الأحد 20 أبريل 2025
لطالما كانت القروض والمساعدات الدولية وسيلة رئيسية لدعم اقتصادات الدول النامية، لكن في القارة الأفريقية، تحوّلت هذه الأدوات إلى سيف ذي حدين، حيث تفرض مؤسسات التمويل الدولية شروطًا مجحفة، تجعل الاستفادة منها أقرب إلى استنزاف الموارد بدلًا من تعزيز التنمية، وبينما تسعى الحكومات الأفريقية للحصول على التمويل لمشاريع البنية التحتية، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، تواجه في المقابل فوائدا مرتفعة، وشروطا تقشفية قاسية، وإملاءات سياسية تعيق سيادتها الاقتصادية، وتستنزف مواردها، وتهدد الاستقرار الداخلي.
نهاية عام 2022، حاول الرئيس الكيني، ويليام روتو، القادم حديثا إلى منصبه، معالجة أزمة الديون الخارجية التي سقطت فيها بلاده، حتى أن أكثر من نصف إيرادات الدولة كان مخصصًا لسداد الديون، لكن تلك المساعي قوبلت برفض شعبي واسع، لأن المشروع الذي كان يطمح لتمريره كان يقضي بزيادة الضرائب، ورفع الدعم عن بعض الفئات. بذلك أضحت أزمة الديون الخارجية أكبر عقبة تواجه الرئيس القادم من قلب الأحياء الكينية الفقيرة، الذي علق عليه الكينيون آمالا كبيرة في إصلاح الأوضاع الاقتصادية.
هذه الحالة ليست في كينيا وحدها، بل تعاني مجموعة كبيرة من الدول الأفريقية من ارتفاع ديونها الخارجية، حيث تشير الأرقام الصادرة عن البنك الدولي إلى ارتفاع إجمالي أرصدة الديون الخارجية لبلدان شمال أفريقيا والشرق الأوسط، من 243.2 مليار دولار عام 2013 إلى 442.7 مليار دولار عام 2023. وبالموازاة ارتفعت مدفوعات الفوائد من 5.4 مليار دولار عام 2013 إلى 7.3 مليار دولار عام 2020. الأمر نفسه حدث في بلدان جنوب الصحراء، حيث تضاعف حجم الدين العام بأكثر من ثلاثة أضعاف منذ عام 2010، ليصل إلى حوالي 1.14 تريليون دولار بنهاية عام 2022، حتى أن البنك الدولي حذر من احتمال تعرض 22 دولة من هذه المنطقة لمخاطر اقتصادية بسبب الديون.
ووفقا لتقرير المؤسسة ذاتها، فإنه خلال الفترة من 2010 إلى 2019، كانت معظم الدول الأفريقية في مأزق، حيث تكافح لسداد ديون متراكمة بقيمة 665 مليار دولار أمريكى. زادت هذه الأرقام بسبب جائحة كوفيد19 والحرب الروسية الأوكرانية، إلى جانب العديد من التحديات الموجودة مسبقا، بما في ذلك الصراع والضغوط الاجتماعية والاقتصادية والصدمات المناخية، وهو ما ساهم في تصاعد مستويات الديون في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء بنحو 180٪، وسط تخوفات من أعباء جديدة سيدفع فاتورتها سكان هذه البلدان التي تتمركز فيها أعلى معدلات للفقر في العالم.
بالرغم من البيانات التي تظهر أن معدلات التخلف عن السداد في أفريقيا أقل من معدلات التخلف عن السداد في المناطق الأخرى، إلا أن الجهات المانحة تفرض على أفريقيا معدلات فائدة أكبر من مثيلاتها من الدول
على الرغم من إطلاق مبادرات دولية لمساعدة هذه البلدان لتجاوز محنة الديون، إلا أنها لم تؤت ثمارها بل ارتفعت معدلات الدين العام والتضخم إلى مستويات غير مسبوقة، وهو ما أدى إلى تآكل القوة الشرائية للأسر واستهداف الفئات الأكثر ضعفا. كما أن ارتفاع أسعار الدولار الأمريكي، زاد من عبء مدفوعات خدمة الديون المقومة بالدولار، وقد تضاعفت مدفوعات الفائدة كحصة من الإيرادات بالنسبة للبلد المتوسط في منطقة جنوب أفريقيا على مدى العقد الماضي.
