تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

السبت 8 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
رأي

فلسفة الألم في زمن الحرب: من يدفع الثمن في المأساة السودانية؟

5 نوفمبر, 2025
الصورة
فلسفة الألم في زمن الحرب: من يدفع الثمن في المأساة السودانية؟
Share
"ستنتهي الحرب، ويتصافح القادة، وتبقى تلك العجوز تنتظر ولدها الشهيد، وتلك الفتاة تنتظر زوجها الحبيب، وأولئك الأطفال ينتظرون والدهم البطل. لا أعلم من باع الوطن ولكنني رأيتُ من دفع الثمن." (محمود درويش)

من يدفع الثمن الحقيقي للحروب؟ هل يمكن للإنسان أن يظل إنسانًا وسط الانهيار الشامل للقيم؟ وأي معنى يمكن أن يحتفظ به الوجود حين يتحول الوطن إلى مقبرةٍ جماعية مفتوحة؟ ثم هل تنتهي الحرب فعلًا حين تتوقف البنادق، أم تستمر في ذاكرة من فقدوا كل شيء؟ هذه الأسئلة تمثل المدخل الفلسفي لفهم مأساة السودان اليوم، حيث يتحول الواقع اليومي إلى اختبارٍ دائمٍ لمعنى الحياة ذاتها.

العبارة التي كتبها محمود درويش تختصر ببراعة المشهد الإنساني الذي يعيد نفسه في كل حرب. ففي السودان، يتجاوز النزاع حدود السياسة إلى عمق المأساة الإنسانية، حيث يتحول الوجود الفردي إلى مقاومةٍ مستمرة ضد الموت، والكرامة إلى آخر ما يمكن الدفاع عنه. هذا المقال محاولة لقراءة الحرب السودانية من منظورٍ فلسفيٍّ وأخلاقيٍّ، يطرح السؤال المركزي: كيف يتحول الإنسان من فاعلٍ في التاريخ إلى ضحيةٍ لخرابه؟

تشكّل الحروب واحدة من أكثر الظواهر التي اختبرت عبر التاريخ قدرة الإنسان على تجاوز المعاناة وحدود الأخلاق. ومع اندلاع النزاع المسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في السودان منذ عام 2023، أًعادت المأساة السودانية إلى الواجهة أسئلة فلسفية حول معنى الحرب، والعدالة، والإنسانية في زمن الانهيار. فقد تنتهي المعارك سياسيًا، بينما تبقى جراح المدنيين مفتوحة، وتتحول الحياة اليومية إلى مسرحٍ دائم للانتظار والفقد. هذا المقال يحاول مقاربة الحرب في السودان من منظورٍ فلسفي وإنساني، للكشف عن من يدفع الثمن الحقيقي للحرب، وعن الكيفية التي تتقاطع فيها السياسة مع الأخلاق، والعنف مع فكرة الوجود ذاته.

الحرب في السودان كأزمة وجودية وإنسانية

إن النزاع الداخلي في السودان وفق تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية، قد أودى بحياة عشرات الآلاف من المدنيين، وهجّر أكثر من أحد عشر مليون شخص. هذا الوضع أنتج مأساة مركّبة، تتجاوز حدود العنف المادي إلى مستوياتٍ أعمق من الانهيار النفسي والاجتماعي. فالمدنيون السودانيون يعيشون حالةً من التهديد الدائم، إذ لا وجود لمناطق آمنة، ولا ضمانٍ للحد الأدنى من الكرامة الإنسانية.

تعبّر الحرب، بوصفها ظاهرة فلسفية، عن انقطاع العلاقة بين الإنسان والعالم، كما يشير ألبير كامو في أسطورة سيزيف حين يصف العبث بأنه مواجهة بين التوق الإنساني إلى النظام والفوضى التي تفرضها الحياة. وفي السودان، يتجلى هذا العبث من خلال عجز الإنسان عن فهم ما يجري حوله، وانعدام القدرة على السيطرة على مصيره. فقد تحوّلت الحرب هناك من صراعٍ سياسي إلى اختبارٍ يوميٍّ للبقاء، حيث يتحول الفعل الإنساني إلى مجرّد مقاومة للبقاء على قيد الحياة.

