الخميس 15 مايو 2025
شهدت منطقة الساحل الأفريقي خلال السنوات الأخيرة تحوّلات جيوسياسية عميقة، ترافقت مع انسحاب تدريجي للقوى الغربية، وعلى رأسها فرنسا، وتزايد لافت في الحضور الروسي، الذي اتخذ أشكالًا غير تقليدية، أبرزها مجموعة فاغنر التي باتت تُعدّ الذراع الأمنية والعسكرية غير الرسمية للكرملين في القارة. منذ ظهورها في المشهد الأفريقي، لم تقتصر على كونها شركة أمنية خاصة تقدم خدمات عسكرية، بل تحوّلت تدريجيًّا إلى أداة استراتيجية ضمن السياسة الخارجية الروسية، تعمل على تعزيز النفوذ في مناطق النزاع والفراغ السياسي.
تكشّف مع مرور الوقت، أن وجود فاغنر في أفريقيا ليس تحرّكًا عشوائيًّا أو ظرفيًّا، بل تحكمه معادلات مدروسة ومؤشّرات واضحة، تتقاطع فيها الأبعاد الأمنية بالاقتصادية، والتكتيك العسكري بالاستثمار في الولاءات والنفوذ السياسي. لقد شهدت هذه القوة الأمنية تحوّلًا نوعيًّا، من مجرد مجموعة مرتزقة تعمل بعقود خاصة، إلى أداة تأثير روسي تمارس دورًا مزدوجًا، تَمثَّل في حماية الأنظمة، وتأمين المصالح الروسية في القارة الأفريقية.
تشير التحقيقات والدراسات، إلى أن مجموعة فاغنر تأسست في أوكرانيا عام 2014، خلال الصراع الروسي الأوكراني على إقليم دونباس، على يد الضابط السابق ديمتري أوتكين، قبل أن تنتقل إدارتها إلى "طباخ بوتين"، يفغيني بريغوجين. وكانت في بداياتها مجرّد شركة أمنية خاصة، لكن طبيعة عملياتها ونوعية الأسلحة التي تستخدمها، كشفت أنها ليست كيانًا تقليديًّا، بل أداة غير رسمية للكرملين.
تنشط هذه المجموعة العسكرية ذات الحضور الغامض، والأدوار المتعددة في عدد من البلدان الأفريقية المضطربة منذ سنوات، حيث لم يقتصر دورها على الجانب العسكري فقط، بل امتدت أنشطتها إلى الاقتصاد والتجارة، لتتحوَّل شيئًا فشيئًا إلى أداة متعدّدة الوظائف ضمن الاستراتيجية الروسية في القارة. وفي الآونة الأخيرة، بات ارتباطها بالكرملين أكثر وضوحًا، خاصة بعد إعادة هيكلتها تحت مِظلَّة "الفيلق الأفريقي"، وهو التشكيل الذي يُنظر إليه على أنه النسخة الرسمية، أو شبه الرسمية لفاغنر في مرحلة ما بعد بريغوجين.
تُظهر الاتفاقيّات الموقَّعة بين روسيا والدول الأفريقية تنوّعًا في طبيعتها ومضامينها، إذ تتراوح بين اتفاقيَات عامة ذات طابع بروتوكولي، وأخرى أكثر تخصّصًا تتضمّن بنودًا تتعلّق بتوريد الأسلحة، وتوفير حقوق الوصول إلى الموانئ والقواعد العسكرية
اشتهرت هذه المجموعة التي تأسست في الظل، بشعارها المثير، دائرتان إحداهما تتضمن اسمها، والأخرى مرسوم بداخلها جمجمة، في إحالة مباشرة إلى الطابع العنيف والدموي لعملياتها. وقد حملت اسم الموسيقار الألماني "ريتشارد فاغنر"، المفضّل لدى الزعيم النازي أدولف هتلر، وهي دلالة رمزية لا تخلو من رسائل أيديولوجية في سنوات التأسيس الأولى.
تغفل هذه الصورة النمطية، رغم رمزيّتها، الطابع الحقيقي لطبيعة عمل فاغنر، إذ لم تكن مجرد فرقة مرتزقة، بل شبكة متشابكة من المصالح، تمتدّ من ميدان المعركة إلى مناجم الذهب والماس، ومن غرف العمليات إلى غرف الاجتماعات الاقتصادية. وفي أفريقيا تحديدًا، لعبت المجموعة أدوارًا مُركَّبةً، تراوحت بين دعم الأنظمة السياسية الهشّة، وتوقيع عقود استثمارية مقابل خدمات أمنية، مما جعلها فاعلًا جيوسياسيًّا أكثر من كونها مجرد كيان عسكري.
