الخميس 15 مايو 2025
تزامنا مع احتفالات عيد الفصح الأرثوذكسي، وبالتحديد في أبريل/ نيسان 2022، في كنيسة القيامة بالقدس -أقدس موقع مسيحي- على وجه الأرض، حيث تدعي الرواية المسيحية كونه موضع صلب ورفع السيد المسيح عليه الصلاة والسلام، وقف الرهبان المصريون والإثيوبيون وجها لوجه، في حلقة جديدة من تنافس مُمتد لقرون حول ملكية دير السلطان الموجود داخل أسوار البلدة القديمة لمدينة القدس المحتلة.
ففي ليلة أحد الشعانين، ووسط توافد المسيحيين الأرثوذكس على القدس لزيارة أقدس موقع في ديانتهم، خيّم القلقٌ الدنيويٌّ على الحضور، بعدما جرت مواجهة مصرية-إثيوبية، انطلقت برفع الرهبان الأرثوذكس الإثيوبيون علم بلادهم على كنيسة دير السلطان الموجودة أعلى سطح كنيسة دير القيامة، ليرد الرهبان الأقباط المصريون برسم علم بلادهم على جدار مدخل الدير، تعبيرا واقعيا لتحول موقع الدير المقدس، لساحةً مشاجراتٍ وتنافس عقاري يحدث سنويًا تقريبًا، بل ويتفاقم أحيانًا إلى عنف.
قبل الانخراط في سرد تاريخ الصراع المصري-الإثيوبي حول دير السلطان، ورواية الطرفين بشأن أحقية ملكيته، نلقي نظرة سريعة على تفاصيل الدير، فبحسب «دليل أهم معالم القدس المحتلة» تبلغ مساحته نحو 1800 متر، ويقع في قلب الحي المسيحي المُسمَّى بـ «حارة النصارى»، على بُعد عشرات الأمتار من المسجد الأقصى، ملاصقا العديد من المباني الكنسية التاريخية المهمة في القدس، وفي مقدمتها كنيسة القيامة، التي تعتبر واحدة من أقدس الكنائس المسيحية، وتحتوي على القبر المقدس، المكان الذي يزعم أن يسوع دُفن فيه، وفق المعتقد المسيحي، كما أنه المدخل الوحيد للحجاج الأقباط إلى كنيسة القيامة.
إن دير السلطان ظهر لأول مرة في السجلات التاريخية في القرن السابع، دون أي ذكر لمن ينتمي الموقع، موضحا أن المؤرخين لم يعثروا على وثائق تثبت رأي أيٍّ من الطائفتين بأحقية ملكيته
الدير الذي يعود تاريخه للقرن السابع الميلادي، واحتله الرهبان اللاتين بعد استيلاء الصليبيين على القدس، قبل أن يستعيده صلاح الدين الأيوبي، ويهديه للأقباط الأرثوذكس بعد تحرير بيت المقدس، ليُعرف منذ حينها باسم دير السلطان، يتصل من الغرب بمباني كنيسة القيامة، ومن الشمال بدير «مار أنطونيوس»، ويتكوَّن من عدة مبانٍ متناثرة، يحيط بها سور يصل ارتفاعه إلى 4.5 أمتار، ويٌضم ثلاثة أبواب أحدها للأقباط فقط.
يقع الدير المتنازع عليه في أحد أقل أجزاء مجمع كنيسة القيامة شهرة، والذي تتقاسم السيطرة عليه 6 طوائف مسيحية، حيث يمكن الوصول إليه عبر درج ضيق وكئيب، وفي أعلى الدرج، تقع كنيسة صغيرة حيث يمارس الإثيوبيون حاليا عباداتهم يوميًا. بالإضافة إلى فناء صغير جدرانه مبطنة بأبواب خشبية خضراء، يعيش داخله حوالي 20 راهبًا وراهبة إثيوبيًا في عدة غرف صغيرة.