إن الحياد الدولي في مواجهة الكارثة السودانية لا يمكن اعتباره موقفًا قانونيًا فحسب، بل موقفًا أخلاقيًا يُشرعن استمرار الألم. وفي ضوء هذا الفشل، يمكن القول إن العدالة في زمن الحرب تظل وعدًا مؤجلًا، لا يتحقق لا في الذاكرة، ولا في الواقع

من المنظور الأخلاقي، تطرح الحرب في السودان سؤالًا عميقًا حول العدالة والمسؤولية والكرامة الإنسانية...، فبينما تُرفع شعارات الدفاع عن الوطن أو الشرعية، يبقى المدنيون الحلقة الأضعف. كما تتجسد المأساة الأخلاقية حين تُرتكب الجرائم باسم الانتماء أو حماية الدولة، وحين تُستباح القرى والمدن في إطار من الصمت الدولي المطبق.

يؤكد الفيلسوف جون رولز، في نظريته حول العدالة كإنصاف، على أن العدالة الحقيقية تقاس بمدى حماية أضعف الفئات في المجتمع. انطلاقًا من هذا المبدأ، يتضح أن الحرب في السودان تمثل فشلًا أخلاقيًا مزدوجًا: داخليًا من خلال ممارسات العنف العشوائي ضد المدنيين، وخارجيًا عبر عجز المجتمع الدولي عن توفير الحماية والمساعدات الإنسانية للمدنيين الأبرياء. إن الحياد الدولي في مواجهة الكارثة السودانية لا يمكن اعتباره موقفًا قانونيًا فحسب، بل موقفًا أخلاقيًا يُشرعن استمرار الألم. وفي ضوء هذا الفشل، يمكن القول إن العدالة في زمن الحرب تظل وعدًا مؤجلًا، لا يتحقق لا في الذاكرة، ولا في الواقع.

فشل البنية الأخلاقية للنظام الدولي

تُظهر التجربة السودانية أن الحرب لا تقتصر على المعارك الميدانية، بل تمتد إلى تفكيك المعنى الإنساني ذاته. فعندما تفقد الأم ابنها، أو ينتظر الطفل عودة والده دون جدوى، تتحول الذاكرة الجماعية إلى مستودعٍ للألم. وهكذا، تصبح الحرب ليست فقط حدثًا زمنيًا محدودًا، بل بنية مستمرة تعيد إنتاج نفسها في المخيال الشعبي والسياسي. من منظورٍ وجودي، يمكن القول إن الحرب في السودان أعادت تعريف الإنسان بوصفه كائنًا هشًا في مواجهة قوى تتجاوز إرادته.

وفقًا للمفكر الوجودي جون بول سارتر: الحرية لا تكتسب معناها إلا عبر الاختيار في مواجهة القهر. في هذا السياق، يغدو استمرار الإنسان السوداني في الحياة، رغم النزوح والموت والجوع، فعلًا وجوديًا بامتياز. كما أن توزيع امرأةٍ لخبزها على الجيران، أو تعليم الأطفال في خيام النزوح...، هو فعل مقاومة رمزية ضد العبث، لأن تلك الممارسات اليومية الصغيرة تُعيد للوجود معناه الأخلاقي المفقود.

إن هذا التمسك الهادئ بالوجود هو أعظم فعل فلسفي يمكن أن يقدمه الإنسان في وجه الحرب، لأنه يعيد تعريف المعنى، ويبرهن أن الكائن البشري قادر على تحويل الألم إلى فعلٍ للخلق لا أداةٍ للفناء

تُبرز الحرب في السودان هشاشة النظام الأخلاقي العالمي، الذي يتعامل مع المآسي الإنسانية بمنطق المصالح السياسية. فالمجتمع الدولي، على الرغم من امتلاكه أدوات الضغط والدبلوماسية، يكتفي غالبًا ببيانات التنديد والشجب. هذا الصمت يعبّر عن أزمة قيمية عالمية، حيث تُختزل العدالة إلى قضية تفاوضية، ويُستبدل الواجب الأخلاقي بالبراغماتية السياسية.