شرعت مجموعة فاغنر الروسية في بناء شبكة مُعقَّدة من العلاقات والنفوذ في القارة الأفريقية، تجاوزت الطابع الأمني المباشر، لتشمل جوانب اقتصادية واستراتيجية، مستفيدة من هشاشة المؤسسات المحلية، وتراجع النفوذ الغربي، ففي إطار اتفاقية الدفاع المشترك بين موسكو وبانغي، قامت فاغنر بتدريب نحو 2000 عنصر من القوات الحكومية الأفرووسطية، إلى جانب توفير الحماية للقيادة السياسية، وتأمين منشآت حيوية. وقد منح هذا التمركز لموسكو قدرة غير مباشرة على التأثير في القرار السياسي والعسكري داخل الدولة، عبر واجهة محلية رسمية، لكن مرتهنة أمنيًّا.
في مالي، يُقدّر عدد مقاتلي فاغنر بنحو 3000 عنصرا، يمركزون في قواعد عسكرية كانت حتى وقت قريب تحت إشراف القوات الفرنسية، في مشهد يعكس تحوّلًا حادًا في خارطة التحالفات الإقليمية، لا يحمل فقط بُعدًا أمنيًّا، بل يضرب العمق الرمزي لفرنسا في غرب أفريقيا، ويعزّز فكرة "البديل الروسي" لدى النخب الحاكمة، التي تبحث عن شركاء لا يثقلون التعاون بشروط سياسية أو حقوقية.
أما في السودان، فقد كشفت صحيفة نيويورك تايمز، أن فاغنر حصلت على عقود لاستغلال مناجم الذهب، وهو ما يكشف البعد الاقتصادي الذي بات ملازمًا للانتشار العسكري. فوجود فاغنر لا يقتصر على تقديم خدمات أمنية، بل يتقاطع مع مصالح اقتصادية استراتيجية، تتيح لموسكو تمويلًا بديلًا للعقوبات الغربية، وتُوفّر لها موطئ قدم في أسواق المعادن الحيوية.
شرعت مجموعة فاغنر الروسية في بناء شبكة مُعقَّدة من العلاقات والنفوذ في القارة الأفريقية، تجاوزت الطابع الأمني المباشر، لتشمل جوانب اقتصادية واستراتيجية، مستفيدة من هشاشة المؤسسات المحلية، وتراجع النفوذ الغربي
تشير التقديرات إلى وجود حوالي 1500 مقاتل روسي في ليبيا، يتمركزون في مواقع استراتيجية، أهمها قاعدة الجفرة الجوية وسرت. ويأتي الحضور في ليبيا، ضمن رؤية أوسع لتعزيز الوجود الروسي على سواحل البحر المتوسط، مما يضفي بعدًا جيوسياسيًّا على عمليات فاغنر، يتجاوز ليبيا نفسها، ليطال التوازنات العسكرية والأمنية في الجوار الأوروبي، وتحديدًا في الحوض الجنوبي لحلف الناتو.
كما وسّعت المجموعة وجودها في دول أخرى، مثل: النيجر وتشاد ومدغشقر وبوركينا فاسو والكاميرون وغينيا الاستوائية وكينيا والكونغو الديمقراطية وأنغولا وموزمبيق وزيمبابوي وجنوب أفريقيا وجنوب السودان، حيث تشارك في مهام تدريبية، واستخباراتية، وتقديم الدعم اللوجستي، من خلال الشركات والمؤسسات، والحضور العسكري، والتأثير السياسي.
دول تحت الظل: خريطة النفوذ الروسي المتنامي في القارة الأفريقية
تُظهر الاتفاقيّات الموقَّعة بين روسيا والدول الأفريقية تنوّعًا في طبيعتها ومضامينها، إذ تتراوح بين اتفاقيّات عامة ذات طابع بروتوكولي، وأخرى أكثر تخصّصًا تتضمّن بنودًا تتعلّق بتوريد الأسلحة، وتوفير حقوق الوصول إلى الموانئ والقواعد العسكرية. فضلًا عن برامج تدريب الضباط الأفارقة في المؤسسات العسكرية الروسية، واستخدام المستشارين العسكريين الروس. وتعكس الأرقام الصادرة عن قاعدة بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، مدى تعاظم الدور الروسي كمزود رئيسي للأسلحة إلى القارة، حيث بلغت حصّة روسيا من واردات الأسلحة الأفريقية نحو 44٪ بين عامي 2017 و2021.
يُلاحظ تصاعد صادرات الأسلحة الروسية إلى أفريقيا من 1.1 مليار دولار إلى 2.1 مليار دولار في غضون عقد من الزمان (2009 – 2019)، بما يشير إلى منحى متسارع في توطيد النفوذ العسكري الروسي في القارة. وقد جاءت مصر والجزائر على رأس قائمة الدول المستوردة، بإجمالي واردات بلغ 8 مليارات دولار، و3.1 مليارات دولار على التوالي خلال الفترة من 2009-2018.