لم تكن هذه الأزمات وليدة اللحظة بل دُفعت الدول الأفريقية التي تورطت في "فخ الديون" إليها دفعا، إذ يضع المانحون شروطا تعجيزية على هذه الدول لمنحها قروضا جديدة، وذلك بالرغم من التزام غالبية الدول المقترضة بالسداد في المواعيد المحددة لذلك، وهو ما دفع رئيس البنك الأفريقي للتنمية، أكينوومي أديسينا، للمطالبة بضرورة تغيير هذه الطريقة في التعامل مع الأفارقة.
قال أديسينا إن الإمكانات الاقتصادية الهائلة لأفريقيا تتعرض للتقويض بسبب القروض غير الشفافة المدعومة بالموارد، والتي تعقد تسوية الديون، وتضر بالنمو المستقبلي للدول، مؤكدا أنه بالرغم من البيانات التي تظهر أن معدلات التخلف عن السداد في أفريقيا أقل من معدلات التخلف عن السداد في المناطق الأخرى، إلا أن الجهات المانحة تفرض على أفريقيا معدلات فائدة أكبر من مثيلاتها من الدول.
تكاليف الاقتراض المرتفعة تؤدي إلى تخصيص نسبة كبيرة من الإيرادات الحكومية لخدمة الديون، فعلى سبيل المثال، تستهلك مدفوعات الفائدة 26٪ من إيرادات حكومة غانا، مقارنة بـ3٪ في فرنسا، رغم أن مستوى ديون غانا أقل بكثير من فرنسا
بلغة الأرقام يدفع الأفارقة أسعار فائدة أعلى بنحو 2 إلى 4 مرات مقارنةً بالدول المتقدمة، فوفقا لبحث أجراه مايكل أولابيسي، من جامعة ميشيغان الأمريكية، عام 2015 بعنوان إصدارات السندات السيادية: هل تدفع الدول الأفريقية تكلفة أعلى للاقتراض؟ فإن أسعار الفائدة التي يفرضها المستثمرون على أفريقيا مبالغ فيها للغاية.
يلفت إلى أن حكومات دول أفريقيا جنوب الصحراء تضطر لدفع ما يقرب من 300 مليون دولار من الفوائد سنويًا، وهي فوائد غير مستحقة، إذ أنها تقدم تحت بند زيادة المخاطر، وتبررها التقارير الدولية التي تصنف هذه الدول بشكل منخفض، وهو ما قد يحمل الخزانة الأفريقية خسائر قد تصل إلى 2.2 مليار دولار.
خلافا للادعاءات الدولية، سواء على مستوى المنظمات الاقتصادية أو الدول الكبرى، بمساعدة الدول الإفريقية، تشير الحقائق إلى غير ذلك، فبالرغم من أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في أفريقيا أقل مقارنة بدول مجموعة السبع، لكن تكاليف الاقتراض المرتفعة تؤدي إلى تخصيص نسبة كبيرة من الإيرادات الحكومية لخدمة الديون، فعلى سبيل المثال، تستهلك مدفوعات الفائدة 26٪ من إيرادات حكومة غانا، مقارنة بـ3٪ في فرنسا، رغم أن مستوى ديون غانا أقل بكثير من فرنسا.
ليس هذا فحسب بل إن التقارير تشير إلى تغيرات كبيرة في تركيبة الديون الأفريقية، إذ كانت غالبية هذه الديون في السابق مستحقة لمؤسسات تمويل دولية متعددة الأطراف، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إلا أنها حاليا باتت نسبة كبيرة منها مستحقة للقطاع الخاص، والذي يستحوذ على نسبة تزيد عن 43٪ من إجمالي الديون الخارجية للقارة، بينما تُشكِّل الديون الثنائية 23٪، والديون متعددة الأطراف 34٪.