دعا الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في مشروعه عن السلام الدائم إلى تأسيس منظومة أخلاقية كونية تضمن كرامة الإنسان في كل مكان. لكن المأساة السودانية تشير إلى أن هذا الحلم لم يتحقق بعد. فحين تُمنع المساعدات، وتُستباح المدن، وتُهمل صرخات الجياع، تتراجع الكرامة الإنسانية إلى مستوى التشييء، ويصبح الإنسان مجرد رقمٍ في تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية.

الأمل كموقف فلسفي

على الرغم من عمق المأساة التي يعيشها السودان، تظل في زوايا الحياة شعلات صغيرة تقاوم الفناء، وتتمسك بالاستمرار كأنها تقول للعالم إن الخراب لا يملك الكلمة الأخيرة. في الأسواق المهدمة، في ضحكات الأطفال التي تخترق هدير القصف، في الأغاني التي تُغنّى على أنقاض البيوت، تتجلى إرادة الوجود في أبهى صورها. هذه التفاصيل الصغيرة تشكل موقفًا فلسفيًا عميقًا، يعلن رفض الانسحاب أمام العدم، وإصرار الإنسان على استعادة المعنى حتى حين يُسلب منه كل شيء. فالأمل في السودان يتجسد في أفعالٍ يوميةٍ تحمل عمقًا تاريخيًا وإنسانيًا.

في السودان، يتجلى هذا العبث من خلال عجز الإنسان عن فهم ما يجري حوله، وانعدام القدرة على السيطرة على مصيره. فقد تحوّلت الحرب هناك من صراعٍ سياسي إلى اختبارٍ يوميٍّ للبقاء، حيث يتحول الفعل الإنساني إلى مجرّد مقاومة للبقاء على قيد الحياة

يرى الفيلسوف إرنست بلوخ، أن الأمل قوة تدفع التاريخ إلى الأمام، طاقة تتجدد كلما حاول العالم الانطفاء. في قلب الخراب، يتخذ الأمل شكل مقاومةٍ صامتةٍ ضد اليأس، إذ يواصل الناس حياكة يومهم الممزق بخيوط من الإصرار، ويمنحون للحياة مبررًا جديدًا كي تُولد من الرماد. إن هذا التمسك الهادئ بالوجود هو أعظم فعل فلسفي يمكن أن يقدمه الإنسان في وجه الحرب، لأنه يعيد تعريف المعنى، ويبرهن أن الكائن البشري قادر على تحويل الألم إلى فعلٍ للخلق لا أداةٍ للفناء.

في الأخير، تُظهر الحرب في السودان أن الثمن الحقيقي لا يُدفع في ميدان المعركة، بل في تفاصيل الحياة اليومية للمدنيين. فمن يدفع الثمن هو الإنسان الذي فقد المأوى والكرامة، والمرأة التي تبحث عن ابنها، والطفل الذي لم يعرف معنى الأمان. ستنتهي الحرب رسميًا عندما تتوقف البنادق، لكنها تظل مستمرة في الذاكرة وفي وجدان الأحياء. ويبيّن التحليل الفلسفي للمأساة السودانية أن الحرب ليست قدرًا مفروضًا، بل نتيجة لانهيار المنظومة الأخلاقية والسياسية معًا. كما أن إعادة بناء السودان لن يتحقق عبر اتفاقات القادة فقط، بل عبر استعادة المعنى الإنساني المفقود. ومن ثمة، فكلمات محمود درويش تبقى الشاهد الأصدق على ذلك: فالقادة يتصافحون، أما الذين يدفعون الثمن، فهم الذين يعيشون الحرب في صمتٍ كل يوم.