يطرح هذا البُعد تساؤلًا مهمًّا يدور حول ما إذا كانت هذه المجموعة أداة أمنية تسعى لتحقيق الأمن في القارة، أم هي ذراع قمعية ضد المدنيين الأفارقة، فنجد أن فاغنر تُقدّم نفسها جهة مؤمّنة، لكن في ذات الوقت ممارساتها التي تنفّذها في الواقع، تشهد عمليات عنف وانتهاك لحقوق الإنسان، وذلك لكونها خارج أي رقابة قانونية، ما جعلها تُعمّق الأزمات في القارة، بعد أن تحوّل دورها نسبيًّا من دعم الحكومات في مواجهة الجماعات المسلحة وفرض الأمن والاستقرار السياسي، إلى التورّط في قمع المدنيين.
دخلت فاغنر منعطفًا مفصليًّا مع صيف 2023، بعد إعلان هذا التمرد الذي تطوّر إلى مواجهة مفتوحة مع الرئيس فلاديمير بوتين، هذه الحادثة لم تُنهِ مسيرة فاغنر، بل أعادت تشكيلها، وجعلتها أقرب إلى هياكل الدولة الروسية
ساهم ذلك بدوره في خلق واقع على الأرض أفرز صورة مغايرة تمامًا، تقاطعت فيها المصالح الجيوسياسية مع الانتهاكات الحقوقية، لتُعيد تشكيل المشهد الأمني في القارة بلغة القوة والترهيب. وراحت تلعب دورًا تراوح بين عقود الحماية ومقايضات النفوذ، مستغلّة هشاشة الأنظمة السياسية الأفريقية، وعزلتها الدولية، لإبرام عقود غير شفّافة مقابل خدمات أمنية، تشمل تدريب الجيوش، وحماية كبار المسؤولين، وتأمين المنشآت الاستراتيجية. في المقابل، تحصل المجموعة على امتيازات اقتصادية ضخمة، تشمل التنقيب عن الذهب والماس والموارد الطبيعية، ما يجعل العلاقة أشبه بمقايضة غير متكافئة بين الأمن والسيادة، وتحركاتها داخل تلك الدول تحظى بحصانة واسعة، تغيّب عنها أي آلية محاسبة قانونية.
مثّل تمرد يفغيني بريغوجين نقطة تحوّل في مسيرة فاغنر، حيث دخل في مواجهة مباشرة مع الحكومة الروسية بقيادة بوتين، انتهت سريعًا بوفاته في حادث طائرة غامض. وذلك بعد أن قاد تمردًا عسكريًّا ضد وزارة الدفاع الروسية، متّهمًا إياها بالفساد وسوء إدارة الحرب في أوكرانيا. تقدّمت قواته نحو موسكو قبل أن يتراجع فجأة بعد وساطة رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، ورغم عدم معاقبته فورًا، اعتُبر مقتله لاحقًا تصفية مؤجلة لتمرده، ورسالة صارمة من الكرملين.
تكشف التحولات التي شهدتها العلاقة بين فاغنر والسلطة الروسية بقيادة بوتين، أن الكرملين استخدم فاغنر لتوسيع النفوذ الروسي دون التورّط المباشر في الصراعات الرسمية. ما جعل تحوّلات فاغنر واحدة من أبرز الظواهر العسكرية والسياسية التي كشفت عن أنماط جديدة من الحرب الهجينة، واستخدام القوة خارج القنوات الرسمية للدولة.
دخلت فاغنر منعطفًا مفصليًّا في صيف 2023، بعد إعلان هذا التمرد الذي تطوّر إلى مواجهة مفتوحة مع الرئيس فلاديمير بوتين. هذه الحادثة لم تُنهِ مسيرة فاغنر، بل أعادت تشكيلها، وجعلتها أقرب إلى هياكل الدولة الروسية، حيث جرى احتواؤها تدريجيًّا، وتوجيهها لتصبح أداة أكثر انضباطًا في يد الكرملين، خاصة في المناطق التي تشكّل امتدادًا لنفوذه غير المباشر، وعلى رأسها القارة الأفريقية.
أعادت روسيا هيكلة عمليات فاغنر في أفريقيا في عام 2023 تحت مسمى "الفيلق الأفريقي" Africa) Corps)، ليصبح جزءًا من وزارة الدفاع الروسية. هذا التحول يهدف إلى دمج أنشطة فاغنر ضمن هيكلية الدولة الروسية، مع الحفاظ على أهدافها الاستراتيجية في القارة، التي تكمن في دعم الأنظمة الحليفة لروسيا في الدول الأفريقية، من خلال تقديم التدريب العسكري، والدعم اللوجستي، وحماية المنشآت الحيوية، والمواقع الاستراتيجية.
تتسم السياسة الروسية في أفريقيا بقدر عال من المرونة، وتستند إلى استغلال الفرص الجيوسياسية الناتجة عن تراجع الحضور الغربي، وضعف المؤسسات المحلية في عدد من الدول الأفريقية. وبينما قد تُحقّق موسكو مكاسب سريعة على المدى القصير، فإن غياب استراتيجية تنموية متكاملة، واعتمادها على أدوات غير رسمية، قد يُقوّض قدرتها على ترسيخ نفوذ مستدام وطويل الأجل في القارة.