيمة مضافة حقيقة على الصعيد العسكري، حيث نواجه وحدنا تحديات متنوعة وخطيرة، لا سميا الهجمات ذات البعد الإرهابي".

خطاب بنبرة تصعيدية من ديبي، بخلاف لغة باسيرو، فالرجل يتحدث عن حاجة تشاد إلى تصحيح أوجه القصور في علاقاتها الدولية، واختيار أشكال وشركاء تعاونها الدولي بشكل مستقل، وفقا لأولوياتها الوطنية. وكأنه يشير إلى التوجه شرقا نحو روسيا، وإن لمّح إلى أن "بلاده لا تتبع بأي حال من الأحوال منطق استبدال قوة بأخرى، ناهيك عن اتباع نهج تغيير السيد".

كلام يتناقض مع تطور مجريات الأحداث في البلد، فقد شاركت القوات التشادية في تدريبات مشتركة مع قوات دول تحالف الساحل، في مايو/ آيار 2024. وأكده، قبل ذلك، الصراع الدائر في دواليب القصر الرئاسي بين قادة يدفعون ديبي نحو موسكو، أمثال: رئيس الأركان إدريس يوسف بوي والأمين العالم لرئاسة الجمهورية أحمد علابو، ومن يصِرون على البقاء في كنف باريس، والذي انتهى بإعفاء الجنرال أحمد كوجري (سيرج بينولت)، رجل فرنسا في تشاد، من منصب مدير للوكالة الوطنية للأمن.

تغادر القوات الفرنسية تشاد؛ حليفها الرئيسي في وسط القارة، بعد أكثر من ستة عقود من التواجد هناك، في ضربة أخرى مباغتة لباريس في أفريقيا، وعلى وشك أن تغادر السنغال أيضا، ربما في القادم من الأسابيع أو الشهور، فالظاهر أن الماسكين بزمام السلطة في داكار، لن يقبلوا من باريس أنصاف الحلول، على غرار ما حدث زمن الرئيس عبد الله واد (2000-2012). لقد طرح بدوره فكرة السيادة العسكرية، دون أن في ينجح سوى في تقليص أعداد القوات من 1200 إلى 500 جندي، وذلك في السنوات الأخيرة من ولايته الثانية (2010).   
  
تتجه فرنسا إلى الرحيل، بشكل شبه كلي، عن غرب أفريقيا، فتعداد قواتها تراجع من عشرات الآلاف إلى بضع مئات من القوات في الغابون وساح العاجل، وحتى في القرن الأفريقي الذي كان شبه مستعمرة فرنسية حتى تسعينيات القرن الماضي، صار الجيش الفرنسي الآن جنبا إلى جنب الجيش الأمريكي والجيش الصيني وحتى القوات التركية. من جهته، يتجه الرئيس إيمانويل ماكرون إلى تأكيد أطروحة ليزلي فارين؛ مديرة معهد دراسات العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس، في كتابها "إيمانويل ماكرون في منطقة الساحل: رحلة الهزيمة".