بحسب المؤرخ الفرنسي ستيفان أنسيل الذي يوثق تاريخ الجالية الإثيوبية في القدس، فإن دير السلطان ظهر لأول مرة في السجلات التاريخية في القرن السابع، دون أي ذكر لمن ينتمي الموقع، موضحا أن المؤرخين لم يعثروا على وثائق تثبت رأي أيٍّ من الطائفتين بأحقية ملكيته؛ حيث كانت الجالية الإثيوبية في القدس كبيرة ومزدهرة، قبل أن تبدأ في التضاؤل مع النصف الثاني من القرن السابع عشر، بِفعل المرض والفقر اللذان أديا لفقدانهم معظم ممتلكاتهم، وامتيازاتهم في الأرض المقدسة.
يشير أنسيل إلى أن الرهبان الإثيوبيون القلائل المتبقون لجأوا لممتلكات الكنيسة القبطية المصرية، والتي استضافتهم في غرف صغيرة على شرفة دير السلطان، وظل الإثيوبيون هناك منذ ذلك الحين، حيث كانت الطائفتان على وفاق في البداية، قبل أن يدرك المصريون أن الإثيوبيين لم يعودوا ضيوفًا مؤقتين، وتبدأ التوترات في التصاعد تدريجيًا بين الطائفتين، لتشتعل بحلول القرن التاسع عشر.
قدسية الدين التي تحولت لصراع سياسي بمرور الوقت تسردها الرواية المصرية، بالإشارة إلى أن بداية أزمة ملكية الدير بين الأقباط والأحباش تعود إلى القرن السابع عشر، حينما حلَّ الأحباش ضيوفا على دير السلطان في بعض غرف الدير بصفة مؤقتة، بعدما فقدت الكنيسة الإثيوبية أديرتها عام 1654؛ في ظل عدم القدرة على دفع الضرائب المستحقة لكنيستَيْ الروم والأرمن حينها.
بينما تؤكِّد الكنيسة المصرية امتلاكها نحو 23 وثيقة لإثبات ملكيتها للدير منذ عام 1680، فإنها تشير إلى أن تاريخ دير السلطان يعود إلى عهد عبد الملك بن مروان، خامس خلفاء بني أمية، حيث وهبه للأقباط، قبل أن يُعيده صلاح الدين الأيوبي للأقباط مرة أخرى، بعد أن استولى عليه الصليبيُّون إبَّان هجماتهم على المشرق في القرن الثاني عشر الميلادي.
أقدم الأحباش للمرة الأولى على خطف مفتاح الدير والكنيسة الملحقة به، الأمر الذي استدعى تحركا عاجلا من الكنيسة المصرية، خَلص لإرسال محافظ القدس خطابا إلى الأحباش يؤكِّد فيه أن أعمالهم لن يُعتَدَّ بها مستقبلا قرينة لإثبات حقهم
كانت لأستاذ التاريخ في جامعة أسيوط المصرية، أنتوني سوريال عبد، دراسة وثائقية للصراع التاريخي بين الأقباط والإثيوبيين على الدير، مشيرا إلى أن الأزمة التاريخية بين الكنيستين بدأت عام 1820، بعد نحو قرنين من مكوث الأحباش ضيوفا على الكنيسة القبطية، وذلك حينما قررت الكنيسة القيام بأعمال ترميم؛ مما استدعى إخلاء الدير من كافة قاطنيه، الأمر الذي أثار خوف الرهبان الإثيوبيين من أن يخرجوا من الدير ولا يعودوا إليه مرة أخرى، ومن هنا جاءت شرارة الصدام بين الطرفين.
الصراع الكنسي التاريخي حول ملكية دير السلطان، اتضح بشكل جَلي في عام 1850، حينما أقدم الأحباش للمرة الأولى على خطف مفتاح الدير والكنيسة الملحقة به، الأمر الذي استدعى تحركا عاجلا من الكنيسة المصرية، خَلص لإرسال محافظ القدس خطابا إلى الأحباش يؤكِّد فيه أن أعمالهم لن يُعتَدَّ بها مستقبلا قرينة لإثبات حقهم في دير السلطان.