من بين هذه الجهات نادي باريس، الذي يفرض شروطا مجحفة على الأفارقة، تليه المؤسسات الصينية، حيث تأتي بكين كأكبر دائن ثنائي لأفريقيا، إذ تمتلك مؤسساتها العامة حوالي 62 مليار دولار من الديون الخارجية الأفريقية عام 2023، بينما يمتلك مقرضوها من القطاع الخاص نحو 23 مليار دولار، وهو ما يجعل الموارد الأفريقية معرضة للاستنزاف.
تسببت هذه الحالة التي تجمعت فيها التحديات الاقتصادية العالمية مع الواقع الأفريقي الأكثر قتامة، في تآكل الموارد الأفريقية، واستنزاف جزء كبير من مصادر الحكومات الأفريقية في سداد خدمات الديون، بدلا من توجيهها إلى قطاعات خدمية مثل: الصحة والتعليم، أو مشروعات البنى التحتية، إذ تشير بيانات بنك التنمية الأفريقي، إلى أن الدول الأفريقية كان يجب أن تدفع 74 مليار دولار أمريكي، كمدفوعات خدمة ديون عام 2024، وهي زيادة مضاعفة عن الرقم الذي دفعته هذه الدول في 2010، والذي لم يتجاوز 17 مليار دولار وقتها.
يظهر استنزاف الموارد الأفريقية بسبب الديون بشكل فج في الحالة الصينية تحديدا، وفقا لما ذكرته دراسة للباحثة جيهان عبد السلام عباس، التي تشير إلى أن الصين مثلت لاعباً رئيسياً في أفريقيا من حيث الإقراض، حيث تلقت 47 دولة أفريقية قروضًا من بكين، خلال السنوات الماضية، محذرة من أن هذه الديون تأتي ضمن استراتيجية صينية للسيطرة على الأصول الأفريقية.
يلفت إلى أن حكومات دول أفريقيا جنوب الصحراء تضطر لدفع ما يقرب من 300 مليون دولار من الفوائد سنويًا، وهي فوائد غير مستحقة، إذ أنها تقدم تحت بند زيادة المخاطر، وتبررها التقارير الدولية التي تصنف هذه الدول بشكل منخفض
تعطي أمثلة عن ذلك من قبيل الاستيلاء على السكك الحديدية الإثيوبية (من أديس أبابا إلى جيبوتي) في عام 2018، وهو ما تكرر في ميناء مومباسا الكيني الذي رهنته السلطات للصين بسبب قروضها المتراكمة لدى بكين، وسط اتهامات للصين بالسعي للسيطرة على الأصول الأفريقية في أكثر من موقع.
الأمر الأكثر خطورة أن فوائد الديون الأفريقية باتت تشكل جزءًا رئيسيًا من الأسباب التي تكرس هشاشة الاقتصاد الأفريقية، ففي الوقت التي تشكل هذه الأعباء أحد أبرز أسباب العجز عن تحقيق الاستقرار، يضاف إليها سوء إدارة الديون وضعف الحوكمة وانعدام الشفافية، وهو ما يزيد من حجم المأساة التي تعانيها بلدان القارة.
تتلاقى هذه الرؤى مع التحذيرات التي قدمتها دراسة لمجموعة من الباحثين نشرتها المجلة العلمية الأفريقية، والتي حذرت من وجود دلائل على أن الصين ربما سعت في بعض الحالات إلى النفوذ الجيوستراتيجي مقابل تقديم الخدمات المالية، مستدلة بتصاعد الوجود العسكري الصيني في القارة، لاسيما في جيبوتي وغينيا الاستوائية.
أمام هذه التحديات المتصاعدة تسببت الإجراءات المترتبة على أزمات الديون الأفريقية في تفجر الأوضاع في عدد من الدول الأفريقية، حيث شهدت دول مثل: غانا وكينيا احتجاجات عنيفة ضد زيادات الضرائب ورفع الدعم، والتي جاءت ضمن إجراءات التقشف الحكومية المفروضة للتخلص من أعباء الديون. كما شهدت مناطق غرب القارة 577 احتجاجًا عام 2020 وحده، بسبب سوء الأوضاع، وهو ما يعكس التوترات الاجتماعية الناتجة عن هذه السياسات.