كذلك أصدرت الدولة العثمانية صاحبة السيادة على هذه الأراضي في تلك الحقبة، حُجَّة رسمية أيَّدت ملكية الأقباط للدير، بالإضافة إلى منحهم حق الاحتفاظ بالمفتاح الخاص به، خاصة بعد محاولة الرهبان الإثيوبيين الاستيلاء على الدير مرة أخرى في 1863.
يعود المرسوم العثماني المعروف باسم «الوضع الراهن» إلى القرن التاسع عشر، والذي لا يزال ساريًا حتى اليوم. ينص على عدم إجراء أي تغيير في كنيسة القيامة ومحيطها، مهما كان بسيطًا، ما سَمح للكنيسة الإثيوبية بالبقاء في دير السلطان، حيث استمرت كلتا الطائفتين في استخدام الموقع على مدى السنوات 250 الماضية.
من الناحية الأخرى، يسيطر الإثيوبيين حاليا على الدير، مع تواجد لراهب مصري فقط في غرفة وحيدة، تعود علاقتهم بالكنيسة المصرية للنصف الأول من القرن الرابع الميلاد، وهو تاريخ دخول المسيحية لإثيوبيا عندما تمكن أحد المصريين، ويدعى «فرومينتوس» من نشر الدين المسيحي بين رجال البلاط الأكسومي، قبل أن يطلب من البطريرك القبطي عند عودته لمصر، أن يرسمه مطرانًا على إثيوبيا، وأصبح بهذا أول مطران للكنيسة الإثيوبية عينته الكنيسة المصرية، بحسب الكاتب الصحافي سليمان شفيق.
على الرغم من الارتباط التاريخي بين كنيستي مصر وإثيوبيا، اللتان تعدان من أهم وأقدم الكنائس على مستوى العالم، وتوحد رهبان الدير تحت مظلة الكنيسة الأرثوذوكسية الشرقية القديمة، إلا أن هناك رواية مغايرة يتبناها الرهبان الأحباش فيما يتعلق بملكية دير السلطان.
يقول الإثيوبيون إن الكنيسة المصرية بدأت في مضايقة الأحباش منذ القرن الثامن عشر، بهدف الاستيلاء على دير السلطان، مع استغلال فرصة الفقر الذي شهدته إثيوبيا، وانقطاع الدعم المالي للرهبان، ليُجبر الأقباط كاهن الدير الإثيوبي في القدس على تسليم المفاتيح لهم.
حينما ضرب الطاعون جميع قاطني الدير عدا اثنين، عام 1838، أحرق الأقباط والأرمن مكتبة الدير، لتُفقد جميع الوثائق والمخطوطات القيمة التي تُثبت أحقية الكنيسة الإثيوبية في الدير الوحيد لها، إلا أن هذه الرواية لم تستند إلى أية أدلة أو مواثيق حتى اليوم.
بين الرواية المصرية والإثيوبية، جاء سقوط الدولة العثمانية، ووقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني مطلع القرن العشرين، ليفتح الباب أمام تحول جذري في صراع ملكية دير السلطان، حيث تواصل الرهبان الأحباش مع القنصل والأسقف الإنجليزيَّين للمطالبة بأحقيتهم في الدير. تزايدت المطالب مع إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، والفترة التي تلتها من ذروة الصدام بين مصر وإسرائيل، لتقدم الأخيرة في 25 أبريل/نيسان 1970، وبينما كان الكهنة الأقباط في قداس عيد الفصح في كنيسة القيامة، على تغيير أقفال دير السلطان، مما مكن الإثيوبيين من السيطرة على الكنيسة بشكل دائم، وحتى يومنا هذا.
الكنيسة القبطية لم تصمت، وحَركت دعوى قضائية أمام المحكمة العليا الإسرائيلية عام 1971، مطالبة بإعادة تمكينها من الدير، مع تقديم الوثائق الرسمية التي تُثبت ملكيتها، في الوقت الذي لم يُقدِّم الأحباش الوثائق التي تُثبت ملكيتهم للدير مُحتجّين بفقدانهم لها، قبل أن تقضي أعلى سلطة قضائية في إسرائيل بمنح الكنيسة القبطية حق استلام الدير بمشتملاته كاملة، إلا أن الحكومة الإسرائيلية رفضت التنفيذ، مُعتبِرة أن القضية لها أبعاد سياسية.
الصراع الكنسي المصري-الإثيوبي حول دير السلطان بالقدس، والبعيد عن أرض القارة السمراء وملفات التجاذب والتنافس الإقليمي بين البلدين، وفي مقدمتها أزمة سد النهضة الذي تُشيده أديس أبابا على النيل الأزرق، ويشهد خلافات جوهرية مع دولتي المصب (مصر والسودان) حول التوصل لاتفاق قانوني مُلزم لقواعد التشغيل والملء، لم يكن أبدا صراعا مؤقتا، حيث يتجدد من آن لأخر، ويأخذ أبعادا وطنية على الرغم من قُدسية المكان.
شهدت السنوات الأخيرة تزايد الصدامات بين الأقباط والأحباش، ففي احتفالات عيد القيامة 2021، نَصب رهبان إثيوبيون خيمة كبيرة عليها علم بلادهم داخل ساحة دير السلطان؛ ما أثار غضب الرهبان المصريين الذين تجمَّعوا لإزالة الخيمة والعَلَم في حضور الشرطة الإسرائيلية، والتي لم تُحرِّك ساكنا.
لم تصل أزمة الخيمة للتشابك، لكن اعتداءات من القوات الإسرائيلية وقعت عام 2018 على الرهبان الأقباط خلال وقفة احتجاجية نظموها؛ تنديداً ببدء أعمال الترميم في كنيسة دير السلطان، دون موافقة الكنيسة القبطية، مع اعتقال عدد من الرهبان المصريين قبل أن تفرج عنهم وسط استنكار من القاهرة، والتي رأت في الترميم تماشيا مع ادعاءات ومصالح الإثيوبيين.
الصراع الكنسي المصري-الإثيوبي حول دير السلطان بالقدس، والبعيد عن أرض القارة السمراء وملفات التجاذب والتنافس الإقليمي بين البلدين، لم يكن أبدا صراعا مؤقتا، حيث يتجدد من آن لأخر، ويأخذ أبعادا وطنية على الرغم من قُدسية المكان
تعكس الوقائع المتواثرة مدى شدة الصراع بين الإثيوبيين والمصريين حول الدير الصغير، والذي يمكن وصفه بـ «النشط والساخن»، فقد يشتعل بسبب شيء صغير على غرار ما وقع عام 2002، حيث وقعت اشتباكات بالأيدي بين الطرفين، نُقل على إثرها عدد من الرهبان إلى المستشفى؛ وذلك بعدما أقدم راهب مصري على نقل كرسيه إلى ظل شجرة قريبة من أماكن تواجد الإثيوبيين، قبل أن تقع الاشتباكات.
تستحوذ الكنيسة الإثيوبية اليوم على ملكية الدير بالكامل، باستثناء غرفة لرئيس الدير القبطي، ومفاتيح البوابة الشمالية الغربية، في الوقت الذي لا يزال التوتر قائمًا بين الكهنة الأقباط المصريين والرهبان الإثيوبيين، في وقت يبدو أن أزمة ملكية دير السلطان ستظل عالقة، خاصة وأنها تأتي في سياق تأزم ملف سد النهضة، الذي زاد مسافات التباعد التاريخي بين الكنيستين المصرية والإثيوبية في السنوات الأخيرة، وفاقم حدة الصراع واللهجة المتبادلة بين القاهرة وأديس أبابا.
ومع بقاء ملف ملكية دير السلطان دون حَل نهائي، يواصل الإثيوبيون الإقامة والتعبد بالدير، فيما يكتفي المصريون بحجرة وحيدة ووثائق ملكية تاريخية، مع سيطرة أمنية إسرائيلية.